العالم الصالح والشيخ الناصح عبد الله بن محمد بديع ذو الغنى (PDF)
العالم الصالح والشيخ الناصح
عبد الله بن محمد بديع ذو الغنى
(1378- 1444هـ/ 1959- 2022م)
رحم الله ابنَ عمِّنا فضيلةَ الشيخ العالم، والمحدِّث المسنِد عبد الله ذو الغنى، أحسَبُه من العلماء الصالحين المخلِصين، ومن الدعاة الأتقياء الأخفياء الصادقين، ومن العبَّاد المتواضعين المُخبِتين، العازفين عن الظهور والشُّهرة.
عاش عمرَه في طاعةِ الله ورسوله، وطلبِ العلم والتعليم، نائيًا بنفسه عن زهرة الدنيا وبهجَتها.
نسبه وولادته
هو أبو محمَّد عبد الله بن محمَّد بديع، بن عبد الهادي، بن أحمد، بن محمود، بن طالب، بن محمد ذو الغنى القُرَشيُّ، يرجع نسبُه إلى الصحابيِّ الجليل عَمرِو بن العاص بن وائل السَّهْميِّ القُرَشيِّ الكِنانيِّ رضي الله عنه. ويلتقي في نسبه مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في جدِّه كعب بن لؤيٍّ.
وُلد في حيِّ المَيدان بدمشق، زُقاق العَصا بمحلَّة مَصطَبة سعد الدين (نفوس ساسة 18)، صباح يوم السبت سابع ذي الحِجَّة عام 1378هـ، يوافقه 13حَزِيران عام 1959م، على ما دوَّنه أبوه رحمه الله يوم ولادته.
وخالُ أبيه علَّامةُ الشام الشيخُ محمَّد بهجة البَيطار (ت 1396هـ/ 1976م)، وصهرُه (زوج خالته) هو محمد ابنُ شيخ قرَّاء المَيدان العالم المقرئ سَليم اللَّبَني (ت 1399هـ/ 1979م)، رحمهم الله تعالى.
تعلُّمه وتحصيله
نشأ في كنَفِ أبيه الصالح الحاجِّ محمد بديع ذو الغنى، وتلقَّى تعليمَه النظاميَّ في مدارس دمشق، ونال شهادة الدراسة الثانوية الفرع العلمي عام 1978م، ومن أساتذته في ثانوية جودة الهاشمي: سيِّدي الوالدُ المربِّي أحمد ذو الغنى رحمه الله، درَّسه مادَّتي الفيزياء والكيمياء، والأستاذُ الشيخ محمد راتب النابُلُسي، درَّسه مادَّة اللغة العربية. وخلَّف الأستاذ النابلُسي أثرًا طيِّبًا في نفسه ونفوس زملائه؛ بتوجيههم إيمانيًّا وتربويًّا بأسلوب غير مباشر، والنصح لهم بما يقوِّم سلوكهم، ويجنِّبهم الفتنَ التي طالما زلَّت بها أقدامُ الشباب في تلك المرحلة العُمْرية.
وحُبِّب إليه في وقت مبكِّر طلبُ علوم الشريعة والعربية فقصَد مجالسَ عدد من كبار شيوخ حيِّ المَيدان؛ الشيخ حسن حَبَنَّكة المَيداني، وشقيقه الشيخ صادق حَبَنَّكة، وشيخ القرَّاء حسين خطَّاب. ولزم الشيخَ د. مصطفى ديب البُغا في جامع الغوَّاص وتخرَّج عليه في الفقه الشافعي.
واضطُرَّ إلى الهجرة من سورِيةَ إلى لبنانَ عام 1980م، وهو في الحادية والعشرين من عمره. ورغب في التخصُّص بعلوم الشريعة فانتسبَ في بيروت إلى كلِّية الإمام الأَوزاعيِّ للدراسات الإسلامية، وحصل منها على شهادة (ليسانس) دراسات إسلامية عام 1989م، ثم التحقَ بالجامعة اللبنانية كلِّية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية عام 1992م، درسَ فيها سنتين ولم يُتمَّ دراسته.
وقد انقطع في بيروت لطلب العلم، وواظبَ على حضور دروس علمائها وشيوخها، ولا سيَّما دروسِ فضيلة الشيخ مفتي البِقاع خليل المَيس رحمه الله (ت 1442هـ/ 2021م)، الذي استحكمَت صلتُه به، وتبوَّأ عنده منزلةً رفيعة من الحبِّ والتقدير. وكان الشيخُ يوجِّه بعضَ طلَّابه إلى تعلُّم الأدب منه، ويصفه بقوله: عبد الله ذو الغنى مخلِصٌ وفيٌّ، ومُجدٌّ مثابر، وذو خُلقٍ رفيع.
وحفظ جُلَّ القرآن الكريم على الشيخ محمد بن درويش رمضان (ت 1421هـ/ 2000م) في جامع الخاشقجي ببيروت، وكان من أوائل من قرأ عليه ختمةَ ضبطٍ وإتقان مع حفظ الجزَرية، وأجازه بإقراء القرآن الكريم بإجازته من الشيخ المقرئ المربِّي حسين أحمد عُسَيران الصَّيداوي نزيل بيروت (ت 1426هـ/ 2005م)، وذلك بتاريخ 12 ربيع الأوَّل 1413هـ يوافقه عاشر أيلول 1992م.
ولإتقانه العالي للتلاوة والتجويد كلَّفه الشيخُ رمضان الإشرافَ على بعض طلَّابه الجدُد في مسجده، كالشيخ الفاضل أمين سليم الكُردي أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية حاليًّا وفَّقَه الله، وكان يقول لهم: إذا أردتُّم الإتقانَ فاقرؤوا كما يقرأ الشيخ عبد الله ذو الغنى.
ولزم دروسَ الشيخ المحدِّث د. بسَّام الحَمْزاوي سنواتٍ طويلة، قرأ عليه فيها في الفقه والأصول والتفسير وعلوم العربية؛ ومن الكتب التي قرأها ودرسها عليه: “منهاج الطالبين” للإمام النَّوويِّ في الفقه الشافعي، و”منهاج الوصول إلى علم الأصول” للبَيضاويِّ، وتفسير الإمام النسَفيِّ “مدارك التنزيل وحقائق التأويل”، و”شرح قطر النَّدى وبلِّ الصَّدى” لابن هشام في النحو، و”البلاغة الواضحة” لعلي الجارِم ومصطفى أمين. فضلًا عن علوم الحديث وكتب السنَّة على ما سيأتي.
ثم قرَّر بأخَرةٍ إكمالَ دراسته العليا، فاختار موضوعًا مهمًّا ودقيقًا في دراسة الحديث النبويِّ الشريف أصوليًّا، باقتراح من شيخه د. بسَّام الحَمزاوي، فكان موضوع رسالته في (الماجستير): (قسم الأفعال من كتاب التقاسيم والأنواع للإمام ابن حِبَّان البُستي، دراسة أصولية)، بإشراف الشيخ المحدِّث الأستاذ الدكتور علي نايف بِقاعي، ومناقشة الشيخَين المحدِّثَين الأستاذ الدكتور صالح معتوق، والأستاذ الدكتور وَفيق حِجازي مفتي راشَيَّا، وكانت المناقشة في 24 من شوَّال 1442هـ يوافقه الخامس من حَزِيران 2021م، وحصل على الشهادة بتقدير ممتاز. وهي على الحقيقة رسالةٌ في علم أصول الفقه التطبيقي؛ لاعتمادها على القواعد الأصولية التي استخرجها ابنُ حِبَّان من الأحاديث الشريفة.
وقد طُبعت الرسالة في كتاب بعنوان “كتاب التقاسيم والأنواع لابن حِبَّان، قسم الأفعال دراسة أصولية”، بتقديم الشيخين المحدِّثين د. علي بِقاعي، ود. بسَّام الحَمزاوي، في مركز علوم الحديث النبوي الشريف للنشر والدراسات العلمية والطباعة والتوزيع، في صَيدا، عام 1444هـ/ 2022م، في 323 صفحة. وجعلَ إهداء الكتاب إلى والدَيه الراحلَين رحمهما الله تعالى؛ وفاءً لهما، وبِرًّا بهما، قال فيه: “اللهمَّ اجعل عملي هذا صالحًا، ولك خالصًا، وللأمَّة نافعًا، وتقبَّله منِّي. اللهمَّ اجعله صدقةً جاريةً في صحيفة والديَّ الحبيبَين الكريمَين: والدي محمد بديع ذو الغنى الذي وجَّه عينيَّ وأعينَ إخوتي نحو كتاب الله منذ لحظة الوعي الأولى، وكان عونًا لنا في كلِّ خير. ووالدتي ربيعة ذو الغنى التي أمضَت حياتها قائمةً بدينها، وفيَّةً لزوجها، ترعى بيتَها، وتدعو لأولادها بالخير والصَّلاح والرضا”.
وكان أرسل إليَّ رسالةً أنبأني فيها أنه بصَدَد إرسال نسخةٍ من الكتاب هديةً إليَّ في الرياض، ولم تصِل إلا بأخَرةٍ بعد رحيله يرحمه الله. وقد حلَّاها بكلمة إهداء شرَّفني بها، وأحسن الظنَّ بي قائلًا: “تقدمة إلى ابن عمِّي وأخي الحبيب الطيِّب الشيخ أيمن أحمد ذوالغنى، مع الحبِّ والتقدير، وأرجو الله تعالى أن يجمعَنا على ما يحبُّ ويرضى، مع الرجاء بدعوة صالحة”. وأرَّخ الإهداء في 28 من المحرَّم 1444هـ يوافقه 26/ 8/ 2022م.
مع السُّنَّة الشَّريفة
فضلًا عن عناية الشيخ بالقرآن الكريم قراءةً وإقراءً، اعتنى بالسنَّة النبوية الشريفة وعلومها، فأقبل على تحصيلها روايةً ودراية، وحرَص على حضور مجالس السَّماع لكتب الحديث النبويِّ الشريف التي أُقيمت في بيروت، وأجازه عددٌ من أفاضل شيوخ الحديث والرواية المحصِّلين إجازاتٍ خاصَّة وعامَّة قراءةً وسماعًا، ومنهم شيخُنا المؤرِّخ المسنِد محمد مطيع الحافظ، والشيخُ المحدِّث المسنِد حسين حسن صَعْبيَّة، والشيخُ المحدِّث المسنِد عبد الحميد بن منير شانوحة، وشيخُنا المحدِّث المسنِد محمد بن ناصر العَجْمي، وشيخُنا المحدِّث المسنِد د. بسَّام الحَمزاوي، وشيخُنا الحافظ الجامع المقرئ والمحدِّث المسنِد د. يحيى الغَوثاني.
وممَّا سمعه على شيخنا الحَمزاوي: الكتب الستَّة (البخاري، ومسلم، وأبو داود، والتِّرمِذي، والنَّسائي، وابن ماجه)، و”موطَّأ الإمام مالك” برواية يحيى بن يحيى اللَّيثي، ورواية محمد بن الحسن الشَّيباني، وكثيرًا من “مسند الإمام أحمد بن حنبل” (توفِّيَ قبل إتمام الكتاب)، و”سنن الدَّارِمي”، و”الأدب المفرد” للبخاري، و”المعجم الصغير” للطَّبَراني.
وقرأ عليه غيرَ قليل من كتب المصطلح، منها: “شرح البيقونية”، و”نزهة النظَر في توضيح نخبة الفِكَر” للحافظ ابن حَجَر، و”إرشاد طلَّاب الحقائق إلى معرفة سُنن خير الخلائق” للإمام النَّووي، و”علوم الحديث” لابن الصَّلاح، واختصاره لابن كثير، و”ألفية الإمام السُّيوطي”، وحضر معه جلَسات مذاكرة في “تدريب الراوي شرح تقريب النواوي” للحافظ السُّيوطي.
وممَّا سمعه على شيخنا العَجْمي من كتبه ومرويَّاته وتخريجاته وتحقيقاته وغيرها: “الأربعون الحنبلية المسموعة” وهي أربعون حديثًا ممَّا ساقَه الأئمَّة من طريق الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل، و”ثلاثيَّات مُسنَد الإمام أحمد بن حنبل” لمحبِّ الدين المَقْدِسي، و”جُزءٌ فيه ستَّة مجالس” من أمالي شيخ الحنابلة القاضي أبي يَعْلى الفَرَّاء، و”جنَّات ونهَر في أحاديث سيِّد البشَر” وفيه سياقُ أسانيد شيوخ العصر إلى كتاب العلم من صحيح البخاري، و”الأربعون الأبدال العَوالي المسموعة بالجامع الأموي بدمشق” لمؤرِّخ دمشق الحافظ أبي القاسم ابن عساكر، و”كتاب اليقين” للإمام الحافظ ابن أبي الدنيا، و”كتاب مكارم الأخلاق” للإمام الحافظ أبي القاسم الطبَراني، و”مأخَذُ العلم” للإمام اللغوي أحمد بن فارس، و”بداية العابد وكِفاية الزاهد” في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للإمام عبد الرحمن البَعْلي، و”أخصَر المختصَرات” في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، للإمام ابن بَلبان الدمشقي الحنبلي.
وممَّا سمعه على شيخنا الغَوثاني: “موطَّأ الإمام مالك”.
وممَّا سمعه على الشيخ صَعْبيَّة شيخ دار الحديث الأشرفية بدمشق: صحيح البخاري كاملًا.
وممَّا سمعه على الشيخ شانوحة ضمن نشاطات الزاوية البيروتية للتدريس العتيق: “كشف الكُربة في وصف أهل الغُربة”، و”ذم قسوة القلب” كلاهما للحافظ ابن رجب الحنبلي، و”القصيدة المُنفَرِجة” للإمام أبي حامد الغَزالي، و”المُزدَوِجة الحَسْنا في الاستغاثة بأسماء الله الحُسْنى” ليوسف بن إسماعيل النبهاني.
وفي زيارةٍ لشيخه القديم د. مصطفى ديب البُغا إلى بيروت في آذار عام 2019م سمع عليه “عُمدة الأحكام” روايةً ودراية، وأجازه به. واستضافه الشيخُ عبد الله في بيته مع لفيفٍ من أهل العلم والفضل، وأولمَ لهم.
وتولَّى الشيخُ عبد الله تدريسَ مادَّة الحديث النبويِّ في (مركز علوم الحديث النبوي الشريف) الذي أسَّسه شيخُنا بسَّام الحَمزاوي، بمدينة صَيدا في لبنان، من بواكير إنشائه، وفي (دار اقرأ) في بيروت، وفي المساجد التي تولَّى إمامتَها والخطابةَ فيها. ونفع الله به في صَيدا وبيروت وطرابُلُس؛ فتخرَّج به أجيالٌ من طلَّاب العلم في القرآن والحديث والفقه والآداب، ومنهم من نبُهَ واشتَهَر، جزاه الله خيرَ الجزاء.
شمائله وسَجاياه
امتنَّ الله سبحانه على الشيخ عبد الله بصفاتٍ كريمة، وخصالٍ شريفة؛ هي صفاتُ الربَّانيين من عباد الله المخلَصِين، نحسَبه كذلك ولا نزكِّيه. ولعلَّ أظهرَها في شخصيَّته ثلاثُ صفات: أوَّلها الشَّغَف بالعلم، وثانيها العبادة والإخبات، وثالثها التواضُع وهضم الذات.
أمَّا شغفُه بالعلم فتجلَّى في حِرصه الدائم على حضور مجالس العلم، والاستزادة من التحصيل الشرعي، والرغبة الصادقة في التعلُّم؛ في صحَّته وسقَمِه، مُذ كان غلامًا فتيًّا إلى أن لقيَ وجه ربِّه، وقد بقي يحضُر مجالسَ العلم في مرضه الأخير والخُرطومُ الطبِّي ممدَّدٌ إلى أنفه. وحِرصُه هذا على العلم جعله ضَنينًا جدًّا بوقته، لا يكاد يُضيع دقيقةً واحدةً في غير تعلُّم أو تعليم، أو طاعة وعمل صالح.
وأمَّا عبادتُه وإخباتُه فكان دائمَ الإقبال على ذِكر الله تعالى في حضور قلبٍ وخشوع جوارح، والإلحاح بالدعاء بتذلُّل وخضوع، محافظًا على قيام الليل والتهجُّد لا يكاد يدَعُهما إلا لظرف قاهر. وكان قلبُه معلَّقًا في المسجد، شديدَ الحِرص على الصلوات الخمس في الجماعة، حتى مع استحكام مرضه، وشدَّة إعيائه، كان يتجلَّد ويتصبَّر ويمضي إلى المسجد على قدميه، محتسبًا الأجرَ عند الله. ولم يُعرَف عنه الإفطارُ يومَي الاثنين والخميس إلا لِما يراه عُذرًا غالِبًا.
ومن أعماله الصالحة التي كان يخفيها تصدُّقه بعُشْر راتبه لوجه الله تعالى، مع أنه لم يكن من ذوي اليَسار، بل لم يكن ممَّن تجِبُ عليه الزكاة. وحجَّ الشيخُ ثلاث حِجَّات وكان مرشدًا دينيًّا في الحجِّ فأدَّى عمله بأمانة وعلوِّ همَّة، ولم يألُ في إفتاءٍ ووعظ وتوجيه، وكان قدوةً للحُجَّاج بسلوكه وحالِه، قبل لسانه وقالِه.
وأمَّا تواضعُه وهضمُه ذاتَه فكان لا يرى نفسَه شيئًا ذا بال، مُؤْثرًا الصَّمتَ والخفاءَ، وخفضَ الجناح لطلَّابه وإخوانه والمؤمنين. ولم يكن يجدُ غَضاضةً في القراءة والإفادة ممَّن هم أصغرُ منه سنًّا وأقلُّ خبرة؛ رائدُه في ذلك قولُ وَكيع بن الجرَّاح: ” لا يَنبُل الرجلُ حتى يكتبَ عمَّن هو فوقه، ومَن هو مثله، ومَن هو دونه”. وكم طلبتُ إليه أن يزوِّدَني بسيرته الشخصية فكان يأبى تواضُعًا، وكَبْحًا لحظوظ نفسِه.
ولا أُراني مغادرًا هذه الفِقرةَ حتى أذكرَ ثلاث مناقبَ أُخرى من شمائله الرفيعة لا مَندوحةَ عن ذكرها؛ وهي: العفاف، والأمانة، والحكمة.
أمَّا عفافُه فقد كان شديدَ الصِّيانة لنفسه ودينه وأخلاقه، في بيئة متغرِّبة متفلِّتة، لا يكاد يَسلَمُ فيها من الفتن إلا من عصمَه الله منها. قَدِمَ إليها وهو في مَيعة الصِّبا وشِرَّة الفتوَّة، فكان حازمًا في غضِّ بصَره وحفظ فَرْجِه، ينأى بنفسه عن مواطن المُيوعة والشُّبَه، مستقيمًا على الجادَّة التي أمر الله بها، لا يَحيدُ عنها ولا يتنكَّبُ سَننَها.
وأمَّا أمانتُه فكان يراقب الله في أعماله الوظيفية وتعامُلاته المادِّية، وفي كلِّ ما حمل على كاهِله من مسؤوليَّاتٍ تتصل بتوزيع الصَّدَقات والزَّكَوات والمساعدات؛ يؤدِّي لأصحاب الحقوق حقوقَهم، من غير بَخْسٍ ولا ظلم ولا تطفيف. ولا تمتدُّ عينُه إلى ما ليس له حقٌّ فيه، فعُرفَ بالصِّدق والأمانة، وحَظِيَ لدى كلِّ من عمل معهم حتى ممَّن كانوا على غير دينه ومِلَّته، ووثِقَ به الغريبُ قبل القريب.
وأمَّا حكمتُه فقد حَباه الله منها نصيبًا وافرًا، ولا سيَّما في استجلاب القلوب الشاردة عن مَهْيَع الحقِّ، والأفئدة الضالَّة عن سبيل الهداية والرُّشد، يلبَسُ لكلِّ موقفٍ لَبوسَه اللائقَ به، ويخاطب كلًّا باللسان الذي يَعقِلُه، فهدى الله على يدَيه كثيرًا من الخلق؛ بحُسن تأتِّيه وسلامة طَوِيَّته.
مرضه ووفاته
ابتُليَ الشيخُ بداء السَّرطان في المَرِيء قرابةَ ثلاث سنين، كابدَ فيها ما لا يكاد يُطاق من أَوْصاب، لكنَّه بفضل الله الكريم أبدى من الصَّبر والاصطِبار، ومن الرضا بقضاء الله والتسليم لأمره، ما يُرجى له أجرُ أُولي العزم من الصابرين.
وأُجريت له جِراحةُ استئصالٍ لثُلُثَي المَرِيء وجُزءٍ من المَعِدة، وناقشَ رسالته للماجستير وهو يعاني آلامًا مبرِّحة، ولكن مضَت المناقشةُ بسلام ولله الحمد. وشاء سبحانه بحكمته ألا يُجديَ العلاجُ نفعًا، فعاد البلاء أشدَّ وطأةً وأمضَّ وجعًا، مع التهابٍ شديد أصاب رئتيه، بقي يعاني من جرَّائه حتى أُدخلَ العناية المشدَّدة (الفائقة) في المركز الطبِّيِّ بالجامعة الأميركية في بيروت، ولبِثَ فيها قرابةَ ثمانية أيام، حتى وافته منيَّتُه مساء يوم الأحد 27 من ربيع الأوَّل 1444هـ يوافقه 23 من تشرين الأول 2022م، رحمه الله تعالى وجعل ما ابتلاه به من نصَبٍ ووصَبٍ كفَّارةً ورِفعة، وعزاؤنا أنه مات مهاجرًا غريبًا مريضًا، ونرجو أن يكون صدِّيقًا شهيدًا.
وصُلِّي عليه أَصِيلَ يوم الاثنين 28 من ربيع الأوَّل في جامع البساتنة، ودُفن في جَبَّانة (مَقبَرة) الأوقاف الإسلامية الجديدة (الحرج) ببيروت.
