الاستشراق وحروب الفرنجة
الاستشراق والإسلام[1]
(الاستِشراق وحروب الفرنجة)
تمهيد:
يعدُّ الحديث عن الإسلام، من حيث كونه دينًا سماويًّا خاتمًا، بعث به رسول هو آخر الرسل والأنبياء، وأنزل به كتاب هو آخر الكتب المنزلة، من المسلمات التي يقوم عليها هذا الدين، ويؤمن بها جميع المسلمين، إلا أنَّ الإسلام بهذه الكيفية لم يكن موضع قبول عام في بداية انطلاقته من مكة المكرمة من بعض العرب والأمم المحيطة بجزيرة العرب، منذ أن صدح به رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة ثم في المدينة المنورة، فقد لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنتًا في تبليغ الرسالة بين قومه وذويه، ثم امتدَّ الإنكار إلى رقعة أوسع كلما زاد انتشار الإسلام[2].
رأت بعض الأمم المجاورة أن في انتشار الإسلام تهديدًا لوجودها، وتأثيرًا على مصالحها بين الناس، فناصبت هذا الدين العداء، ومع ذلك فإن هذا الدين ظل محفوظًا بحفظ الله تعالى له، وظل الإقبال عليه مستمرًّا؛ بحيث انتشر بين الأمم بالقدوة والدعوة، كما انتشر بينها بالفتوحات[3]، بما في ذلك النفوذ إلى أوروبا عن طريق التجارة، مِن خلال (السوق الضخمة) مدينة “البندقية التي كانت تعتمد على التجارة المشرقية، وتحافظ على الطريق البحرية إلى القسطنطينية (إسطنبول فيما بعد)، وإلى الإسكندرية (المشبهة غالبًا بالبندقية)، وإلى الشاطئ المشرقي على امتداد معظم هذه المرحلة”[4].
يعدُّ الاستشراق أحد الروافد التي عرف الغرب من خلالها الإسلام، إلا أنها معرفة لم تكن في مجملها دقيقةً، وسيتبيَّن من هذه الوقفات أن الاستشراق في مهمته هذه قد اتكأ على معلومات شعبية غربية قديمة ذات بعد ديني مسيحي، مما كان له الأثر الكبير في تلقي الغرب للإسلام، بل الأثر الكبير لهذه الفجوة بين الغرب والإسلام قبل أن تنطلق حروب الفرنجة من الغرب إلى الشرق[5].
الاستِشراق وحروب الفرنجة:
حملت أوروبا على الإسلام حملات حربية سمَّيناها نحن المسلمين حروب الفرنجة، واصطلح في أوروبا على تسميتها بالحروب الصليبية[6]؛ لأنها حملت الصليب معها متجهة إلى أرض الشام ومصر، وكان المحاربون بالإضافة إلى الصليب الرمز يعلِّقون شارة الصليب على صدورهم[7]، واستمرَّت هذه الحروب لمائتي عام من سنة 491هـ الموافق لسنة 1098م إلى سنة 690هـ الموافق لسنة 1291م، ووصل عدد هذه الحملات إلى تسع حملات، كان هدفها الأول والمعلَن هو تحرير أرض الشام ومصر من المسلمين، والتنعُّم بأرض السمن والعسل أرض الميعاد، ثم تأتي الأهداف الأخرى، التي لا تصادر في هذه الحملات، كالهدف الاقتصادي الذي لم يكن الهدف الأول لهذه الحملات، على أن التسمية الغربية ليست مقصورة على هذه الحملات التسع فقط، بل كانت تطلق على أي حملة حربية دوافعها دينية، كما هي الحال في الحملات الصليبية على طائفة الألبيجوا أو الكاتار، جنوب فرنسا قريبًا من منطقة ألبي في القرن الثالث عشر الميلادي (1209 – 1229م)[8].
على أي حال فقد كثر الحديث حول الحروب الصليبية؛ من حيث دوافعها وأهدافها، وسعى بعض الكتاب إلى استبعاد الدافع الديني، وقصر هذه الحملات على الدافع الاقتصادي، رغم أن الجهة التي جاء منها الفرنجة الصليبيون في ذلك الوقت كانت تنعم بالخيرات الكافية، في ظاهر الأرض وباطنها، دون الحاجة إلى قطع هذه المسافات على البهائم وفي تقلبات الجو وتضاريس الأرض، تحمل الجند الصليب على أكتافها للفوز بمكسب اقتصادي، يقول عمر لطفي العالم في مقدمته للطبعة الأولى من كتاب: تاريخ حركة الاستشراق ليوهان فوك: “في القرن الميلادي العاشر أطلق البابا أوربان الثاني صيحة ارتعشت لها الأجنة في البطون، سارت أوروبا بعدها نحو الشرق بين راغب في الجنة، وطامع في الثروة، أو أسير لشهوة القتل وحب الانتقام”[9].
