الاستشراق والقرآن الكريم (ترجمة المعاني والانتماء)
الاستشراق والقرآن الكريم
ترجمة المعاني والانتماء
التركيز هنا مخصص لمحاولات فهم القرآن الكريم من أولئك الذين لا ينتمون إليه، ولا يتحدثون لغته العربية، مما أدى إلى قيام محاولات لترجمة معانيه إلى لغاتهم، تعود إلى القرن السادس الهجري (سنة 536هـ)، الثاني عشر الميلادي (سنة 1141م)، حينما بدأ بطرس المحترم الكلوني هذا الجهد، وتولى الترجمة له الراهب الإنجليزي روبرت (روبرتوس كيتينيسيس) الكلوني، وكان هو والراهب الآخر هيرمان الدالماتي اللذان ترجَما النبذة المختصرة ملمِّين باللغة العربية، وكانت هذه الترجمة “تزخر بأخطاء جسيمة، سواء في المعنى أو في المبنى، ولم يكن أمينًا، إذ أغفل ترجمة العديد من المفردات، كما لم يتقيد بأصل السياق، ولم يقم وزنًا لخصوصيات الأدب”؛ كما يقول يوهان فوك[1].
يضيف عبدالرحمن بدوي إليهما كلًّا من روبرت كينت وعربي مسلم يُدعى محمدًا، “ولا يعرف له لقب ولا كنية ولا اسم آخر”[2]، ويذكر محمد عبدالواحد العسري أن من التراجمة أحد المسلمين المنقلبين عن دينهم الأصلي إلى النصرانية[3]، كما يذكر محمد عوني عبدالرؤوف “أن أحد المَغاربة من المتفقهين في التفسير والدين كان يمدُّ له يد المساعدة دائمًا”[4]، ومع هذا فلم تكن هذه الترجمة أمينةً؛ “فقد كانت تعاني من نقص شديد في مواطن كثيرة؛ فهي شرح للقرآن أكثر من كونها ترجمةً، لم يعن بأمانة الترجمة ولا بتركيب الجملة، ولم يُعِرِ البيان القرآني أي الْتفات، بل اجتهد في ترجمة معاني السور وتلخيصها، بصرف النظر عن موضوع الآيات التي تعبِّر عن هذه المعاني بالسورة نفسها”[5].
إلا أنَّ هذه الترجمة لم يتمَّ طبعها إلا بعد أربعمائة سنة من ترجمتها؛ أي: في منتصف القرن العاشر الهجري (سنة 950هـ) منتصف القرن السادس عشر الميلادي (سنة 1543م)؛ حيث طبعت في بازل بسويسرا، والذي دعا إلى هذا التأخير أنه تولد جدل لدى رجال الدين في الكنيسة حول جواز نشر القرآن الكريم بين رعايا الكنيسة ومدى تأثيره على مشروع حماية النصارى من الإسلام[6]، ثم صدرت الطبعة الثانية منها في بازل بسويسرا كذلك سنة 957هـ / 1550م[7]، تلاها مباشرة محاولة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية، وقام بها جمع من رهبان ريتينا، وقيل: إن هذه الترجمة قد أحرقت[8].
تعاقبت الترجمات مستندة إلى ترجمة روبرتوس الكلوني وعلى أيدي المستشرقين، فقد صدرت أقدم ترجمة إلى الإيطالية سنة 954هـ / 1547م، ثم صدرت عن الترجمة الإيطالية ترجمة ألمانية سنة 1025هـ / 1616م، على يد سالومون شفايجر، وعن الألمانية صدرت ترجمة إلى الهولندية غير معلومة اسم المترجم سنة 1051هـ / 1641م، وكل هذه الترجمات كانت عالةً على ترجمة روبرتوس، حتى ظهرت ترجمة لودفيجو ماراتشي إلى الإيطالية سنة 1110هـ / 1698م، “التي لا سبيل إلى مقارنتها، من حيث صحَّتها، مع أي ترجمة أخرى قبلها”[9]، ثم إلى الفرنسية؛ حيث ترجمها رير سنة 1647م[10]، وكلها كانت عالةً على ترجمة روبرتوس الكلوني، حتى ظهرت ترجمة لودفيجو ماراتشي إلى الإيطالية سنة 1110هـ / 1698م، “التي لا سبيل إلى مقارنتها، من حيث صحتها، مع أي ترجمة أخرى قبلها”[11].
