Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

المستشرقون وعلوم المسلمين (الفقه الإسلامي والقانون الروماني نموذجا)


المستشرقون وعلوم المسلمين

الفقه الإسلامي والقانون الروماني نموذجًا[1]

 

التمهيد:

يحتاج الحديث عن علوم المسلمين – من حيث نسبة العلوم إلى الإسلام أو نسبتها إلى المسلمين – إلى بسط وتفصيل؛ ذلك أنَّ الإسلام يُعدُّ امتدادًا للأديان السابقة عليه، خاتمًا ومكملًا لها؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

 

كما يعدُّ المسلمون، من حيث كونهم أمَّةً امتدادًا للأمم السابقة، بمطالبتهم بعمارة الأرض والعناية بالحضارة والسَّعي إلى صقْل علومها وأفكارها وتأصيلها إسلاميًّا، ما يَعني أن الإسلام من جهة قد تفرَّد ببعض العلوم، لا سيما منها ما له علاقة مباشرة بعلوم الدين ذات الصِّلة بالاعتقاد، وذات الصِّلة بالعبادات وبعض المعاملات؛ من حيث أحكامها وصفاتها، وهذه تكون عادةً مستقاةً من كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ومصادر التشريع الإسلامي الأخرى المعتبرة لدى المسلمين.

 

وصرفها وبيانها، ومعانيها وبديعها، وشعرها ونثرها، على اعتبار أنها هي لغة القرآن الكريم وهي لغة الإسلام والمسلمين، فجاءت العناية باللغة والأدب متأصلةً؛ من حيث التقعيد لها، دون حاجة إلى الالتفات إلى اللغات الأخرى والأخذ منها بعض القواعد وأساليب البيان والبديع، هذا دون إغفال استعارة اللغة العربية ألفاظًا ومصطلحات عن اللغات الحيَّة التي واكبَت النهضة اللغوية العربية قبيل نزول القرآن الكريم وبعده.

 

إلا أنَّ هذا التفرُّد على وجوده لم يمنع من الاستعانة بعلوم السابقين في علوم “مدنية” ذات شأن مباشر بعمارة الأرض والاستخلاف عليها، ومِن ثمَّ نقل حضارتهم التي رأى المسلمون أنها تخدم هذا الدين والبشريَّة من قريب أو بعيد، ولم يكن هذا النَّقل على علَّاته، بل مارس العلماء المسلمون قسطًا من الصقل والتأصيل لهذه العلوم[2]، أمَّا الأفكار التي لم يظهر أنها لا تضيف شيئًا للدين، ومِن ثمَّ الإنسانية، أو أنها تتعارض مع صفاء العقيدة وإخلاص العبادة لله تعالى ونزاهة التعامل مع الناس – فقد غضَّ المسلمون الطرف عنها، واستعاضوا عنها بالبنَّاء والمفيد.

 

ومن هنا يأتي النِّقاش حول قضية إضافة العلوم للإسلام، أو وصف بعض العلوم بالإسلام؛ أي: إنها علوم إسلامية، في مقابل إضافة هذه العلوم للمسلمين أنفسهم، أو وصْفها بأنها علوم المسلمين، وهو ما يختاره الباحث؛ إذ جعل عنوان هذا البحث الاستشراق وعلوم المسلمين، وجعل التمهيد له بالعنوان نفسه.

 

أدَّى هذا ببعض المنتمين إلى الإسلام إلى السَّعي بقدر من الحماس، ومن منطلق تأصيل العلوم الإسلامية إلى نفي أن تكون هذه العلوم مستقاة من ثقافات سابقة، وأنها علوم متأصلة من صنع المسلمين أنفسهم، بل من صنع الإسلام نفسه؛ حيث تمثَّلَها المسلمون ونشروها، فظهرَت نسبة العلوم – لا سيما العلوم الإنسانية والاجتماعية – إلى الإسلام، ووصفها به؛ كالتربية الإسلامية، والاقتصاد الإسلامي، والإعلام الإسلامي، وعلم الاجتماع الإسلامي، وعلم النفس الإسلامي، وعلم الاكتناه الإسلامي[3]، وهكذا.

 

أدى هذا بدوره إلى اعتراض بعضٍ آخر من العلماء المسلمين على هذا الوصف، كما أدَّى بفئة ثالثة من العلماء المسلمين إلى السعي إلى تأصيل العلوم التي استُقيَت من حضارات أخرى وصقلها وعرضها على حكم الإسلام، فما وافقه منها قُبل، وما عارضه منها فلا حاجة لنا به، فظهرت حركة أسلمة العلوم، وظهرت نظريَّة إسلامية المعرفة[4]، بدءًا بالعلوم الاجتماعية التي هي مجال رحْب لتوظيف معتقدات ونظريات ومناهج من صنع بني آدم وابتكاراته بالاستقراء والاستقصاء والتجربة والخطأ، في الوقت الذي يُمكن الاستعاضة عنها بحقائق مشتقَّة من علوم المسلمين أنفسهم، دون إغفال الاستعانة بالرُّؤى والأفكار الأخرى بعد عرضها على الميزان الإسلامي؛ وهذا يعني أن علوم الآخرين قد تتَّفق من حيث المنهج والروح مع المفهوم الإسلامي وقد لا تتَّفق معه؛ كالعلوم الفلسفية ذات الصِّلة بالعقيدة، وكذلك أعمال الشعوذة والسحر والخرافة وإلحاقها بالدين أو جعلها جزءًا فاعلًا فيه[5].

