كيف دافعت الإجابة عن صورة الصحابة؟
كيف دافع كتاب “الإجابة عن صورة الصحابة؟
بقلم يحيى خوخة باحث في البلاغة الجديدة وتحليل الخطاب
تشكل صورة الصحابة محل خلاف ونزاع في تاريخ الفكر الإسلامي منذ تشكله إلى يوم الناس هذا؛ نظرًا للوظائف العلمية والعقدية والطائفية الحاسمة التي تضطلع بها تلكم الصورة في الساحة الفكرية الإسلامية؛ فطائفة تنزل الصحابة الكرام منزلة التنزيه؛ لكونهم الثمار المباشرة لتربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاملي رسالته وسنته، فهم – حسب هذه الفرقة-عدول خيار، وأنهم من أهل الجنان جميعًا، وطائفة أخرى تصوغ هذه الصورة صياغة شك، محاولة إظهار ما يعتري الصحابة من نقائص وزلات وهنات تُخرجهم من دائرة العدول إلى دائرة الاتهام، سالبة منهم بذلك مشروعية حملهم الرسالة النبوية الشريفة.
ولكل طائفة من الطائفتين سواء أتعلق الأمر بالمتقدمين أم بالمتأخرين حججها التي تدافع بها عن خطابها، وبذلك نكون أمام خطابين سجاليين متعارضين؛ خطاب ينتصر لعدالة الصحابة ونزاهتهم، وخطاب يتهم عدالتهم وجنابهم.
فارتباطًا بهذه القضية نقف عند كتاب من الكتب المعاصرة الحصيفة التي ملأت مساحة مهمة داخل هذا المقام السجالي وفق بنية حجاجية استدلالية متينة، تدافع مجتمعة عن عدالة الصحابة من خلال تفنيد الشبهات المتعلقة بمخالفاتهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، أو الاعتراض عليه، أو رده، وترك امتثاله، أو التردد فيه، أو مراجعته فيما سبيله الامتثال من غير سؤال، أو إساءة الأدب معه، أو مع غيره في حضرته، أو الشك في خبره، أو غير ذلك مما يعده بعض الطوائف قواصم وبوائق يجرحون بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينالون منهم، ويطعنون في عدالتهم، فكل ذلك – حسب المؤلف – له تخريجات مسلمة، وتأويلات حسنة. فما هي الهوية الحجاجية التي تشكل الملامح الكبرى لكتاب “الإجابة عما أُشكل من مخالفات الصحابة“؟!
دعوى الكتاب ومنهج الاستدلال:
أسس الشيخ العلامة محمد أحناش الغماري كتابه (الإجابة عما أُشكِل من مخالفات الصحابة) على بنية حجاجية متماسكة ومنسجمة، تؤدي وظيفتها الإقناعية بتفاعل أجزائها وتضافرها أداءً تأثيريًّا مباشرًا؛ حيث تجده خلال فصول الكتاب كلها يستدعي الحديث أو الخبر أو الواقعة التي يأولها الطرف المشكك في صورة الصحابة أو الطاعن فيها بكونها مخالفة غير محمودة للنبي صلى الله عليه وسلم، ناقلًا إياها من مصادر السنة النبوية والسيرة الشريفة نقلًا حرفيًّا من غير تغيير أو تصرف، مع الإحالة الدقيقة للمصدر، ثم يشرع الشيخ في صياغة تأويل ينتصر لصورة الصحابة، ويدحض التأويلات المشككة فيها، الأمر الذي استدعى جملة من الآليات الحجاجية والاستراتيجيات التأثيرية قصد تحقيق دعوى الخطاب.
طبيعة المتلقي في كتاب الإجابة:
يتجه الكتاب بخطابه الحجاجي نحو صنفين من المتلقين: فأما الصنف الأول فداخل في دائرة أهل السنة والجماعة، لكنه ينظر لأخبار المخالفات نظرة غير المتأمل الرصين، حسب المؤلف نفسه، فتكون المخالفات بالنسبة إليه “شيئًا من الجفاء أو الجهل أو سوء الأدب” أمام جناب النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم.
