يوسف الصديق عليه السلام (5)
يوسف الصديق عليه السلام (5)
بعد أنَّ مكَّنَ الله عز وجل ليوسفَ وقرَّر ملِكُها جعلَه عزيزَها، وأطلق له حرية التصرف في خزائن الأرض، واحتاج القاصي والداني إلى الميرة من عنده، وكانت الأقطار المجاورة لمصر ولا سيما أرض كنعان في حاجة شديدة إلى الطعام وقتئِذٍ، صاروا يجيئون إلى يوسف عليه السلام يمتارون لأنفسهم وعيالهم وأهلهم، يحملون معهم إلى مصر ما عندهم من بضائع وأثمان، وكان يوسف عليه السلام قد قرَّر أنه لا يُعطى أحدٌ من هؤلاء إلا مقدارًا معينًا من الكيل في النوبة الواحدة، وله أن يرجع في وقت آخر في المستقبل ليأخذ مرة أخرى على الطريقة المعروفة في العصر الحديث، وفي بعض أمصار العالم بنظام التموين.
﴿ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ﴾ ليمتاروا عندما بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه، فأخذوا معهم بضاعةً يعتاضون بها طعامًا، وقد أبقى يعقوب عليه السلام ولده بنيامين عنده، فلما وصلوا إلى يوسف عليه السلام ودخلوا عليه عرفهم؛ لأنهم عندما رموه في الجُب كانوا كبارًا بالغين فلم تتغيَّر صُورهم، أمَّا يوسف عليه السلام عندما رُمي في الجب كان صغيرًا، والصغير إذا شب وبلغ أشده لا يكاد يعرفه مَن رآه في الصِّغر فقط؛ لأنه في الغالب تتغيَّر ملامحه؛ ولذلك لم يعرفْه إخوته ولم يخطر على بالهم أنه يوسف الصدِّيق، والظاهر أن يوسف عليه السلام أخذ يسألهم عن أحوالهم وأهليهم ليصل مِن وراء ذلك إلى الاطمئنان على حال أبيه وأخيه بنيامين، فعرَّفوه بحالهم وأن لهم أخًا من أبيهم؛ وأن أباهم هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فأكرمهم يوسف عليه السلام وأظهرَ العنايةَ بهم، وأمر بجهازهم ووفَّى لهم كيلَهم كأنه قال لهم: لقد شوَّقتموني إلى أخيكم من أبيكم وأنا حريصٌ على رؤيته، ولن تحصلوا على كيلٍ منَّا في المستقبل في النوبات القادمة إلا إذا جئتموني بأخيكم من أبيكم، ولكم منِّي زيادة في تكريمكم حينئذٍ بأني أزيدُكم كيلَ بَعير، وأضاعف لكم الميرةَ، وأوعز إلى غلمانه أن يدسوا في رحالهم جميعَ ما جاؤوا به من بضاعة؛ زيادةً في صلة رحمهم وإحسانًا إليهم، وإبقاءً لثرواتهم معهم ليعودوا بها إلى يوسف تحنثًا، وإنما لم يضع بضاعتهم في رحالهم علنًا؛ لأنه ربما يؤدي ذلك إلى امتناعهم عن أخذها.
وقد قالوا ليوسف عليه السلام: سنبذل كلَّ جهدنا في إحضار أخينا من أبينا معنا في المرة القادمة، وسنحاول مع أبيه في ذلك بكل ما نطيق، ولن نُقصِّر في ذلك.
فلما رجعوا إلى أبيهم أخبروه بقصَّتهم مع عزيز مصر، وأنه قرَّر ألا يكيل لنا في المستقبل إلا إذا أحضرنا أخانا بنيامين معنا، فنرجو أن ترسله معنا لنكتالَ، وسنحافظ عليه أشدَّ المحافظة، قال يعقوب عليه السلام: كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم؟! وزعمتم أنكم ستحافظون عليه عندما قلتم في يوسف: ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف: 12] لكنَّ الله تعالى هو الحافظ له، وهو خير الحافظين، ﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾، ﴿ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا ﴾ [يوسف: 65] ما نريد؟ لقد أوفى لنا الكيلَ وَرَدَّ إلينا بضاعتَنا، وأحسن مثوانا، فأرسل معنا بنيامين في المرة القادمة؛ لنَمير أهلنا؛ أي: نأتيهم بالميرة وهي الطعام، وسنحفظ أخانا، ﴿ وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ﴾ [يوسف: 65]؛ ذلك العطاء الجزل سهل على هذا العزيز الكريم، فقرَّر يعقوب عليه السلام أن يُرسل معهم بنيامين بشرط أن يُؤتوه عهدَ الله وميثاقَه أن يحافظوا عليه، وأنهم لا يقصِّرون في حِفظه إلا إذا بُلوا بشيء لا طاقةَ لهم به، ولا قدرةَ لهم على دفعه، فلما حلفوا له ووثقوا عهدهم أشهد يعقوب اللهَ تعالى على عهدهم وميثاقهم، و﴿ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [يوسف: 66].
ولمَّا تقرَّر سفرُهم للميرة نصَحَهم يعقوب عليه السلام بأنهم لا يدخلون من باب واحد، وإنما يدخلون من أبواب متفرِّقة؛ إما من خوف العين عليهم إذا كانوا مجتمعين، وعُرف أنهم أبناءُ رجل واحد، وإما من خوف أن يُحصَروا جميعًا إذا كان أُريد بهم شرٌّ، غير أن يعقوب عليه السلام بيَّن أن الحذر لا ينجي من القدَر، وأنَّ حِرصه على سلامتهم لن ينفعهم إذا كان الله عز وجل أراد أن يضرَّهم، فقضاء الله نافذ، وحكم الله غالِب، ولله وحدَه الحكم، وعليه أتوكَّل وأعتمد، ويجب على كلِّ مؤمن أن يكون توكله على الله واعتماده عليه وحده لا إله غيره ولا رب سواه.