توالت بعد ذلك ترجمات معاني القرآن الكريم دون تدخل مباشر بالضرورة من الأديرة والكنائس والمنصِّرين، ولكن بقدر من الإيحاء الذي أملتْه العودة إلى الترجمات السابقة، حتى يأتي جورج سيل سنة 1149هـ / 1734م، الذي وصف لاهتمامه البالغ بالإسلام بأنه “نصف مسلم”[12]، والذي أثنى على القرآن الكريم وترجم معانيه إلى اللغة الإنجليزية، لكنه نفى أن يكون وحيًا من عند الله، بل أكَّد على أنه من صنع محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: “أما أن محمدًا كان في الحقيقة مؤلف القرآن المخترع الرئيسي له، فأمر لا يقبل الجدل، وإن كان المرجح – مع ذلك – أن المعاونة التي حصل عليها من غيره في خطته هذه لم تكن معاونةً يسيرة، وهذا واضح في أن مواطنيه لم يتركوا الاعتراض عليه بذلك”[13].
وفي نصٍّ آخر للترجمة ينقله علي علي علي شاهين في كتابه: الإعلام بنقض ما جاء في كتاب مقالة في الإسلام: “ومما لا شك فيه ولا ينبغي أن يختلف فيه اثنان أن محمدًا هو في الحقيقة مصنِّف القرآن وأول واضعيه، وإن كان لا يبعد أن غيره أعانه عليه كما اتهمته العرب، لكنهم لشدة اختلافهم في تعيين الأشخاص الذين زعموا أنهم كانوا يُعينونه وهَتْ حجَّتهم، وعجزوا عن إثبات دعواهم، ولعلَّ ذلك لأن محمدًا كان أشدَّ احتياطًا من أن يترك سبيلًا لكشف الأمر”[14]، وحيث إن هذه الوقفات لم تعن بالردود المباشرة لهذه الادعاءات والطعون[15]، فإن الرد هنا يقتصر على الآية الكريمة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103].
يقول نجيب العقيقي عن هذه الترجمة: “وقد نجح في ترجمته، فذكرها فولتير في القاموس الفلسفي، وأعيد طبعها مرارًا، إلا أنها اشتملت على شروح وحواش ومقدمة مسهبة، هي في الحقيقة بمثابة مقالة إضافية عن الدين الإسلامي عامة، حشاها بالإفك واللغو والتجريح”[16]، وجاءت ترجمات معاني القرآن الكريم التالية له في معظمها عالةً عليه متأثِّرة به؛ بحيث نظر الآخرون إلى القرآن الكريم بعد جورج سيل بعينيه، ولم ينظروا إليه بعيونهم.
تتعاقب الردود على القول بأن القرآن الكريم من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول المستشرق شيبس: “يعتقد بعض العلماء أن القرآن كلام محمد، وهذا هو الخطأ المحض، فالقرآن هو كلام الله تعالى الموحى على لسان رسوله محمد، وليس في استطاعة محمد – ذلك الرجل الأمي – في تلك العصور الغابرة أن يأتينا بكلام تحار فيه عقول الحكماء، ويهدي به الناس من الظلمات إلى النور، وربما تعجبون من اعتراف رجل أوروبي بهذه الحقيقة، لا تعجبوا؛ فإني درست القرآن فوجدت فيه تلك المعاني العالية والنظُم المحكمة، وتلك البلاغة التي لم أر مثلها قط، فجملة واحدة تغني عن مؤلفات”.[17] وهذه لورا فيشيا فاغليري تقول في كتابها: دفاع عن الإسلام: “كيف يكون هذا الكتاب المعجز من عمل محمد وهو العربي الأمي الذي لم يَنظم طوال حياته غير بيتَين أو ثلاثة أبيات لا ينم منهما عن أدنى موهبة شعريَّة؟
وعلى الرغم أن محمدًا دعا خصوم الإسلام إلى أن يأتوا بكتاب مثل كتابه، أو على الأقل بسورة من مثل سوره؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23]، وعلى الرغم من أن أصحاب البلاغة والبيان الساحر كانوا غير قلائل في بلاد العرب، فإن أحدًا لم يتمكن من أن يأتي بأي أثر يضاهي القرآن، لقد قاتلوا النبي بالأسلحة، ولكنهم عجزوا عن مضاهاة السمو القرآني”[18].