المهم أنه على مدى قرنين من الزمان تشكلت العلاقة بين الغرب والإسلام من منطلق حربي، ولا يزال هذان القرنان يحددان هذه العلاقة، يقول كل من أحمد الجهيني ومحمد مصطفى: “وقد لعبت الحروب الصليبية دورًا لا يُمكن تجاهله في تشويه صورة الإسلام، فقد “استمر تيار الدعاية يتدفق ضد المسلمين بالأكاذيب إلى جميع أنحاء أوروبا، التي أمدت الحروب الصليبية بالمال والعتاد قرونًا عديدة، ولم تكن الأنباء التي يحملها العائدون من المعركة قريبةً من الصدق، ومن أجل ذلك فقد امتلأت عقلية السواد الأعظم من أبناء أوروبا بكثير من المعلومات المكذوبة عن الإسلام والمسلمين، ولم تتمكن حركة تثقيف الشعوب في العصر الحديث من إزالة هذه الأفكار بعد”[10]، “وقد صور الإسلام كدين للعنف، كدين دموي وقاس، وصور معتنقوه كمتعصبين يعرضون على من يغزونهم الخيار الشرس بين تغيير دينهم أو الموت”[11].
هذا الخطاب الديني المسيحي ذو التوجه السياسي هو الذي شكل الاستشراق التقليدي، فقد ورث المستشرقون هذا الخطاب وحافظوا عليه، وتمثَّل هذا الخطاب “في كون الإسلام نسخة مشوهة، أو صورة معدلة ضالة للمسيحية”[12]، وأنه هرطقة وخروج عن تعاليم المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام وما إلى ذلك من الاتهامات الجزافية التي لا تُنبئ عن روح علمية أو عدل في إطلاق الأحكام[13].
لذا يؤرخ بعض المعنيين بالدراسات الاستشراقية بداياتها بالحملات الصليبية، والذي يظهر أنها بدأت قبل ذلك بزمن، منذ انطلق الطلبة الأوروبيون إلى الأندلس وصقلية لنقل علوم المسلمين إلى أوروبا، فقد كان من أهداف هذه البعثات دراسة الإسلام والعمل على التصدي له فكريًّا، جنبًا إلى جنب مع التصدي الحربي، الذي قد لا يجدي أمام القوة الإسلامية، التي طرقت أبواب أوروبا، من جنوبها الغربي أولًا ثم من شرقها، ومع هذا لم تخل هذه المرحلة من التأثر بعلوم المسلمين، بل وأنماط حياتهم، بالتشبه بالمسلمين في عاداتهم ولباسهم وأنماطهم العلمية[14].
بلغ هذا التأثر بالإسلام مبلغًا كبيرًا حتى لقد قيل: إن اللباس العربي أضحى علامةً للوجاهة العلمية إلى اليوم، لا سيما في المناسبات العلمية؛ كمناقشة الرسائل العلمية، وحفلات التخرج في المؤسسات التعليمية والعلمية[15]، “لقد كانت إسبانيا المسلمة بمثابة السير الناقل العظيم الذي لولاه لضاع الأدب اليوناني الكلاسيكي والفلسفة اليونانية القديمة التي تمَّت ترجمتها إلى العربية، واحتفظت بها إسبانيا هناك إلى حين انتقالها إلى أوروبا، بعد ترجمتها من العربية إلى اللاتينية”[16]، ويقول جاك غودي: “وفي إيطاليا أثر وجود المسلمين كذلك في الحياة اليومية، واحتلَّ العرب صقلية لمدة قرنين قبل أن يسودها النورمان عام 1091، وحتى بعد ذلك كان إمبراطور النورمان روجيه الثاني يلبس ثوبًا عربيًّا في البلاط ويتكلم العربية، ويعلِّم الفنون والعلوم العربية، ويستخدم أصحاب الحرف العرب الذين بنوا الكاتدرائية الرائعة والدير في مونريال (1172)[17].
