ابن تيمية والمنطق الحجاجي قراءة في كتاب: “الخطاب الحجاجي عند ابن تيمية: مقاربة تداولية”
ابن تيمية والمنطق الحجاجي قراءة في كتاب:
“الخطاب الحجاجي عند ابن تيمية: مقاربة تداولية”
صدر الكتاب عن دار الانتشار العربي، عسير، أبها، بالمملكة العربية السعودية في طبعته الأولى سنة 2013م، وقد استهلَّه الكاتب بشكر عدد من كبار المهتمين بحقل المنطق الحجاجي والتداوليات والدراسات التيمية، وعلى رأسهم: طه عبدالرحمن، وحمو النقاري وأحمد المتوكل، وأبو بكر العزاوي،وحسان الباهي (المغرب)، وأبو يعرب المرزوقي (تونس) ونعمان بوقرة (الجزائر)، وشكري المبخوت (تونس)، والترحم على الدكتور عبدالله صولة رحمه الله تعالى (تونس) الذين كان لهم الفضل في بذر الاهتمام بالدراسات الحجاجية في الجامعات العربية، وفي توسيع الاهتمام بها واتخاذ المنطق الحجاجي بجميع أنواعه منهجًا لتجديد النظر في التراث وعلومه، وفي دراسة آليات منطق اشتغال الخطاب الطبيعي، كما كان لهم الفضل في إنضاج أفكار الكاتب وإخراج الكتاب في حُلَّة علمية رصينة؛ مما يضع الكتاب ضمن الدراسات المنطقية والحجاجية للتراث التيمي بعيدًا عن ضجيج الخلافات المذهبية الفقهية والعقدية والسياسية التي شوَّشت الرؤية المتوازنة لتراث هذا العَلَم.
أولًا- جوانب من أهمية الكتاب:
هكذا يظهر أن الكتاب يكتسي أهمية كبيرة من جوانب عدة في تقديري:
أولها: أنه توظيف عميق للنظريات الحجاجية وتأصيل لها في التراث الإسلامي من خلال الجهود الكبيرة والعملاقة التي انتهت مع ابن تيمية في صورة نسقية أخذت باهتمام المناطقة الجُدُد في الغرب وخاصة المنطق الحجاجي وتقديرهم، وكما وجه النظرَ إليه عددٌ من المناطقة الحجاجيين العرب، وعلى رأسهم الدكتور طه عبدالرحمن وحمو النقاري وغيرهما.
ثانيها: أنه إبراز لجهود ابن تيمية في المجال المنطقي والحجاجي والتداولي وإبراز فرادته العلمية والمنهجية التصورية والتطبيقية في التعامل مع الاختلاف، ذلك الرجل الذي عاش الاختلاف وحاور المخالفين، وكان ضحية التعصب المذهبي والفكري في زمانه وما بعد زمانه، فأمعن في مناوأته كثيرٌ من المخالفين، وتخلَّى عنه كثير من الموالفين؛ ولذلك بقيت الدراسات الحجاجية وحدها القادرة على الحديث عن جهوده المنطقية والحجاجية من غير حُجب التعصب المذهبي ولا سُحب التحزُّب السياسي.
ثالثها: أن الكتاب قام بتحليل جهود ابن تيمية حجاجيًّا وتداوليًّا محققًا إضافة نوعية إلى الدراسات المنطقية التراثية عامة والتراث التيمي خاصة.
ثانيًا- من أطروحات الكتاب:
• إن الاختلاف ظاهرة طبيعية في عالم البشر والخطاب الحجاجي ممارسة عملية تؤدي إلى حل الاختلافات وتشكل بديلًا عن العنف؛ (ص 39).
• إن ابن تيمية ذو طبيعة حجاجية في تكوينه الخَلْقي وفي بيئته، وفي مكتسباته المعرفية واللغوية، وفي قدراته الإدراكية، وتفاعله الاجتماعي المكتنز بالأحداث الجسام والاختلافات المذهبية، وفي تكوينه العلمي والعملي تأليفًا وتدريسًا، جهادًا واجتهادًا، جدالًا للمخالفين وحجاجًا.
• إن ابن تيمية مارس الحجاج وَفْقَ شروطه من الكفاءة الحجاجية والوعي بالاستراتيجية الخطابية والتواصلية مع المختلفين ضمن المجال التداولي المؤطَّر بالزمان والمكان والثقافة.