إن العين تدمَعُ، والقلبَ يحزَنُ، ولا نقول إلا ما يَرضَى ربُّنا: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
♦♦♦♦♦
أسرته
جدُّه:الحاجُّ عبد الهادي بن أحمد ذو الغنى: من وجهاء حيِّ المَيدان وتجَّاره و(قبضاياته). عُرف بالصَّلاح والورع، والشَّهامة والمروءة، وله مواقفُ مشهودة في الشَّجاعة والجرأة وقوَّة الشَّكِيمة. وكانت تجارتُه بين الشام وقرى حَوران. توفي عام 1350هـ/ 1933م. تزوَّج بهيجة بنت محمد بهاء الدين البَيطار، شقيقةَ الشيخ العلَّامة محمد بهجة البَيطار رحمهما الله.
ووالده:الحاجُّ أبو نصوح محمد بديع بن عبد الهادي ذو الغنى، وُلد بحيِّ المَيدان في دمشق عام 1337هـ/ 1919م: شيخ فاضل عصامي، من أهل الورع والعبادة، أُولعَ بتلاوة القرآن الكريم فكان يقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، ويختمُه في الشهر أربع مرَّات على الأقل. حضر دروسَ الشيخ حسن حَبَنَّكة، والشيخ حسين خطَّاب، وصَحِبَ الشيخ صادق حَبَنَّكة ولازمه، وكان من خَواصِّه وأخدانه. وتأثَّر بخاله العلَّامة السَّلَفي الشيخ محمد بهجة البَيطار، رحمهم الله أجمعين.
افتَتَح سنة 1939م مكتبةً صغيرة لبيع الكتب و(القرطاسية) في محلَّة الجَزماتية قرب جامع الأمير مَنجَك في حيِّ المَيدان، وبقي يعمل فيها حتى وفاته عام 1420هـ/ 1999م. كان كتبَ مذكِّرات شخصية عن أصل أُسرته وتاريخها وجدودها، أفدتُّ منها كثيرًا في كتابي (أُسرة ذو الغنى الدمشقية، تاريخ وأعلام) يسَّر الله تمامه، وخلَّف قصائدَ وأشعارًا منها قصيدةٌ في رثاء خاله الشيخ البَيطار.
ووالدته: أم نصوح ربيعة بنت سليمان، بن حسين، بن محمود، بن طالب، بن محمد ذو الغنى، وُلدت بحيِّ المَيدان في دمشق عام 1340هـ/ 1921م، وتوفيت فيها عام 1428هـ/ 2007م، ولم تكن حجَّت، فحجَّ عنها ولدُها الشيخ عبد الله عام 1438هـ. وهي أختٌ غير شقيقة لزوج عمَّتي الشيخ أبي عدنان محمد بن سليمان ذو الغنى (1332- 1418هـ/ 1914- 1998م)، أحد مؤسِّسي دار الحديث الأشرفية بدمشق عام 1953م، في مِنطَقة العَصْرُونية، برَآسة الشيخ محمود الرَّنْكُوسي (ت 1405هـ/ 1985م) رحمهم الله جميعًا.
وزوجته: الأستاذة الحاجَّة ناهد بنت محمد الفاكهاني، وُلدت في بيروت عام 1390هـ/ 1971م، تزوَّجها الشيخ عبد الله في مَطلَع عام 2004م، وتولَّى عقدَ قِرانهما فضيلةُ الشيخ خليل المَيس رحمه الله، ثم زاره مهنِّئًا. وهي حاصلةٌ على الإجازة في اللغة العربية وآدابها، وعلى الإجازة في اللغة الإنكليزية وآدابها، وعلى دبلوم دراسات عليا باللغة العربية، ودبلوم دراسات عليا في التربية (طرائق تدريس اللغة العربية وآدابها)، وانتسبت إلى كلِّية الشريعة، وحالت أعباءُ الأسرة دون إتمامها الدراسة. حافظة لكتاب الله تعالى، وحضرت مع زوجها غيرَ قليل من مجالس رواية الحديث، ولها إجازاتٌ فيما سمعت من كتب السنَّة. عملت في التعليم وفي التصحيح اللغوي والتحرير الأسلوبي، وهي مربِّية صالحة فاضلة، وعاقلة حكيمة رَزينة، وفَّقَها الله وصبَّرها.
وولداه: محمد بن عبد الله ذو الغنى، وُلد في بيروت عام 1425هـ/ 2005م، طالب في أُولى سنوات دراسته الجامعية بتخصُّص هندسة الحواسيب والاتصالات.
وحسن بن عبد الله ذو الغنى، وُلد في بيروت عام 1426هـ/ 2005م، طالب في آخر سنوات المرحلة الثانوية. وقد حضَرا مع والدهما كثيرًا من مجالس الحديث والسَّماع، ولهما إجازاتٌ ببعض الكتب، وفَّقَهما ربِّي وجعلهما خلَفَ خيرٍ لأبيهما الفاضل الراحل.
♦♦♦♦♦
شهادات عارفيه
● قال الشيخ المحدِّث الدكتور صالح معتوق وكان عضوًا في لجنة مناقشة رسالة الشيخ عبد الله للماجستير:
إنني أشرَفتُ وناقشتُ قرابة 400 رسالة علمية بين رسائل ماجستير ودكتوراه، ولكنَّ الرسائل التي أعتزُّ بها؛ لما بذله فيها أصحابُها من جهد جادٍّ أصيل، ولما فيها من سداد منهج وعلم وتقصٍّ وفوائد، لا تزيد على عشرين رسالة، ومن هذه الرسائل رسالةُ الشيخ عبد الله ذو الغنى.
● ووصفه شيخنا المحدِّث المسنِد المحقِّق محمد بن ناصر العَجْمي بقوله:
الشيخ عبد الله ذو الغنى رحمه الله كنت أحبُّه جدًّا، وهو من أهل القرآن وقرَّائه، ومَظِنَّة ولاية وتقًى. وقد رأيت فيه الصدقَ والديانة والصلاح، وصدق اللهَج في الدعاء، وكان إليه المنتهى في الأدب والتصوُّن، ويعامل إخوانه وأصحابه وكأنه التلميذُ وهم شيوخه.
وإن رؤيتَه والإصغاء إلى كلماته وسماع دعَواته، تبعث في النفس حبَّ الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتذكِّر بالدار الآخرة، وهو من نوادر من رأيتُ في هذا الباب، ولا أزكِّي على الله أحدًا. كان حريصًا على حضور جميع مجالس سماع حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم التي أقمتُها وأُقيمَت في بيروت، تقبَّل الله منه وغفر لنا وله.
● وذكر طرفًا من شمائله فضيلةُ الشيخ أمين بن سَليم الكُردي (أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية) قائلًا:
إن ممَّن منَّ الله عليهم وخصَّهم بالمراتب العَليَّة – ولا نزكِّيه على الله تعالى – الشيخَ عبد الله ذو الغنى رحمه الله تعالى، فقد عرفته في أوائل أيام جلوسي بين يدي الحاج محمد رمضان رحمه الله؛ لتعلُّم القرآن الكريم، قبل دخولي كلِّية الشريعة، وما زلتُ أذكر ذلك اليومَ عندما قال لي الحاج محمد رمضان رحمه الله: “إذا أردتَّ أن تُتقنَ القرآن الكريم فكُن مثلَ ذاك الرجل الذي يجلس هناك”، وكان الرجلُ الشيخ عبد الله ذو الغنى رحمه الله تعالى. ومنذ ذلك الوقت وأنا أنظرُ إليه؛ إلى تواضُعه وزهده، وسَمْته الحسَن وأدبه، وصوته المنخفض اللطيف، ولينه وطَرْفه الحيي.