يقول محمد عبدالله مليباري عن هذه الاقتباسات: “بدأ الغرب أول ما بدأ ينفض عن ذهنه آثار الهجعة المظلمة التي عاشها طوال أربعة قرون بالعودة إلى الشرق؛ حيث قامت حضارة إسلامية مزدهرة توغَّلت في أرجاء العالم الشرقي كله، وجزء من أوربا الغربية، ودون أن يفكر في الموضوعات الكبرى لأوجه الاختلافات عن طبيعة الإنسان الأصيلة، وعن مركزه في الحياة، راح ينهل من ذلك المعين، وعندما أحس بالاختلافات الناجمة عن الطبيعة الذاتية حاول إنكار الفكر الإسلامي كحقيقة قائمة، معزيًا أن نقطة انطلاقه بدأت بالحضارة اليونانية التي واصلت مسيرتها حتى انتهت إليه، وكان للاستشراق دوره الفعال في كل المراحل التي سار فيها التاريخ الحضاري الأوربي الحديث، ابتداءً من مرحلة الاقتباس، فالانتهال، فالأفكار، فالعودة إلى الحق بالاعتراف لدور الأمة الإسلامية في الحضارة الإنسانية، وفعاليته في تكوين الفكر العلمي والأدبي”[18].
تجاهل هذا التأثير الإسلامي على أوروبا يُمكن أن يعد مظهرًا من مظاهر الاستشراق، وهو كذلك مظهَر من مظاهر التأريخ للنهضة الأوروبية، لكنه تجاهُل لا يثبت أمام حقيقة أن للإسلام أثرًا واضحًا في هذه النهضة، سعى جاك غودي وآخرون منصفون مثله إلى توكيده، من خلال استعراض الوجود الإسلامي في أوروبا إلى اليوم؛ حيث تزيد الجالية المسلمة على خمسة عشر مليون مهاجر، رغم قِلَّة تأثيرهم السياسي، مقارنةً بالدهْلَزة (اللوبي) الصهيونية[19].
تبع تجاهل التأثير الإسلامي على أوروبا تجاهل الإسلام نفسه، وقلة المكتوب عن الإسلام بموضوعية؛ بحيث عمد الراغبون في التعرف على الإسلام إلى إسهامات بعض المستشرقين، التي لم تحقق الرغبة في الوصول إلى المعلومة الصحيحة عن هذا الدين، تقول كارين آرمسترونج: “هناك ندرة مذهلة في الكتب التي تتناول سيرة محمد بين أيدي عموم القراء (عندنا في الغرب)، إنني مدينة – تحديدًا – للمجلدَين اللذين كتبهما مونتغمري واط / محمد في مكة / و / محمد في المدينة، لكن كليهما قد وضعا للدارسين، ويَفترضان معرفة أساسية مسبقة بحياة محمد ليست متوفرة لدى كل شخص، وكتاب مارتن لينغز / محمد؛ سيرته استنادًا إلى أقدم المصادر / يقدم فيضًا من المعلومات المدهشة، مأخوذة من كتاب سيرة محمد في القرن الثامن والتاسع والعاشر، لكن لينغز يكتب للمؤمنين… من المحتمَل أن السيرة المتداولة في الوقت الحاضر والأكثر جاذبية للقراء هي تلك التي كتبها مكسيم رودنسون بعنوان / محمد /… لكنه يدوِّن هذه السيرة كريبي ودنيوي”[20]، وهذا الأب روبرت كاسبار يقول: “إن الغرب لم يفهم الإسلام على حقيقته أبدًا، بل ولم يحاول ذلك مطلقًا، وحتى خيرة المسيحيين القلائل الذين كانوا يعيشون على مقربة من الإسلام من أمثال: يوحنا الدمشقي وتيودور أبي قرة أو بولس الصيدوني لم يتمكنوا من إدراك جوهر الإسلام وعظمته، والتي تتمثل في السمو إلى الله الواحد الأحد، ولعل ذلك يرجع أساسًا إلى أن الغرب المسيحي قد اكتفى لعدة قرون طويلة بتشويه الإسلام ومؤسسه بأسخف الأقوال دون أن يكلِّف نفسه عناء دراسة هذه العقيدة”[21]، ويقول زكاري لوكمان: “يستحيل أن نتتبع رؤى المسيحية اللاتينية للإسلام باعتبارها تقدمًا بسيطًا من الجهل إلى المعرفة، على العكس، فبعد الجهل العميق والافتقار للاهتمام اللذين ميزا الفترة السابقة على عام 1100، تمَّ إنتاج كتلة صغيرة من المعرفة الدقيقة حول معتقدات الإسلام وحياة النبي، بهدف السجال والتبشير إلى حد كبير، ولكن ظهر معها أيضًا طاقم من الصور والتصورات المشبوهة، الازدرائية في الغالب، كانت منتشرةً في كل مستويات المجتمع”[22].