وأما الصنف الثاني فطوائف خارجة عن دائرة أهل السنة والجماعة، حسب المؤلف أيضًا “يجعلون من المخالفات بابًا للتجريح بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنيل منهم، والطعن في عدالتهم”، ولا سيما تلكم الطوائف التي تأسست عقائدها على تجريح فرقة واسعة من صحابة النبي مع سَبِّهم ولعنهم رضي الله عنهم.
نحو الهوية الحجاجية لكتاب الإجابة:
التعريف بالصحابة بحث عن المشترك داخل الخطاب:
انطلقت “الإجابة” في رحلتها صوب الدفاع عن صورة الصحابة الكرام من محطة التعريف بمفهوم “الصحابة”، قصد تأسيس موضع مشترك، يلتقي فيه المرسل بالمتلقي؛ بحيث يقع اتفاق بينهما حول الذي يجعل من الصحابي صحابيًّا، وبذلك يتحدد الملمح الأكبر المحدد لصورة الصحابة؛ ألا وهو الصحابي نفسه، فلقد نجح المؤلف في تحديد مفهوم دقيق ومتأمل استقاه من جملة من تعاريف القدماء، فبناءً على ذلك، يكون الصحابي، حسب صاحب الإجابة: “من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل موته، بحيث يكون مسلمًا، فإذا ارتدَّ عن الإسلام سقطت عنه صفة الصُّحْبة، وأما إذا ارتدَّ ثم عاد، سواء اجْتمعَ به مرة أخرى أم لم يجتمع به فلم يفقد بذلك تلكم الصفة”.
لم يكن تعريف الصحابة في مستهل هذا الكتاب تعريفًا معياريًّا وصفيًّا، يقصد به المؤلف نقل معرفة جاهزة للقارئ؛ بل إنه تعريف يروم “بناء واقع قصد المحاججة” بلغة فيليب بروطون، فالصحابة الذين تدافع “الإجابة” عن صورتهم هم الداخلون في دائرة التعريف “المنظم للعالم”؛ لكي لا يسمح المؤلفُ بإقحام أشخاص من خارج هذه الدائرة إقحامًا مغالطًا موجهًا بغية تمهيد المُقحِم الطريق لنفسه لتكسير صورة الصحابة، ولا سيما أن هذا الإقحام قد ينتقي شخصيات تمثل قيمًا رذيلة تدنس صورة الصحابة الفاضلة.
الحجاج بالقيم: المخالفة عين الموافقة:
امتناع أبي بكر عن الإمامة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم:
يمثل امتناع أبي بكر الصديق عن الصلاة إمامًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من المخالفات التي يعدها أصحاب التشكيك – حسب المؤلف – مدخلًا من مداخل النيل من الصورة السامية للصحابي أبي بكر، لكن هذه المخالفة “ليست لأمره صلى الله عليه وسلم؛ بل هي من الأدب الرفيع الذي لا يعرفه إلا الأكابر من الصلحاء، فقد فهم أبو بكر رضي الله عنه أن الأمر لا يلزمه، ولا يجب امتثاله؛ وإنما هو محض التكرم من النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم لصاحبه ورفيق عمره، وهذا مما لا يخفى على من له أدنى معرفة بتصرفاته صلى الله عليه وسلم، فضلًا عن الصديق الذي هو من أعرف الناس بأحوال النبي”[1]، ففعل المخالفة – كما أوَّله الشيخ – انطلق من خلفية قيمية رفيعة لا يدركها الذين نظروا إلى حدث الامتناع على ظاهره؛ بل امتناعه دليل جلي على كمال تعظيم الصديق للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، كما يعزز المؤلف دفاعه عن صورة الصديق بالإشارة إلى كون فعل الامتناع في هذا السياق يتأسس على قانون فقهي صريح يُقر بأن “الصلاة بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم لا تصح بدونه ما لم توجد قرينة الإجازة من جانبه”[2].
اعتراض عمر بن الخطاب وغيره على كتابة الكتاب عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تحصينًا للإسلام:
تثبت “الإجابة” أن المخالفة قد تكون صادرة عن حرص شديد على تحصين دين الإسلام من التحريف، ولعل خير مثال لذلك: اعتراض عمر بن الخطاب وغيره على كتابة كتاب أراد النبي صلى الله عليه وسلم كتابته لأصحابه، وذلك بقوله: “إن رسول الله قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله”؛ حيث اعتمد المؤلف في هذا المقام على “حجة السلطة العلمية” التي نزلت مخالفة عمر منزلة المجتهد المحصن لجوهر الإسلام، وذلك تحديدًا الذي قاله ابن بطال مستدلًّا به صاحب الإجابة: “كان عمر أفقه من ابن عباس حين اكتفى بالقرآن الذي أكمل الله فيه الدين، ولم يكتفِ بذلك ابن عباس”[3]، بالإضافة إلى قول النووي الذي قوَّى به المؤلف استدلاله الحجاجي المنافح عن صورة عمر، حيث قال: “اتفق العلماء على أن قول عمر حين قال: حسبنا كتاب الله، من قوة فقهه، ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أمورًا ربما عجزوا عنها، واستحقوا العقوبة عليها؛ لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، وأراد ألا ينسد باب الاجتهاد على العلماء”.
على سبيل الختم: خلاصة وآفاق:
إن الناظر في إجابات الشيخ العلامة محمد أحناش الغماري في كتابه الإجابة عما أُشكل من مخالفات الصحابة على مجمل المخالفات الواردة في هذا الكتاب يجدها إجابات تكشف “المضمر الأخلاقي” الذي ينطلق منه الصحابة الكرام، فيصدر عنهم جراء ذلك تصرف أو فعل أو رأي يراه غيرُ المنتبه لذلكم المضمر الخفي المذكور مخالفة شنيعة، ليثبت المؤلف، في مقابل ذلك أن المخالفة التي يعدها “أعداء الصحابة” نقيصةً تحط من صورتهم دليل على كمال أخلاقهم، وحرصهم الشديد على عدم مخالفة القوانين الأخلافية والشرعية التي سَنَّها النبي صلى الله عليه وسلم، بعدما يطرأ طارئ يستوجب مخالفة بعض فروعها؛ بحيث تكون تلكم المخالفة غير داخلة في باب سوء التأدب مع حضرته صلى الله عليه وسلم.
لقد شيَّد المؤلف الشيخ محمد أحناش الغماري صرحًا حجاجيًّا متماسكًا خصصه للذود عن صورة الصحابة الكرام، انطلاقًا من التأويل العلمي الموجه لمخالفاتهم التي اتخذها أعداؤهم والمشككون في عدالتهم منفذًا من منافذ الطعن في هذه الصورة، وهو صرح مدعم بحجج إقناعية غنية ومختلفة، لكن الحجاج بالاستناد إلى القيم شكل العنصر المهيمن على الخطاب، وهو – حسب صاحب “المصنف في الحجاج”- ينقسم إلى: “الججاج بالقيم المجردة من قبل العدل والصدق، وبين القيم الملموسة التي ترتبط بكائن حي أو مجموعة محددة، أو شيء خاص”[4]؛ ولذلك عملت تلكم الحجج وفق نسق منسجم على إثبات اندراج تلكم المخالفات ضمن باب الالتزام والإخلاص والوفاء والاقتداء والحرص على تحصين الإسلام من كل شائبة قد تشوبه وهو في طور تشكله.
ولا يسعنا في آخر هذه الأسطر التعريفية التي لا ترتقي إلى درجة القراءة المختصرة للكتاب، فضلًا عن أن تكون تحليلًا له، إلا أن ندعوَ الباحثين والمتخصصين في قضايا تحليل الخطاب والفكر الإسلامي إلى الإقبال على هذا الكتاب الغني إقبال الدراسة والتحليل؛ لما فيه من مساحة فكرية تأويلية متميزة اشتغلت على قضية مركزية من قضايا تاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي اشتغالًا مثمرًا وحصيفًا.
[1] محمد أحناش الغماري، الإجابة عما أشكل عن مخالفات الصحابة الصحابة، ص 101.
[2] نفسه، نقلًا عن فيض الباري للكشميري، 105.
[4] شاييم بيرلمان ولوسي أولبرخت تيتكا، المصنف في الحجاج، الخطابة الجديدة، ترجمة: محمد الوالي ص 175.