• إن ابن تيمية تفرَّد بامتلاك قدرات خاصة في تقويم أقوال غيره وإعمال النظر فيها، وقدرة متميزة على فقه الخطابات وسياقاتها ومقاصدها سواء أكانت خطابات داخل مجال التداول الإسلامي (مذاهب المتكلمين والمُفسِّرين والمُحدِّثين والفقهاء واللغويين والفلاسفة والمتصوفة..) أو الديني المخالف (يهودية ومسيحية ومعتقدات أخرى) أو الفلسفي (الفلسفة اليونانية وغيرها).
أن الخطاب الحجاجي عند ابن تيمية له أصول نظرية ترجع إلى:
• إدراكه الاختلاف بين المنطق الصوري والمنطق الطبيعي.
• وإدراكه لأصل الفساد في قول المناطقة وهو القول بالكلي لإفضائه إلى مخالفات عقدية إسلامية.
• والعمل بالمنوال الحجاجي الكلامي باعتباره المنوال الأصيل المناسب لمجال التداول اللغوي والشرعي.
• رفض مفهوم العقل عند الفلاسفة والمناطقة باعتباره جوهرًا قائمًا بذاته، لما يفضي إليه من القول بالتشبيه، وأن الله مجرد فكرة كلية أو القول بالاتحاد والحلول.
• رفض حصرهم طريق إدراك التصورات في الحد فقط، ورفض حصرهم طريق العلم بالتصديقات في القياس وصورة تأليفه من مقدمتين، والحد الأوسط الجامع بينهما، وهو طريق راجع للقول بمفهوم الكلي أيضًا.
• رد ما ترتب عن الحصر السابق من مفاسد منها: إعمال التفكير الافتراضي الصوري، وإهمال المجال التداولي، وتجاهل اختلاف الناس، والزعم بوحدة الحقيقة، وفساد التعبير، وعسر العبارة، والخلط والتشويش، والحشو والتطويل.
♦ تعويض ابن تيمية لمفهوم العقل الفلسفي وللقول بالكلي بالقول بالمعين والجزئي، وتعويض حصر المعرفة في التصورات بالحد وفي التصديقات بالقياس بالقول بإجراء نظره على مراعاة اعتبارات ثلاثة: الاعتبار الشرعي، واللغوي، والاعتبار الإنساني، لكونها اعتبارات مؤسسة على احترام خصوصية المجال التداولي الشرعي الإسلامي واللغوي العربي والإنساني (مراعاة سياق التخاطب ومقاماته وحاجات المخاطبين).
♦ أن ثمرة التأصيل السابق أفضى بابن تيمية إلى تأسيس مشروع يدعو إلى إصلاح المنطق اليوناني الصوري وتعويضه بالمنطق الحجاجي المناسب للمجال التداولي الشرعي الإسلامي واللغوي على مقتضى اللسان العربي.
♦ أن الخطاب الحجاجي تتركب بنيته من مادتين اثنتين رئيستين هما: الدعوى والحجة؛ فلا يمكن أن يوصف خطاب بأنه حجاجي ما لم يُبْنَ بهاتين المادتين بوصفهما بنيتين حجاجيتين، وهذا لن يتم إلا بتفاعل خارجي وتفاعل داخلي، فالتفاعل الخارجي هو تفاعل بين طرفي الخطاب، أما التفاعل الداخلي فهو تفاعل بين هاتين البنيتين؛ (ص 255).
♦ الدعوى قضية تشتمل على الحكم المقصود إثباته بالدليل أو إظهاره بالتنبيه، والقاصد والمتصدي لذلك (أي: لإثبات الحكم أو إظهاره) يسمى مدعيًا، وأن الدعاوى أصنافٌ متراتبةٌ وأنواعٌ متفاوتةٌ، ومتباينة في البيان.
♦ والحجة اسم لكل ما يُحتَجُّ به من حقٍّ وباطل، وهي عمل ينجز باستعمال الوسائل اللغوية ضمن مجموعة متعاونة، وتتميز بطابعها التركيبي، وظيفتها تركيب الخطاب وتناميه وتقدُّمه وتحقيق التفاعل بين المختلفين المتحاججين وفق شروط يجب مراعاتها في إعمال الحجج.
♦ الفعل الحجاجي فعل قصدي ومعرفي ومنهجي، فلا حجاج بدون قصد وإلا أصبح لغوًا من الكلام، ولا حجاج دون خلفية معرفية وإلا أصبح الكلام هذرًا، ولا حجاج دون منهج وإلا أصبح الكلام خبطًا وفوضى، وهي عناصر توفرت في الحجاج التيمي لمخالفيه؛ (ص 273).
♦ الخطاب الحجاجي مؤهل بطبيعته لتوسيع نظرية الأفعال الكلامية وإغنائها بوصفه فعلًا كلاميًّا ممارسًا وإن كان فعلًا مركبًا.