الشيخ عبد الله صحبةُ سنواتٍ طويلة وأُخوَّةٌ في الله رائعة، ومعرفةٌ قديمةٌ في مجالس العلم والمساجد وميادين الطاعات والعبادات. رجلٌ كان يعيش خارجَ زماننا الصَّاخب بعيدًا عن كل الضَّجيج، يعيش في ذلك الهدوء الذي تراه في قول الله عزَّ وجلَّ:
﴿هُوَ الَّذي أنزَلَ السَّكِينةَ في قُلُوبِ المُؤمِنينَ لِيَزدادُوا إيمانًا مَعَ إيمانِهِم ولِلَّهِ جُنودُ السَّماواتِ والأرضِ وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: 4].
رحمَكَ الله تعالى يا صديقي، لم تَنَلْ منَ الدُّنيا لأنك لم تطلُبها، ولم تَنَلِ الدُّنيا منكَ لأنها لا تقوى على مَن هم مثلُك.
أسأل الله تعالى أن يحفظَ عائلتَك وذرِّيتَك، وأن يتمِّمَ حفظ القرآن لولدَيك كما أحببتَ ورغبت.
رحمَكَ الله يا أخي الحبيب، وتقبَّلَ منك تعليمَك لكتابه المجيد، وتدريسَك لحديث نبيِّه المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم، ونشرَكَ لمختلِف العلوم الشرعية.
نفعَ الله تعالى المسلمين بما ألَّفتَ وكتبتَ وجعلتَه صدقةً جاريةً من بعدك.
ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا سبحانه: ﴿إنَّا لِلَّهِ وإنَّا إليهِ راجِعُون﴾.
والمُلتَقى الجنَّة بإذن الله تعالى.
● وكتب في نعيه فضيلةُ الشيخ محمود أحمد عَكَّاوي (شيخ قرَّاء بيروت، وإمام وخطيب المسجد العُمَري الكبير، ومدير مركز خدمة القرآن الكريم التابع لدار الفتوى):
رحمك الله رحمةً واسعة يا خادمَ كتاب الله، وسنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم. في الثمانينات حينما كنتُ أحفظ كتاب الله تعالى تعرَّفت على شيخي عبد الله ذو الغنى في مجلس الحاج محمد رمضان رحمه الله في مسجد الخاشقجي، حيث كان كتابُ الله يجمعنا، فربطَتني به صحبةٌ طيبة، وكنت أذهب إلى بيته في مِنطَقة الغبيري حيث كان يسكن، وأقرأ عليه محفوظاتي، فيضبِطُ لي مخارجَ الحروف والصفات، وكان يُكثر لي من النصيحة.
كان نعمَ الأخُ والصديق والأستاذ والشيخ، كان ذا خُلُق وأدب وتواضع وسَمت حسن، قليلَ الكلام، متمسِّكًا بدين الله تعالى وسنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
مُلتقانا عند حوض حبيبنا وسيِّدنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم.
● ورثاه الشيخ عبد المنعم الخالد أبو المعتصم (إمام جامع العفيف في حيِّ المهاجرين بدمشق سابقًا) بقوله:
قويٌّ في دينه، مقبلٌ على ربِّه، ناصحٌ لمن حوله، يبغي الخير في الأعمال والأقوال، مُخبتٌ، راضٍ بقضاء الله تمام الرضا، محبٌّ للصالحين من عباد الله، وهو منهم والله حَسيبُه. خالطتُه في عملٍ مدَّةَ عامين فما شهدتُّه أفطرَ يومَي الاثنين والخميس لا صيفًا ولا شتاءً!
ليت الذين يبغُون الصدارةَ والوجاهة، ويطلبونها ليلَ نهارَ، يبلغون مُدَّهُ في الأخلاق أو نَصِيفَه!
اللهم ارحم عبدَك عبد الله ذو الغنى وأنزله منازلَ الصدِّيقين.
● وكتب الشيخ محمد الحنجول:
“الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” كتابٌ جليل للإمام الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى، كنَّا نقرؤه بصُحبة صديقنا وشيخنا الحبيب عبد الله ذو الغنى مع ثُلَّةٍ من الإخوة المشايخ طلَّاب العلم، على شيخنا المحدِّث د. بسَّام عبد الكريم الحَمزاوي حفظه الله ورعاه. وما زلت أذكر تلكمُ الليلةَ التي كنَّا نقرأ في الكتاب بعد منتصف الليل في منزل شيخنا وفقيدِنا الغالي الشيخ عبد الله ذو الغنى، وقد أمدَّ لنا سُفرةً غنيَّة بطعم أخلاق العلم قبل طِيب الطعام.
“الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” ليس مجرَّدَ كتاب قرأناه، وإنما هو رجلٌ تجلَّت فيه أخلاقُ طلَّاب العلم والعلماء، تجلَّت في شيخنا وفقيدنا الغالي الشيخ عبد الله، صاحبِ التواضُع الرفيع، والصَّدر الرحب، والابتسامة الواسعة، والحِرص الشديد على الصُّفوف الأماميَّة في طلب العلم والعمل الصالح.
الشيخ عبد الله ذو الغنى الذي عشق العلمَ وأحبَّه أهلُه، ولطالما كان المقدَّمَ في الدعاء؛ التِماسًا للإجابة، لصلاحه الظاهر والباطن، نحسَبُه كذلك ولا نزكِّي على الله أحدًا.
إلى اللقاء يا شيخنا الحبيب، رحمك الله، آنسَك الله، عوَّضَك الله الجنَّة، وحفظ أهلك من كلِّ سوء وشرٍّ، وجعلهم خيرَ خلفٍ لخير سلف، ورفع قدرَك في أعلى علِّيِّين، مع النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسُنَ أولئك رفيقًا.
● ومن أصحابه في الحجِّ الشيخُ الحاجُّ ضرار حمُّود، وقد أرسل شهادته في رسالة صوتية قائلًا:
لله ما أخذ وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجل مسمًّى، فلنصبِر ولنحتسِب. أعظمَ الله أجرَنا، وأحسنَ عزاءنا، وغفر لميِّتنا.
إن موت الشيخ عبد الله ذو الغنى الذي كان رفيقَنا في الحجِّ، وصاحبَنا وشيخَنا وإمامنا، وأخانا وحبيبنا.. رحمه الله رحمةً واسعة، مُصابٌ كبير، فقد كان صاحبَ همَّة عالية في الإيمان، فهو عالم كبير ومتواضع جدًّا لا ترى فيه أيَّ شيء من التكبُّر، والله يتولَّى السَّرائر، نحسَبُه كذلك ولا نزكِّي على الله أحدًا.
نحسَبُه من أهل العلم، وأهل الصدق، وأهل الإخلاص، ومن أهل الحديث، كان يدرِّس الحديثَ الشريف، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: “نضَّر الله امرَأً سمعَ مقالتي فوعاها، وبلَّغَها كما سَمِعَها”، وقال: “بلِّغُوا عنِّي ولو آية”، وكان الشيخُ مبلِّغًا بكلِّ تواضع، وداعيًا إلى الله بعلمه وبسَمْته وأخلاقه وآدابه وهمَّته.
أكرِم به من شيخٍ فاضل جليل كريم، بلغ الستِّين ونحن في حجِّ عام 1440هـ/ 2019م، وكان نشيطًا يمشي كشباب العشرين، دائمًا يتقدَّم الإخوةَ في الحج من غير توقُّف، ولا يُجارى في مَشيه، ولا يُجارى في همَّته بالطاعة والذِّكر. وكان من خير المرشدين في وفد الحج، ويجيب عن الأسئلة الفقهية وينصح ويعِظ.