 

يعني هذا أيضًا أنه يُمكن القول من جوانب أن الدِّين الإسلامي يُعدُّ امتِدادًا لما سبقه من الأديان، وهذا يعني بدوره إمكانية وجود وجوه تطابُق بين الإسلام وما سبقه من أديان، في الوقت الذي توجد فيه وجوه اختلاف بينها.

 

أدَّى وجود وجوه تطابق بين الإسلام والأديان الأخرى السابقة عليه إلى ظهور دعاوى من بعض المعنيِّين بالأديان داخل مفهوم مقارنة الأديان، أو من بعض من اشتغلوا بالدين الإسلامي من غير المسلمين من المستشرقين إلى القول بتأليف الإسلام من الأديان السابقة عليه – كما سيأتي بيانه – ثم تبعَهم بعضُ بني المسلمين أنفسهم متأثِّرين بهم في مرحلة متأخِّرة من مراحل التلقِّي عن غير المسلمين.

 

تعدَّدَت دعاوى المستشرقين على الإسلام والمسلمين، وهدفت هذه الدعاوى إلى إثارة الشبه حول الإسلام نفسه، ثم القرآن الكريم وكونه وحيًا من الله تعالى، وحول محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وكونه رسولًا ونبيًّا[6]، وتبع هذا دعاوى التشكيك في ثوابت هذا الدِّين؛ من حيث أصالة العقيدة والأحكام التي جاء بها، وربما عادت الدَّعاوى هذه إلى المجتمع العربي قبل الإسلام؛ بالتشكيك بالرؤى الحضارية لدَيه وإن كانت مَحدودة، على اعتبار أنَّ التشكيك بما كان للعرب قبل الإسلام من جهود حضارية، إنما يصبُّ في التشكيك بجهود المسلمين الحضارية.

 

والمعلوم أن العرب قبل الإسلام كانت لهم حضارة محدودة، غلب على ما وصلنا منها الأدب، وكانت العناية بالشِّعر بأنواعه والشعراء والنثر قويَّة، إلا أن هذه العناية الخاصة لا تعني أنه لم يكن للعرب أنماط حضارية أخرى، كانت بمَثابة الأرضية التي قام عليها الإسلام ممهِّدةً العقول والأذهان للإسلام موجِدةً القابليَّة في النفوس للترحيب به.

 

كما أنه لا بد مِن التنويه إلى أن العرب قبل الإسلام قد تكوَّنت لديهم القابلية لحَمل الرسالة المحمدية، بخلاف من يريد أن يعتزَّ للإسلام عندما يقول: إنه لم يكن للعرب حضارة تُذكر، وإنهم لم يكونوا في جاهليتهم أمةً، ولا شيئًا مذكورًا قبل الإسلام[7].

 

ويدرِك هذا التوجُّهَ في النظرة إلى العرب في الجاهلية المتخصِّصون في تاريخ العلوم عمومًا وتاريخ العلوم عند العرب والمسلمين، ومن هؤلاء الباحث كمال شحادة؛ حيث يقول: “يدَّعي كثير من الأجانب أن العرب قبل الإسلام كانوا من البدو الرحَّل لا يَعرفون سوى حياة الصحراء القلقة غير المستقرَّة، بعيدين عن كل حضارة، ومجرَّدين من أي جذور حضارية، والباحث المُنصِف لا يسعه إلا أن يجد هذا الاتهام ظالمًا، ومجافيًا للحقيقة، فقد كان في شمالي الجزيرة العربية، وفي جنوبها، مراكزُ ناشطة في مجالات التجارة الداخلية والدولية؛ كمكَّة والمدينة والطائف ومأرب وصنعاء ونجران وصرواح وظفار”[8].

 

ومِن هذه المراكز الحضارية كانت تقوم المبادلات التجارية بين العرب في الجزيرة العربية والفرس والهنود في الشرق والروم في الشمال، والأفارقة في الجنوب الغربي.

 

ومع هذا يعمد بعض المستشرقين إلى الادعاء بأنه لم تكن للعرب حضارة تُذكر[9]، حتى ما حفل به العرب المسلمون من الأدب الجاهلي إنما هو عند هؤلاء ومَن تأثَّر بهم من مفكِّري العرب من الأدب المنحول؛ بدءًا بالمستشرق الألماني تيودور نولدكه (1836 – 1930)، والألماني فيلهلم آهلورد (1838 – 1909)، والإنجليزي د. س. مرجليوث (1858 – 1940م) وغيرهم[10]، وأخذه عنهم الأديب العربي طه حسين في كتابه الصادر سنة 1344هـ / 1926م في الشعر الجاهلي، ثم كتابه الآخر الصادر سنة 1345هـ / 1927م “في الأدب الجاهلي”؛ اللذين لقيا نقدًا شديدًا ورفضًا لاذعًا من أدباء العربية والإسلام[11].