كون القرآن الكريم من تأليف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرية استشراقية قديمة في إطلاقها، ولكنها أثرت كثيرًا على تأثير القرآن الكريم – دون شكٍّ – على قراء ترجمة المعاني باللغة الإنجليزية، بل إن التأثير قد امتد إلى قراء ترجمة المعاني باللغة الفرنسية، عندما تبنَّى المستشرق البولوني ألبر كازميرسكي (1801 – 1887م) نقل ترجمة المعاني من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الفرنسية (سنة 1256هـ / 1840 – 1841م) بالأسلوب الذي ترجمها به جورج سيل؛ حيث “تعوزها بعض الأمانة العلمية”، كما يقول نجيب العقيقي[19].
يقول محمد خليفة حسن: “أدَّت وفرة الترجمات الاستشراقية في اللغات الأوروبية إلى نتيجة سلبية في الدراسات القرآنية عند المستشرقين، وهي أنَّ معظم هذه الدراسات اعتمدت على الترجمات، ولم تعتمد على النص العربي للقرآن الكريم”[20].
على أي حال فالبحث في تأريخ الترجمات، التي قام بها الرهبان ثم الرهبان المستشرقون ثم المستشرقون من غير الرهبان، بحث شائق، وليس هذا مجال التوسُّع فيه، إلا أنه غلب على ترجمات معاني القرآن الكريم، من قبل غير أهله، أنها ترجمات اتسمت بالنظرة السلبية تجاه الوحي، وتجاه من نزل عليه الوحي، سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
هذه النظرة التي قال عنها واحد منهم وهو روم لاندو: “إننا لم نعرف إلى وقت قريب ترجمةً جيدة استطاعت أن تتلقف من روح الوحي، والواقع أن كثيرًا من المترجمين الأوائل لم يعجزوا عن الاحتفاظ بجمال الأصل فحسب، بل كانوا إلى ذلك مُفعَمين بالحقد على الإسلام، إلى درجة جعلت ترجماتهم تنوء بالتحامُل والتغرُّض، ولكن حتى أفضل ترجمة مُمكنة للقرآن في شكل مكتوب لا تستطيع أن تحتفظ بإيقاع السور الموسيقي الآسر على الوجه الذي يرتِّلها به المسلم، ولا يستطيع الغربي أن يدرك شيئًا من روعة كلمات القرآن وقوتها إلا عندما يسمع مقاطع منه مرتلةً بلغته الأصلية”[21].
يعلق مصطفى نصر المسلاتي على هذا النص بقوله: “إن اعتراف روم لاندو R. Landau ليعطي فهمًا مبدئيًّا بأن بعضًا من المستشرقين عندما حاولوا ترجمة القرآن، في أفضل ترجمة مُمكنة، أفقدوا القرآن روعته، وأساؤوا إليه، سواء عن قصد أو عن غير قصد.
إننا نشير هنا إلى أنَّ جولدزيهر Goldziher قد تمسك بروايات شاذَّة جاء بها دليلًا وبرهانًا على أن القراءات السبع عندما نشأت كانت أصلًا عن طريق الكتابة وعدم نطقها، وقد علم المسلم – بما لا يدع مجالًا للشك – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أقرأ صحابته بعدة وجوه، وليس بوجه واحد”[22].
الوقفات النقدية لرؤى جولدزيهر في القراءات خاصةً من خلال كتابه: مذاهب التفسير الإسلامي كثيرة، يرجع منها إلى مناقشات عبدالفتاح عبدالغني القاضي (رئيس لجنة مراجعة المصحف الشريف الأسبق) في مجلة الأزهر في أعداد متوالية، من العدد 9 المجلد 42 إلى العدد 1 من المجلد 45 (11 / 1390 هـ – 1 / 1393هـ الموافق 1 / 1971م – 2 / 1973م)، ثم جمعها في كتاب بعنوان: القراءات في نظر المستشرقين والمُلحِدين طبع عدة طبعات، لعلَّ آخرها ما صدر عن دار السلام بالقاهرة سنة 1426هـ / 2005م[23].