♦ تجسَّدت ممارسة ابن تيمية الحجاجية حول المنطق في فعلين مركبين يجسدان حركية الفعل الحجاجي هما: فعل الاعتراض، وفعل العرض؛ (ص 291)، ففعل الاعتراض غرضه التوجه إلى دحض المنطق بوصفه مركز ثقل طوائف عديدة، بل عمدة الاختلاف معهم، أما فعل العرض فتوخَّى منه ابن تيمية عرض دعاواه وإثباتها بالحجج الملائمة في فعل كلامي نسميه فعل الإثبات.. بغية تأسيس منوال بديل للخطاب الحجاجي؛ (ص 299)؛ أي: إن خطاب ابن تيمية الحجاجي سوف يفضي إلى نتيجة مركبة من: نقدٍ للمنطق الأصيل، وتأسيسٍ للمنطق البديل؛ (ص 315).
ثالثًا: فصول الكتاب ومباحثه:
جاء الكتاب في خمسة فصول مع مقدمة وتمهيد وخاتمة.
الفصل الأول: تكوين ابن تيمية الحجاجي.
الفصل الثاني: الأصول النظرية.
الفصل الثالث: بناء الخطاب الحجاجي.
الفصل الرابع: ترتيب الخطاب الحجاجي.
الفصل الخامس: المنوال البديل.
ثم انتهى إلى خاتمة ضمنها خلاصات وتوصيات.
فالخلاصات جعلها من نوعين: نوعٍ خاصٍّ بمشروع ابن تيمية الحجاجي، ونوعٍ عامٍّ يتعلق بوجوه عدة منها:
♦ بيان دور الحجاج في حل الخلافات، والتأسيس للنقد العلمي وتكوين المعرفة وتطورها وإغنائها.
♦ إمكانية الاستفادة من النظريات الحجاجية والتداولية والتواصلية ونظرية أفعال الكلام والاستفادة من المناهج اللسانية وغير اللسانية في إعادة قراءة علوم التراث الإسلامي ومشروعات رجاله وأعلامه.
أما التوصيات فرامَ الباحث فيها الدعوة إلى توسيع البحث في التراث التيمي وإعادة قراءة مدونته في ضوء ما صحَّ وصلح من المناهج والنظريات، وتوسيع دائرة الاشتغال بالدراسات الحجاجية والتداولية وتوظيفها في قراءة أعمال بعض العلماء المسلمين في أي حقل علمي.
رابعًا ملحوظات ختامية:
♦ يمكن عَدُّ كتاب “الخطاب الحجاجي عند ابن تيمية: مقاربة تداولية” من الدراسات العميقة في مشروع ابن تيمية المنطقي الذي يمثل روح مشروعه العقدي والأصولي والفقهي واللغوي لكون المؤلف استعان بالمنهج الحجاجي والتداولي ونظرياتهما ذات البعد المنطقي العملي الذي يقوم على التحليل الداخلي للقول وسياقه التخاطُبي.
♦ اعتماد المناهج الحجاجية والتداولية مكنت من دراسة المشروع التيمي دراسة منطقية بعيدًا عن القراءة الإيديولوجية التي غالبًا ما أدَّت إلى مزالق عديدة.
♦ إن أهم ما ميَّز القراءة المنطقية للتراث الإسلامي ولمشروعات أعلامه الكبار أنها تمكَّنت من التجرُّد من غوائل الإيديولوجية وحوائل المذهبية، فأبرزت القيمة العلمية والمنطقية لكثير من العلوم التي طمَسَها التحليل الإيديولوجي، وأظهرت القيمة العلمية لمشروعات عدد من العلماء التي طالما حجبها التحيُّز المذهبي وشوَّهَها التعصُّب الفكري والسياسي.
♦ كما أن أهمية الكتاب ترجع في نظري المتواضع إلى قدرة المؤلف على توظيف كثير من النظريات والمناهج توظيفًا إجرائيًّا، وقدرته على نحت مصطلحات ومفاهيم خاصة به جمعت بين دقة المعنى وإقناعه وجمال المبنى وإمتاعه، هذا إلى جانب تميُّزه بالاستقلال الفكري والقدرة على التحليل والاستنباط، والتحرُّر من كثير من المقولات التي هيمنت على البحث التراثي الإسلامي؛ مما يجعل الكتاب بمنهجه وأدواته التحليلية وطريقته البنائية والنمائية صالحًا لاستلهام روحه ومقاصده في تجويد البحث الجامعي.
والله أعلم وأحكم.