Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

داود وسليمان عليهما السلام (4)


داود وسليمان عليهما السلام (4)

 

أجزلَ اللهُ تعالى لداود النعمةَ، فآتاه الملكَ والحكمةَ وعلَّمه مما يشاء، ووَهَبَ له العبد الصالح والملِك الكريم والنبيَّ العظيمَ الأوَّاب سليمان بن داود، وقد نشأ سليمان عليه السلام في حِجْر داود، وترعرع في بيت النبوَّة والملك، وعندما بلغ الحُلُم ملأه الله حِلمًا؛ أي: أناةً وعقلًا، وكان يحرص على مجالس حكم أبيه داود عليه السلام؛ ليشهد قضاءه بين الناس، وقد كان يشير أحيانًا على أبيه بأنه لو كان هو القاضي في هذه القضية لحكم بغير ما حكم أبوه، وقد ذكر القرآن العظيم صورة من صور هذه القضايا، فذكر الله تبارك وتعالى في سورة الأنبياء قضيَّةَ الحرث إذ نفشَتْ فيه غنمُ القوم، أي: انتشرت فيه ليلًا بلا راعٍ فأفسدت الزرع، فيُذكر أن داود قضى بالقيمة لصاحب الزرع، فقال سليمان عليه السلام: لو كنتُ أنا القاضي لقضيتُ بغير ذلك، فقال داود عليه السلام: بمَ كنتَ تقضي يا بنيَّ؟ قال: أدفع الغنمَ إلى أصحاب الزرع فينتفعون بألبانها ومنافعها، ويقوم أصحاب الغنم بإصلاح الحرث حتى يعود كما كان، فيرد إلى أصحابه وترد الغنم إلى أصحابها، ففضَّل الله تبارك وتعالى حكمَ سليمان، وذكر أنه فهمه الحكم في هذه القضية، ولا يحطُّ ذلك من قدر داود عليه السلام؛ لأن فرحه بتوفيق ابنه للحكم في القضيَّة لا يقل عن فرحه لو كان فهمها هو كذلك؛ ولذلك مدح الله تعالى داود وسليمان معًا فقال: ﴿ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ وليس حكم داود هنا خطأ، ولكن حكم سليمان في هذه القضية أولى منه، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 78، 79].

 

قال ابنُ كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: أما الأنبياء عليهم السلام فكلُّهم معصومون مؤيَّدون من الله عز وجل؛ وهذا ممَّا لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف، وأما مَنْ سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر))؛ اهـ.

 

كما قصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صورةً من صور حكم داود، ثم أظهر سليمان عليه السلام أنه لو كان القاضي في هذه القضية لقضى بغير ذلك؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى؛ فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقُّه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعلْ، يرحمُك اللهُ، هو ابنها، فقضى به للصغرى)).

 

وقد استمرَّ داود في حكمه وملكه ما شاء الله تعالى، فلمَّا أدركه الموتُ أرسل الله عز وجل سليمانَ عليه السلام وجعله ملِكًا كريمًا ورسولًا عظيمًا، وعلَّمه منطقَ الطير، وجعله أحدَ الأئمة مِن الرسل الذين أمر رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم.

 

وقد بدأ بذكر داود وسليمان بعد ذكر نوح عليه السلام في سورة الأنعام؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام: 83، 84].

 

وبعد أن ذكر مجموعة من المرسلين قال لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 89، 90]؛ ولذلك سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة (ص) لما قرأ سجدة داود؛ فقد روى البخاري في صحيحه من طريق مجاهد قال: سألت ابن عباس – يعني عن سجدة (ص) – من أين سجدتَ؟ قال: أوما تقرأ: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام: 90]؟ فكان داود ممَّن أُمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وفي قيام سليمان عليه السلام بعد أبيه بالمُلك والنبوَّة يقول تعالى في سورة النمل: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 15، 16]؛ إذ المراد بالميراث هنا هو ميراث المُلْكِ والنبوَّة، لا ميراث المال؛ ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا معشرَ الأنبياء لا نُورثُ، ما تركنا فهو صدقةٌ)).

 

وكما أن اليهود كذبوا على داود عليه السلام واختلقوا عليه أشياء كثيرة؛ فقد أكثروا من الكذب على سليمان عليه السلام واتَّبعوا في ذلك الشياطين، وزعموا أنَّ سليمان عليه السلام كان يحكُم بواسطة خاتمه السحري وأنه كان ساحرًا، وأنه كان إذا دخل بيت الخلاء دفع الخاتم لزوجته لما فيه من ذكر الله حتى يخرج من الخلاء، وأنَّ الشيطان جاء إلى امرأة سليمان في صورة سليمان فدفعت إليه الخاتم، فذهب الشيطانُ وجلس على كرسي الملك يحكم في بني إسرائيل، وأنَّ سليمان لما خرج من بيت الخلاء قال لامرأته: هاتِي الخاتم، فقالت: قد خرج سليمان قبلَك وأخذه، وأنكرت سليمان، فهام سليمان على وجهه حتى عَمِلَ عند صيادٍ، فكان الصيَّادُ يعطيه أجرتَه عن كل يوم سمكتين، كان يبيع سمكةً يشتري بثمنها خبزًا، ويطبخ السمكةَ الأخرى، وأنه استمرَّ على ذلك أربعين يومًا، ثم إن بني إسرائيل قاموا على هذا الشيطان الجالس على كرسي سليمان فهرب منهم – ولا أدري كيف لم ينفعْه الخاتم – وألقى بالخاتمِ في البحر فابتلعته سمكة، ثم وقعت في شباكِ الصيَّاد، فلما دفع لسليمان أجرتَه سمكتين باع واحدة وطبخ الأخرى وهي التي كان في جوفها الخاتمُ، فلما فتحها وجد خاتمَه، فلبسه ورجع إلى ملكه.

 

والعجيبُ أن هذا الإفك تسرَّب إلى بعض أكابر أهل العلم فصدَّقوه حتى تجدَ أكثر كتب التفسير في قوله: ﴿ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ﴾ [ص: 34] يقولون: شيطانًا، وانتشر على ألسنة العامة والخاصة ذِكْر خاتم سليمان، وخواصه، مع أن الله تبارك وتعالى نبَّه في سورة البقرة إلى كذِبِ اليهود على سليمان اتِّباعًا للشياطين في هذا الباب حيث يقول عز وجل: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102] الآية، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسَّر فتنةَ سليمان وإلقاء الجسد على كرسيه بأنه حلف ليطوفَنَّ على مائة من نسائه، فتحملُ كلُّ واحدة منهنَّ بفارسٍ يحمل السلاحَ ويجاهد في سبيل الله، ونسي أن يقول: إن شاء الله، فطافَ عليهنَّ فلم تحملْ إلَّا واحدة جاءت بشقِّ ولد، فأخذ وألقي على كرسيه، فاعتذر إلى الله عز وجل فقبل الله معذرتَه، وأنه ما طلب الولد تكثُّرًا وافتخارًا، وإنما ليقاتلوا في سبيل الله فقبل الله منه وأبدله ﴿ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ﴾ [ص: 36 – 38].



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى