هنيئا لك أبا وائل الأستاذ المحقق محمد أديب الجادر
هنيئًا لك أبا وائل
الأستاذ المحقق محمد أديب الجادر
رحمةُ الله وبركاتُه عليك أيها الأستاذُ المحقِّق محمد أديب الجادر.
خلالَ دراستي في الثانوية كنتُ أُكثِرُ التردُّدَ إلى المكتبة الظاهرية أيامَ الامتحانات، فإذا أردتُّ الخروجَ عن جوِّ المذاكرة والمراجعة دخلتُ المكتبةَ العادلية، وكان الدخولُ إليها خاصًّا بالباحثين وطلَّاب الدراسات العليا، وهناك عرَفتُ أستاذًا تهابُه – من بُعدٍ – العَين، ولكن ما إنْ تُجالِسه حتى تألفه النفسُ ويذهب عنها البَين، فكان أوَّلَ سؤال سألَنِيه رحمه الله: مَن شيخُك؟ وهو سؤالٌ يدلُّ على ذكاءٍ وفِراسة. فقلتُ له: المفسِّر الأديبُ الشيخ أحمد نصيب المحاميد، فقال: «هذا شيخنا كلُّنا، وهو بقيَّةُ السلف الصالح في بلدتنا»، ثم صار بيني وبينَه وُدٌّ وأُلفة.
ومضَت الأيامُ وصِرتُ أتردَّد إلى مَجمَع اللغة العربية بدمشقَ؛ لأشتريَ مجلَّتَه لأحدِ شيوخي الهنود المحدِّث الفقيه حبيب الله بن علي قُرْبان المَظاهري، أو للاطِّلاع على مكتبتها والمخطوطات المحفوظة فيها، فكان الأستاذُ الجادر هو الذي يُساعدني في ذلك، بل ويُقدِّم لي بعضَ الكتب والمطبوعات هديةً، ثم كان السببَ في توطيد العَلاقة والمحبَّة بأمين مكتبة المَجمَع إذ ذاك الأستاذِ خير الله الشريف حفظه الله.
وفي إحدى ليالي دمشقَ السَّالفةِ الأنيسة: زارني كوكبةٌ من أهل التحقيق والعلم في داري بحيِّ العُقَيبة بدمشق، فكان الأستاذُ الجادر أحدَهم، وكانت ليلةً لا تُنسى، وممَّا قاله لي ليلتَها: «أنا أُحبُّ البيوتَ القديمة، وأشعر فيها ببركة الصالحين الذين سَكَنوها، والعلماء الذين كانوا فيها».
ثم توالت الزياراتُ العائلية في بيته، وكذلك خلالَ عملِه بالمَجمَع في غُرفة مكتبه.
أقول هذا الكلامَ موقنًا بأني لم أكن في مستوى صُحبته سِنًّا ومعرفة، وإنما يَستشِفُّ القارئُ ممَّا سبق مدى أخلاقه النبيلة، وطِيب سَجاياه الحَميدة.
كان بحقٍّ أُنسًا لمُجالِسه، ذا مِزاح لطيف، يَشُوبه صوتٌ أجشُّ، قد لا يُدرك مُستَمِعُه أنه يُلاطفه أو يُمازحه ما لم يُدرِك طبعَه.
وعند صدور تحقيقي لكتاب: “شمائل النبيِّ صلى الله عليه وسلم” أظهر سرورًا وفرحًا، وأثنى عليه أمامَ والدي ثناءً عاطرًا، وأنا على ثقةٍ أنه ما فعل ذلك إلا لرفع عَزيمَتي واستنهاض هِمَّتي، وهذا من تواضُعه وسلامة صدره، من الحسد وآفات أصحاب المِهنة الواحدة!
الكلُّ يعرِفُ تفرُّغَه للتحقيق ونشر التراث، أحبَّ كتبَ التراجم والتواريخ، وقد كتب عددٌ من الأساتذة ترجمةً وتعريفًا به، وبالكتب التي اعتَنى بها، ولكنِّي أقول متمِّمًا لهم:
إن تفرُّغَه للبحث العلمي لم يكن ليَصرِفَه عن حضور صلاة الجماعة قدرَ استطاعته، ولم يكن عملُه في تحقيق التراث يُبعده عمَّا يجري في بلدِه خاصَّةً، وعن أحوالِ المسلمين عامَّةً، كان والله يعيش بألم وحُرقة لِما يَمرُّ على الأُمَّة من مِحَنٍ وبلاء، كان يُخفي تحت بسطة جسدِه وجُشَّةِ صَوتِه قلبًا رقيقًا، ورُوحًا لطيفة، كان يتمثَّل في ذلك حديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «المُسلم أخو المُسلم»، لا يعرفُ تبلُّدَ المشاعر، ولا وَهْنَ الأحاسيس.
أبوحُ بهذا الكلام وهو الوحيدُ الذي أخبرتُه بعَزْمي على الخروج من دمشق، ثم جاءني بعد صلاة الجمعة إلى داري بحيِّ العُقَيبة، والدمعةُ والله في عينَيه، فودَّعَني وودَّعتُه، وكان ذلك آخرَ اجتماعٍ بيني وبينَه، في منتصف شهر رجبٍ سنة 1432هـ.
وأقول اليومَ في كلمة رثائه: «اللقاءُ والموافاةُ يومَ القيامة، وفي أعالي الجنَّة إن شاء الله تعالى، فما أحبَبتُك إلا لله، ولا أحبَبتَني إلا لله، رحمك الله، وجعلك في جنَّات النعيم أبا وائل».
وختامًا أقول لأبنائه وأسرته: هنيئًا لكم ذاك التراثُ المطبوعُ الذي تركه والدُكم، وأغبِطُكم على تلك السُّمعة والمكانة التي عُرفَ بها أبوكم، وأحسنَ الله عزاءَكم، وأعظم أجرَكم، وغفر لميِّتكم، وألهمكم الصَّبرَ والسُّلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكلُّ الشكر للأستاذ المُبدِع الوفي أيمن ذو الغنى حفظه الله تعالى، الذي أتاح لي وأكرمني بالكتابة عن فقيدنا رحمه الله.