[1] نُشر هذا الفصل بعنوان: مراجعات في نقد الاستشراق: الاستشراق والإسلام، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: العلوم الإنسانية والاجتماعية، ع 3 (ربيع الآخر 1428هـ)، ص 13 – 44.
[2] انظر: مُحمَّد فتح الله الزيادي، انتشار الإسلام وموقف المستشرقين منه، بيروت: دار قتيبة، 1411هـ / 1990م، 201 ص.
[3] انظر: مُحمَّد علي عمر الفرَّا، الإسلام والغرب: مواجهة أم حوار؟! – عمَّان: دار مجدلاوي، 1422هـ / 2002م، 224 ص.
[4] انظر: جاك غودي: الإسلام في أوروبا، تعريب: جوزف منصور، بيروت: عويدات، 2006م، ص 119، والطريف في هذا الأمر أنَّ البابوية كانت لا تقرُّ التعامُل التجاري مع غير “المؤمنين”.
[5] انظر: توماش ماستناك: السلام الصليبي، ترجمة: بشير السباعي، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2003م، ص 143 – 232.
[6] سمَّى المسلمون هذه الحملات بحروب الفرنجة، وتسمية الحروب الصليبية جاءت من الصليبيين أنفسهم. انظر: أمين معلوف. الحروب الصليبية كما رآها العرب / ترجمة عفيف دمشقية، ط 2، بيروت: دار الفارابي، 1998م، 352 ص.
[7] انظر: مُحمَّد علي عمر الفرَّا، الإسلام والغرب: مواجهة أم حوار!؛ مرجع سابق، ص 30.
[8] انظر: هنري بينا – روث. ما هي العلمانية / ترجمة ريم منصور الأطرش، مراجعة جمال شحيِّد، دمشق: المؤسَّسة العربية للتحديث الفكري، 2005م، ص 13.
[9] انظر مقدِّمة المترجم في: يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق: الدراسات العربية والاسلامية في أوروبا حتَّى بداية القرن العشرين / تعريب عمر لطفي العالم، دمشق: دار قتيبة، 1417هـ / 1997م، ص 7.
[10] انظر: أحمد الجهيني ومُحمَّد مصطفى، الإسلام والآخر، القاهرة: الهيئة المصرية العامَّة للكتاب، 2005م، ص 176.
[11] انظر: زكاري لوكمان: تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط / ترجمة شريف يونس، القاهرة: دار الشروق، 2007م، ص 84.
[12] انظر: أحمد الجهيني ومُحمَّد مصطفى: الإسلام والآخر، المرجع السابق، ص 178 – 179.
[13] انظر: مُحمَّد علي عمر الفرَّا، الإسلام والغرب: مواجهة أم حوار؟! مرجع سابق، ص 52.
[14] انظر: محمود حمدي زقزوق: الإسلام والاستشراق، ص: 71 – 102، في: نخبة من العلماء المسلمين، الإسلام والمستشرقون، جدة: عالم المعرفة، 1405هـ / 1985م، 511 ص.
[15] حصل للِّباس العربي في أوروبا والغرب بعض التحوير في شكل العباءة العربية، بما في ذلك لبس العمامة والذؤابة، وعمدت بعض المراكز العلمية العربية والإسلامية إلى استعارة هذا الشكل المحوَّر عن اللباس العربي وألبسته أساتذتها وطلبتها في المناسبات العلمية!
[16] انظر: عبدالله العلي العليان: الإسلام والغرب ما بعد 11 سبتمبر 2001، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005م، ص 200.
[17] انظر: جاك غودي: الإسلام في أوروبا؛ مرجع سابق، ص 110.
[18] انظر: مُحمَّد عبدالله مليباري. المستشرقون والدراسات الإسلامية، الرياض: دار الرفاعي، 1410هـ / 1990م، ص 36.
[19] انظر: جاك غودي، الإسلام في أوروبا؛ مرجع سابق، 232 ص.
[20] انظر: كارين آرمسترونغ، الإسلام في مرآة الغرب: محاولة جديدة في فهم الإسلام / ترجمة مُحَمَّد الجورا، ط 2، دمشق: دار الحصاد، 2002م، ص 18.
[21] انظر: عبدالراضي محمد عبدالمحسن: ماذا يريد الغرب من القرآن؟ الرياض: مجلة البيان: 1427هـ / 2006م، ص 72.
[22] انظر: زكاري لوكمان: تاريخ الاستشراق وسياساته؛ مرجع سابق، ص 84.