وسارت القافلة ووصلوا إلى مصر، ﴿ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ﴾ [يوسف: 68] من الأبواب المتفرقة مع صِدق ما قال يعقوب عليه السلام أنه ما يُغني عنهم من الله من شيء؛ لأن الله وحدَه هو الحافظ، لكن الله تبارك وتعالى نفعهم بما علَّمهم أبوهم، وقد علمه الله عز وجل، فوصية يعقوب لبنيه وصية حقٍّ، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 68]، والعين حق؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العَيْنُ حَقٌّ))، كما أخرج مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العَيْنُ حَقٌّ، ولو كان شيءٌ سابقَ القدرِ لسبقتْهُ العين)).
وقد ذكرَ الله تبارك وتعالى ما كان من مجيء إخوة يوسف إليه ودخولهم عليه، وما صار من جهة الكيل ودسِّ البضاعة في أوعيتهم ورحالهم، وطَلَبِ أخيهم غيرِ الشقيق، ورجوعهم إلى أبيهم، ومُرَاودتِه في بنيامين حتى قرَّرَ إرساله معهم، ووصيَّة أبيهم لهم عند دخولهم، وتقرير أن الأمر كلَّه لله، وأن الحذر لا ينجي من القدر، والإشارة إلى أن العَيْنَ حَقٌّ، حيث يقول عز وجل:
﴿ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 58 – 68].
وقد أشار اللهُ تبارك وتعالى إلى أن إخوةَ يوسف لما دخلوا عليه ومعهم أخوهم بنيامين وتلقاهم يوسف عليه السلام بما يُثلج صدورهم ويطمئن نفوسهم، أسرَّ إلى بنيامين وقال له: ﴿ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ﴾ [يوسف: 69]، فلا تحزن بما أصابك من إخوتك بسبب الحسَد، وأمره ألَّا يخبرهم بأن هذا العزيزَ هو أخوهم، وتواطَأَ معه على أنه سيحتال على أن يُبقيه عنده، وأفهمه أن جمعَ جميعِ الأحبةِ قريبٌ؛ لما خططه يوسف عليه السلام ودبَّره حتى يجيءَ إليه أهله أجمعون، وعلى رأسهم أبوه يعقوب عليه السلام، وأنه لمَّا جهزهم بجهازهم، ووفَّى لهم كيلهم، وزادهم كيلَ بعيرٍ دَسَّ السقايةَ – وهو صُواع الملك – في رَحْل أخيه بنيامين، دون أن يراه أحدٌ من غلمانه أو غيرهم، ولما افتقد فتيان يوسف الصواع، وشاع أنه سُرق نادى منادٍ: ﴿ أَيَّتُهَا الْعِيرُ ﴾ يا أهل القافلة، ﴿ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾، قال أهلُ القافلة بمن فيهم من إخوة يوسف وقد انزعجوا: ماذا ضاع منكم؟ ﴿ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ ﴾ [يوسف: 72]، ولم يكن يوسف عليه السلام هو الذي نادى، ولا هو الذي أمر المنادي، وإنما المسؤول عن المحافظة على أمواله هو الذي نادى أو أمر المنادي، فلا يقول قائل: كيف يليق بيوسف عليه السلام مع علوِّ منصبه وشريف مرتبته من النبوَّة والرسالة أن يتَّهم أقوامًا بالسرقة وهم براء؛ لأنَّ عمل يوسف عليه السلام اقتصر على جعله ﴿ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ﴾، وهذه لا حرج فيها، أمَّا المنادي أو الآمر بالنداء فلم يكن يوسف عليه السلام، وقد قال أهلُ القافلة للمنادي بفقد الصواع: واللهِ لقد علمتم أننا في أَمَسِّ الحاجة للتردُّدِ عليكم، ومثلنا مع حاجته إليكم لا يُفْسِدُ في أرضكم، ولا يسرق منها، فقال المسؤولون عن المحافظة على الغلال والأمتعة: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين في دعواكم أن الصُّواع ليس معكم، وثبت أن صواع الملك في رَحْل بعضكم؟ قالوا: جزاءُ من وُجِدَ في رحله صواعُ الملك أن يؤخذَ ويصيرُ في خدمة الملك جزاءً له على ذلك، كذلك النظام الذي نجازي به السارقين.
وهنا بدأ يوسف عليه السلام بالتفتيش والبحث في رحالهم قبل التفتيش في رحل أخيه ووعائه؛ لأنه لو بدأ برحل أخيه لخطر ببالهم أنها حيلة لأخذ أخيهم، فأخَّر تفتيش رحل أخيه؛ ليدفع هذه الخاطرة عنهم، ثم استخرجها من وعاء أخيه، يقول الله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾؛ أي: كذلك ألهمنا إخوة يوسف أن يحكموا على مَنْ سرق الصواع بأن يؤخذ به كما ألهمنا يوسفَ بِدَسِّ الصُّواعِ في رحل أخيه، وهذا الذي فعله يوسف عليه السلام من الكيدِ المحبوب الذي يحبه الله ويرضاه، ولكن الله عز وجل يرفع من يشاء من عباده درجات، ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 76].