وعندما كنَّا في فندق الروحانية كان يشغل كلَّ وقته بالطاعة والتدريس، فيُلقي درسين أو ثلاثة في الحديث وغيره، وأظنُّه أجاز بعض الحُجَّاج بالأربعين النووية، فأيُّ همَّة بعدَ هذه الهمَّة، وأيُّ عطاء مثلُ هذا العطاء؟!
أجزل الله له المثوبةَ، ورحمه رحمةً واسعة، وأخلفَنا عنه؛ فالعالمُ إذا ماتَ ثُلِمَ في الإسلام ثُلمةٌ لا تُسَدُّ إلا بخلَفٍ مثله. وقد كان عالمًا من ورثة الأنبياء، وكان محبًّا للخير، ومُرشدًا للغير.
● ومن أصحابه القُدامى الأستاذُ الشيخ أيمن عبد الوهَّاب، وقد كتب عن صلته به قائلًا:
تعرَّفتُ على الشيخ عبد الله ذو الغنى في نهاية الثمانينات في مسجد الشهداء في بيروت، يجلس مع زميلٍ له في الدراسة، يدرسان الكتبَ المقرَّرة عليهما في كلِّية الإمام الأَوزاعيِّ في بيروت، وكان هادئًا مبتسمًا، قريبًا من القلب. ثم في منتصف التسعينات بدأنا (مجموعة من شباب المسجد من اختصاصات مختلفة، وكنت الوحيدَ بينهم من طلَّاب العلم) معه حَلْقةً يومية بعد صلاة الفجر لحفظ القرآن الكريم؛ ليُضافَ إليها لقاءٌ أسبوعي لقراءة “موطَّأ الإمام مالك” رحمه الله تعالى، وشرح أحاديثه. فزرعَ فينا حبَّ الكتاب، وكان رحمه الله تعالى سببًا في تعلُّقي بالكتاب، ومداومة قراءته.
ثم في مَطلَع الألفَين ميلادية بدأنا بقراءة كتاب “فتح الباري” للحافظ ابن حَجَر، فكان يستضيفُني في مكان إقامته المتواضع، فيَلقاني لقاء المحبِّ، ويكرمني بضيافته الغنية المليئة بالكرم والجود، وأتممنا قراءة الجزء الأول ونصف الجزء الثاني. وقد نشِطَ في إقامة الدَّورات الصيفية المسجدية، للطلَّاب والطالبات من الناشئة، فكان صاحبَ الهمَّة العالية والحركة الدؤوبة؛ لتيسير فرص نجاحها.
عمل الشيخُ رحمه الله في أعمال مختلفة؛ لكفاية نفسه ومَن يعول، وكان دائمًا ما يسألُ الله تعالى أن يشغَلَه بالعلم والتعليم، ويجعلَ رِزقَه هناك.
في مرضه الأخير رحمه الله تعالى لم أسمع منه غير الرضا عن قضاء الله، وتكرار الحمد على لسانه، وعندما اشتدَّ به الوجَع كان يسأل الله حُسنَ المَخرَج.
● وكتب الشيخ الدكتور عبد الرحمن المارديني:
صحِبتُه في الحجِّ حيث كان موجِّهًا ومرشدًا للحُجَّاج، فرأيته صاحبَ همَّة لا يترك صلوات الجماعة في الحرم، وأداء العمرة كلَّ يوم. وكان خطيبًا متكلِّمًا فقيهًا، إذا تكلَّم كان لموعظته نكهةٌ فقهية أصولية، وكان رحيمًا يصحب الحُجَّاج لتعليمهم أحكامَ الطواف والسعي وسائر أعمال العمرة. هيِّن ليِّن رحيم متواضع، تواضعُه سجيَّة غيرُ متكلَّف.
ذات مرَّة قال لي: لديَّ رجاءٌ عندك، فحسِبتُ أنه سيطلب ما لا أستطيع تقديمه؛ وإذ به يطلبُ مني أن أشرحَ له منظومةَ الجزرية، مع أنه يكبُرني بأكثرَ من عشر سنين، وهو قارئ قديمٌ للقرآن، لازمَ الشيخ محمد رمضان رحمه الله تعالى وختمَ عليه.
فأسأل الله أن يجعلَه في أعلى علِّيِّين.
● ووصفه الأستاذ الشيخ محمد أحمد العاصي (المعروف بالمطيع) قائلًا:
عرفتُ الشيخ عبد الله ذو الغنى قبل ٢٥ سنة، كنت في أول الشباب، كان لا ينقطع عن جماعة، متواضعَ الجناب، ساكنًا هادئًا، حريصًا على مجالس العلم مع جلالة علمه، يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويعمل بكدٍّ وهمَّة، ليَطعَم من كسب يده.
حضرتُ معه مجالس الحديث الشريف في بيروت، ثم في مكة المكرَّمة خلال رحلة الحج، فكان لا ينقطع عن مجلس، ويحرِص على الحضور بهمَّة عالية قلَّ نظيرها، ويدأب على الدوام في المجالس وإن تأخَّر موعدُها؛ فحضَرنا بعد منتصف الليل، وبعد الفجر، وعند رَمْضاء الظهيرة.
كان صاحبَ سريرة صالحة، وورع نادر، وممَّا أخبرني به خلال زيارتي له في مرضه الذي صبر وصابر عليه، أنه كان يستخير ويصلِّي ركعتين بشأن كلِّ صديق وأخ يعرفه، فإمَّا يتابع بصحبته وإمَّا يتركه؛ وذلك لكثرة الخيانة وقلَّة الوفاء ونُدرة الصدق في ذلك الوقت.
● وشهد أحدُ أصحابه المقرَّبين الشيخ الفاضل أحمد الفليطي وفَّقه الله، بقوله:
عرفتُ الشيخ عبد الله ذو الغنى منذ عام ٢٠٠٨ طالبَ علم مجدًّا، وفي التعليم متقنًا مخلصًا.
حضرنا معًا مجالسَ الحديث الشريف الليلية الخاصَّة مع شيخنا المحدِّث بسَّام الحَمزاوي، فكان يجاهد نفسَه على حضورها وهو أكبرُنا سنًّا، وأعرفُنا بدقائق ما يمرُّ معنا. يغسل النومَ عن عينيه بالماء كلَّ نصف ساعة تقريبًا؛ ليعاودَ (تركيزه) من جديد، واستمرَّ فيها حتى توقفَت دون انقطاعٍ منه أو ملل.
ثم كانت مجالسُ الكتب الستَّة والموطَّأ وغيرها في النهار، فحضَرها كاملةً، وكنت أستعين به فيفتتح المجلسَ أحيانًا بتلاوة القرآن الكريم بإتقانه المميَّز، ويُعينني في قراءة المتون بعضَ الأحيان، ويختم لنا بالدعاء أحيانًا.
ثم كانت رحلةُ التدريس في الدَّورات الحديثية، بين (دار اقرأ) في بيروت، و(مركز علوم الحديث الشريف) في صَيدا، فرأيت بأمِّ عيني تحضيرَه المتقَن والأنيق للدروس التي يقدِّمها، وكانت الدروسُ الأبلغ هي السَّمْت الحسَن، والخُلق المحمَّدي الراقي. ثم قدَّر الله تعالى وتعرَّضتُ لحادث سيرٍ كُسِرَت فيه يدي اليُمنى، فتعذَّر عليَّ الذهابُ إلى دورات طرابُلُس فكان الشيخ عبد الله خيرَ مُعينٍ لي؛ إذ تجشَّم عناء السفر إلى طرابُلُس مدَّة شهرين أو ثلاثة حتى أنهى المقرَّر فجزاه ربِّي خيرًا.