[1] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق: الدراسات العربية والإسلامية في أوروبَّا حتَّى بداية القرن العشرين، ط 2؛ مرجع سابق، ص18.
[2] انظر: عبدالرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين، ط 4، بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2003، ص 441.
[3] انظر: محمَّد عبدالواحد العسري. الإسلام في تصوُّرات الاستشراق الإسباني؛ مرجع سابق، ص 122.
[4] انظر: عبدالرؤوف، محمَّد عوني. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي؛ مرجع سابق، ص 67.
[5] انظر: عبدالرؤوف، محمَّد عوني. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي، المرجع السابق، ص 67.
[6] انظر: قاسم السامرَّائي. الطباعة العربية في أوروبا، في: ندوة تاريخ الطباعة العربية حتَّى انتهاء القرن التاسع عشر، 28 – 29 جمادى الأولى 1416هـ / 22 – 23 أكتوبر (تشرين الأول) 1995م، أبوظبي: المجمع الثقافي، 1996م، ص 45 – 108.
[7] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق؛ مرجع سابق، ص 15 – 20.
[8] انظر: عبدالرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين؛ مرجع سابق، ص 438 – 445.
[9] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق؛ مرجع سابق، ص 20. وانظر: ص 97 – 98.
[10] انظر: عبدالرؤوف، محمَّد عوني. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي؛ مرجع سابق، ص 67.
[11] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق؛ مرجع سابق، ص 20. وانظر: ص 97 – 98.
[12] انظر: محمود حمدي زقزوق. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، 1405هـ / 1985م، ص 83، (سلسلة كتاب الأمَّة؛ 5).
[13] انظر: إبراهيم اللبَّان. المستشرقون والإسلام، القاهرة: مجلَّة الأزهر، 1390هـ / 1970 م، ص 44، (ملحق مجلَّة الأزهر).
[14] انظر: علي علي علي شاهين. الإعلام بنقض ما جاء في كتاب مقالة في الإسلام، القاهرة: المؤلِّف، 1418هـ / 1998م، ص 189.
[15] انظر: عبدالمحسن بن زبن المطيري. الطعن في القرآن الكريم، ص 275 – 313، في: مجلة البيان ومبرَّة الأعمال الخيرية بالكويت. مؤتمر تعظيم حرمات الإسلام، الرياض: مجلة البيان، 1428هـ / 2007 م، 809 ص.
[16] انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون؛ مرجع سابق، 2: 47.
[17] انظر: محمد أمين حسن محمد بني عامر. المستشرقون والقرآن الكريم، إربد: دار الأمل، 2004م، ص 223، نقلًا عن محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني. سيرة سيِّد المرسلين، القاهرة: دار نهضة مصر، ، ص 18 – 19.
[18] انظر: لورافيشيا فاغليري. دفاع عن الإسلام / نقله إلى العربية منير البعلبكي، ط 5، بيروت: دار العلم للملايين، 1981 هـ، ص 57.
[19] انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون؛ مرجع سابق، 2: 498 – 499.
[20] انظر: محمد خليفة حسن. دراسة القرآن الكريم عند المستشرقين في ضوء علم نقد الكتاب المقدَّس، في: ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية المنعقدة في مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة في المدَّة من 16 – 18 / 10 / 1427هـ الموافق 7 – 9 / 11 / 2006 م؛ مرجع سابق، 66 ص. والنصُّ من ص 45.
[21] انظر: روم لاندو. الإسلام والعرب؛ مرجع سابق، ص 36 – 37.
[22] انظر: مصطفى نصر المسلاتي. الاستشراق السياسي في النصف الأول من القرن العشرين، طرابلس: اقرأ، 1986م، ص 58.
[23] انظر: عبدالفتَّاح عبدالغني القاضي. القراءات في نظر المستشرقين والملحدين، القاهرة: دار السلام، 1426هـ / 2005م، 174 ص.