وهو رجلٌ عفيف صَبور غَيورٌ على دينه، محبٌّ للدعوة إلى الله تعالى، يَمقُت الكذب وأهلَه، ويحبُّ الصِّدق وذَويه. لا مكانَ للغِيبة والنَّميمة في مجلسه، وقد طهَّر منها قلبَه ولسانَه وجوارحَه.
يعمل ويأكل من كسب يدِه طيلةَ النهار، ثم يمسح عناءَ العمل وتعبَه بطلب العلم، وخاصَّة على سماحة مفتي البِقاع شيخنا المرحوم خليل المَيس كلَّ أربعاء، وعند غيره من الشُّيوخ باقي أيام الأسبوع. حتى رأيتُه بمجلسٍ لأحد الشيوخ، وكان العَجَب أن الشيخ الذي كنَّا حاضرين مجلسَه انكبَّ على يد الشيخ عبد الله ليقبِّلَها أمام أكثرَ من ٣٠٠ طالب وطالبة، فللَّه دَرُّه من طالبٍ ومعلِّم وصديق متواضع، وأخٍ محبٍّ حنون.
آخرَ مرَّة صحِبتُه فيها إلى مركز طبِّي كنَّا بصحبة شيخنا بسَّام الحَمزاوي وبسيَّارته، فرأى معي كتابين على غلافهما صورٌ لشيخنا خليل المَيس، فطلب مني تأمين مثلهما، وتنهَّد وجعًا لا من آلام مرضه التي كانت باديةً عليه، إنما على فراق الشيخ خليل الذي كان في قلبه ومجالسه مكانةٌ خاصَّة للشيخ عبد الله ذو الغنى، وكان من القلَّة الذين زارهم مهنِّئًا بزواجهم من الطلبة، وكان الشيخ خليل يقول لي: تعلَّم الأدب منه، ويذكره لي بالوفي والمجدِّ والمخلص والخلوق.
زرتُه وشيخي بسَّام الحَمزاوي عقب آخر عملية جراحية أُجريَت له في مشفى الجامعة الأمريكية ببيروت، فكانت حاله تُبكي الحجَر، وأردتُّ أن أحكيَ له فُكاهةً لأُسَلِّيَ عنه، وكنت كثيرًا ما أفعلُ ذلك معه، لكن عندما رأيتُ جراحَ جسمه أمسكتُ عن ذلك. وبعد قليل قال الشيخ بسَّام: ما رأيكَ نقرأ أربعين حديثًا شريفًا؟ فأبدى سرورَه، وقال: يا ليت. فقرأناها وأجازنا بها الشيخُ بسَّام، فتهلَّل وجهُ الشيخ ذو الغنى، ودخل أحدُ الأطبَّاء فوجده كذلك فقال: مولانا (بايِن سِنَّك) اليوم، تعالَوا كلَّ يوم زوروه لنراه ضاحكًا. فقلتُ له: الضَّحكُ ليس لنا، إنما هو لحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. فقال: تعالَوا واقرؤوا ما تحبُّون، المهمُّ أن نرى مولانا ضاحكًا.
وممَّا لفتَني حضورُه مجالس سماع كتاب “الجامع الصغير” للإمام السُّيوطي على شيخنا د. بسَّام الحَمزاوي في ربيع الأول عام ١٤٤٣ بعد الفجر وبعد العشاء كلَّ يوم، و(نرابيش) الأجهزة الطبِّية متصلةٌ بفمه وأنفه!
وللشيخ عبد الله أعمالٌ علمية، من واجبنا تجاهَه إخراجُها لطلَّاب العلم، منها بحثه للماجستير المتعلِّق بكتاب “التقاسيم والأنواع” للإمام ابن حِبَّان البُستي، الذي أنجزه قبل وفاته. وقال لي: أرجو من الله الشِّفاء لأُنهيَ الدكتوراه. ومنها شرحه على “الأربعين النووية”، ولا شكَّ عندي في وجود غيرها ممَّا يحتاج إلى التتبُّع والجمع من مكتبته وحاسوبه.
رحمه الله تعالى وعوَّض الأمَّة خيرًا.
وكتب بعضُ طلَّابه من الشباب النابهين شهاداتٍ في شيخهم الراحل، بارك الله فيهم.
● قال الأخ محمد عبيدة الطبَّاع: رحم الله سيِّدي وشيخي المربِّي عبد الله ذو الغنى، من أجمل ما تتعلَّمه منه دعوةُ الناس بالحبِّ، وخوض الحياة بالحبِّ، فلا تكاد تعرف له شانئًا، ولا تكاد تراه أبغضَ مسلمًا، مع التواضُع الحقيقيِّ الجمِّ.
وكم كنتُ أعجَبُ من الشيخ، لا ينام الليلَ وهو يعمل ويُقرئ، لم أرَه يومًا من الأيام انقطع عن صلاة الجماعة في المسجد، كان صاحبَ همَّة عالية. عندما أذهب إلى بيته كان يُكرم الجميع، كان كريمًا لا يردُّ سائلًا، وكان رحمه الله تعالى إذا حضَرتَ مجلسَه شعرت كأنك في روضةٍ من رياض الجنَّة.
وكان للشيخ أسلوبٌ جميل جدًّا في مادَّة علم الحديث، عندما يشرح عن الصَّحابة عيناه تذرِفان من الدمع. أتذكَّر عندما قلتُ للشيخ: أريد أن تشرحَ لي كتاب “الكواكب الزاهرة في الأربعين المتواترة” للعلَّامة مفتي الشام محمود الحَمزاوي رحمه الله، فكان في كلِّ حديث يشرحه يبكي رحمه الله، وإذا ما قرأتَ عليه آياتٍ من كتاب الله تراه يتفاعلُ معها كأنه يسمعُها أولَ مرَّة، ويبكي ويتفكَّر في الآية.
كان رحمه الله من بقيَّة السلف الصالح.
● وقال الأخ الشيخ إبراهيم الدَّالي: عِشتُ مع الشيخ عبد الله ذو الغنى سنواتٍ ما رأيتُ أكثرَ منه تواضعًا وزهدًا وغَيرةً على دينه. عاش تقيًّا نقيًّا زاهدًا صابرًا محبًّا لطلب العلم. وكان رقيقَ القلب صاحبَ مبدأ، وكانت الدنيا لا تعنيه.
كانت وصيَّتُه لي في أولادي أن أبعدَهم عن لقمة الحرام، وأن أستعينَ بالله على تربيتهم في ظلِّ هذا الانحراف. أستطيع أن أعطيَه لقب (بقيَّة السلف) رحمه الله وعوَّضَه الجنَّة.
● وقال الأخ مجد الحسين: صحِبتُ شيخنا الشيخ عبد الله ذو الغنى رحمه الله ما يقارب خمس سنوات، في بيته وفي المسجد وفي مركز علوم الحديث. كان شديدَ التواضُع ولا يحبُّ الشهرة، خفيٌّ جدًّا في أعمال البِرِّ، وفي التحصيل العلمي. وربما يقول لي: عملتُ كذا ليلةَ البارحة، ويغيِّر الموضوع إلى موضوع آخرَ.
وكان يوصيني بحفظ القرآن، وتعلَّمتُ القراءة عنده حتى أتمَمتُ قراءة آخر ثلاثة أجزاءٍ، ثم بدأتُ بالحفظ وسمَّعتُ له ما يقارب جزءًا ونصفًا من البقرة. وأوصاني بحفظ “نهاية التدريب” وحضَرتُ له عدَّة دروس في شرحه له، وحفظت ما يقارب نصفَه حتى الآن. وكان يوصيني بحفظ أحاديث “عُمدة الأحكام” وحضَرتُ له عدَّة دروسٍ في شرحه.
وأخبرته مرَّةً أني حفظت عدَّة منظومات، ففرح لي أكثر ممَّا فرحتُ بتوفيق الله لي، وشكرته وقلت له: جزاكم الله خيرًا على ما علَّمتَني إيَّاه، فغضب جدًّا وقال: لا بل جزاكم الله خيرًا أن قبلتموني أعلِّمكم، إنما أنا عبدٌ ضعيف مسكين، أرجو رحمةَ الله. وكاد يبكي! ثم دعا لي، وكان يوصيني بالمداومة على صلاة الجماعة، ويقول: تتيسَّر الأمورُ إن شاء الله.
وأختصرُ هذه المدَّة التي قضيتُها معه بجملة، ولا أدري هل تصحُّ أو لا، ولكن لا أجدُ غيرَها تعبِّر عن الأثر الذي تركه فيَّ، أقول: لقد تعلَّمتُ من حاله مع الله أكثرَ من علمه.
وأختم شهادات عارفيه بشهادة أحد أبناء جيرانه الذين نشؤوا في كنفه، وتحت رعايته وتوجيهه، مدَّة عشر سنوات قبل زواجه، وهو الأخ قاسم السيِّد.
● قال الأخ قاسم: عِشنا معه مدَّةً طويلة في الحرب والسِّلْم، علَّمَنا الصلاةَ والصوم وتلاوة القرآن، كان يجمع صغارَ شباب الحيِّ في مسكنه، ويهتمُّ بنا بلا تفرقة، ويقدِّم الضيافة ويُكرمنا، ويشجِّعُنا على القرآن وصلاة الجمعة، ويتابعنا ولا يتركنا.
كان الأبَ والأخَ والصديق، ولم يمرَّ في حياتنا أحدٌ مثله. يشتغل للدِّين من قلبه، وقد قضى حياته يعلِّم ويتعلَّم. كان دومًا لا وقتَ لديه يُضيعه، وكان يقول: إذا لم تنتفعوا منِّي فدَعُوني أنتفِع منكم. كان جادًّا في أيِّ موضوع يتعلَّق بالدِّين، فلا يتنازل مهما كان، يُجيب على قدر السؤال وَفقَ الشَّرع، ولا يُراعي مصلحةَ السائل الشخصية الضيِّقة. وذات مرَّة قلتُ له: نحن نخطِئ، لكنَّك أنت تقضي حياتك كلَّها بالطاعات، فلماذا تُكثر من العبادات وصلاة الليل، وما عليك ذنوب تُذكَر؟ فقال: أرجو ألَّا أُحاسَبَ يومَ الحساب. وكان مَرضِيَّ الوالدين؛ يحبُّ أباه حبًّا غير طبيعي وأمَّه رحمهما الله، ويحترم أخوَيه كثيرًا.
كانت ثقتُنا فيه تامَّة تامَّة؛ أراجعه في أيِّ مسألة تواجهني، حتى إني كنتُ أتْبَعُه أحيانًا إلى حيثُ هو وإن كان بعيدًا عن بيروت، ولم أكن أرتاح إلا حينما أحكي له همومي، وكان يُرشدني دائمًا إلى الخير. وكنَّا نفرح عنده، وطعامه الذي يقدِّمه في بيته طيِّب مُشبِع؛ كنتُ أقول له: أنا آكلُ هنا وهنا، لكنَّ الطعام عندك مختلف، فيقول لي: المالُ الحلال طعمه لذيذ.
قضى حياته لا طمعَ له في الدنيا إلا ما تقتضيه الحاجة؛ لا مطالبَ لديه عند أحد، عاش عفيفًا نظيفًا، بل كان يساعد غيرَه من قلبه وإن كان مُعسِرًا.
باختصار كان شيخًا بكلِّ معنى الكلمة، وكنَّا نستحي أن نقول له: عرِّفنا شخصًا مثلك؛ لأننا كنَّا لا نرى مثله.
● واطَّلع على هذه الترجمة قبل نشرها أخي الحبيبُ رفيق الطلب وزميل العمل، الشيخ الطُّلَعة المحصِّل المُفيد، الحافظ المُسنِد محمد زياد بن عمر التكلة، فكتب معلِّقًا:
رحم الله الشيخ عبد الله ذو الغنى، وجزاكم الله خيرًا أخي الحبيب أيمن.
أبكتني هذه الترجمةُ والله، وكم لله من العباد الأتقياء الأخفياء الأنقياء، لعلَّ الله ادَّخرَ رفعَ ذكرهم ونشرَ القَبول العامِّ لهم – سوى القَبول الخاصِّ من معارفه الأقربين – بعد وفاتهم. وفي إجماع شهادات عارفيه ما يدلُّ على إخلاصه، وعلوِّ شأنه رحمه الله. ولعلِّي تشرَّفتُ بلقائه في مجلس شيخنا مطيع الحافظ في طرابُلُس، ولا أدري إن حصل في غيره، وأظنُّ في بعض مجالس بيروت أيضًا.
وبعد قراءة الترجمة والشهادات أتمثَّل بقول القائل:
وكانت في حياتِكَ لي عِظاتٌ
وأنتَ اليومَ أوعَظُ مِنكَ حيَّا
|
تعازيَّ لزوجه وأولاده وإخوته ولكم، ولذويه ومحبِّيه، وكم نرجو الخيرَ لأولاده: ﴿وكان أبوهُما صالحًا﴾. جمعَنا الله به في الفردوس، ورزقَنا شفاعةَ إمام المحدِّثين رسول ربِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، التي جمعتنا سنَّتُه ومجالسُه.
كتبه ابن عمِّه
أبو أحمد المَيداني
أيمن بن أحمد ذو الغنى
عفا الله عنه، وأحسن ختامه
الرياض 15 ربيع الآخِر 1444هـ
(ثم كان التبييضُ النهائي في غُرَّة شوَّال 1444هـ)
♦♦♦♦♦
المراجع:
♦ كتاب (أُسرة ذو الغنى الدمشقية، تاريخ وأعلام) لكاتب الترجمة أيمن بن أحمد ذو الغنى، مخطوط.
♦ التواصُل مع زوجته الفاضلة الأستاذة ناهد بنت محمد الفاكهاني، وولديه محمد وحسن سلَّمهما الله.
♦ التواصُل مع شقيقه الأخ عبد الهادي ذو الغنى، وشقيقته الحاجَّة غادة ذو الغنى.
♦ التواصُل مع شيخنا المحدِّث المحقِّق محمد بن ناصر العَجْمي.
♦ التواصُل مع شيخنا المحدِّث المسنِد د. بسَّام الحَمزاوي.
♦ التواصُل مع صديقه الأخ الشيخ المسنِد أحمد الفليطي.
♦ الإفادة من شهادات عارفيه المثبتة في الترجمة.
♦ ورقة نعيه.
الشيخ عبد الله ذو الغنى رحمه الله تعالى
إهداء بخطِّ الشيخ عبد الله ذو الغنى إلى ابن عمِّه كاتب الترجمة
يوم حصوله على الماجستير، عن يمينه: د. وفيق حجازي، د. علي بِقاعي، د. صالح معتوق