 

بُنيَت نظرية الانتحال في الأدب العربي بتأييد من بعض الرواة العرب السابقين من القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي؛ كابن سلام الجمحي (134 – 231هـ) في كتابه: طبقات الشعراء، الذي يذكر فيه بعض المنحولات التي أثارَتها بعض الرؤى النحوية التنافسيَّة بين مدرستي الكوفة والبصرة، وغيرها من الرُّؤى التي تسعى إلى التعظيم من شأن القبيلة، تلك التأييدات التي تولَّى كِبرها كلٌّ مِن حماد الراوية (ت: 167هـ / 783م) وخلف الأحمر (ت: 180هـ / 796م) وغيرهما؛ كالأصمعي، وابن العلاء، على المشهور بين مؤرخي تاريخ الأدب العربي[12].

 

الهدف الأكبر من إثارة الشُّبه حول الإسلام والمسلمين – بما في ذلك إثارة الشبه على ما قبل الإسلام، والتركيز على بعض الآثار والإسرائيليات في التاريخ الأدبي العربي الإسلامي – يقوم على الرغبة في تحقيق أهداف الغرب النصراني القائم على تأثير صهيوني ماسوني على العقيدة النصرانية في معظمها، فتتركز أهداف هذه الفِئة من الغربيين؛ حيث منبع الاستشراق ابتداءً، على السعي إلى إلغاء الإسلام، من حيث كونه دينًا سماويًّا يقوم على كتاب منزل، وعلى نبيٍّ مرسل، وعلى سنة نبوية مبينة للكتاب المنزل؛ وهما المصدر للتشريع الإسلامي، وعلى لغة جرى صقلها ونشرها بين العرب، والاكتفاء به على أنه منهج بشري قام به محمد صلى الله عليه وسلم بين العرب في شبه جزيرة العرب لأغراض دنيوية؛ ولذا فلا يقبل الانتشار المكاني ولا الزماني.

 

في سبيل تحقيق هذا الهدف الأكبر جرى تفريعه إلى أهداف فرعية، وتخصص رهطٌ من بعض المستشرقين في فرع من هذه الفروع، ما يعنينا منها في هذا المقام نفي أن تقوم علومُ المسلمين على الأصالة المشتقَّة من الكتاب والسنة، لا سيما أن السنة عندنا تشمل الأقوالَ والأفعال والإقرارات التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يَنطق عن الهوى.


[1] أصل هذا الفصل بحث ألقي بالجامعة الإسلامية في 9 / 6 / 1430هـ الموافق 2 / 6 / 2009م.

[2] انظر: علي بن إبراهيم النملة: النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية؛ مرجع سابق، 204 ص، وانظر للمؤلف أيضًا: التجسير الحضاري في ضوء تناقُل العلوم والآداب والفنون – الرياض: المؤلِّف، 1430ه / 2009م، 111 ص.

[3] انظر: قاسم السامرَّائي: علم الاكتناه العربي الإسلامي، الرياض؛ مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1422هـ / 2001م، 562 ص.

[4] انظر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ إسلامية المعرفة: المبادئ العامة، خطَّة العمل، الإنجازات، [هيرندن، فيرجينيا]: المعهد، 1406هـ / 1986م، 227 ص.

[5] انظر: عبدالرحمن بدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية؛ دراسات لكبار المستشرقين، ط 3، القاهرة: دار النهضة المصرية، 1965م، ص ي.

[6] تمَّ العرض لهذه الجوانب الثلاثة في الفصول الثاني والثالث والرابع من هذا الكتاب.

[7] أنور الجندي: شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، دمشق: المكتب الإسلامي، 1398هـ / 1978م، ص 89.

[8] كمال شحادة: الترجمة وتراثنا، ص (231 – 242)، أبحاث المؤتمر السنوي السادس لتاريخ العلوم عند العرب المنعقد في جامعة حلب بإشراف معهد التراث العلمي العربي 22، 23 جمادى الآخرة 1402هـ / 15، 16 نيسان (إبريل) 1982م، حلب: المعهد، الجامعة 1984، ص (301 – 314).

[9] الغريب أنَّ رهطًا من بعض (المفكِّرين) المسلمين سعوا إلى تجاهُل الحضارة العربية قبل الإسلام في سعي منهم إلى الرفع من شأن الإسلام؛ وهذا موضوع يطول الخوض فيه، إلا أنَّ المؤكِّد أنَّ الذي تبنَّوه كانوا ذوي منطلقات حسنة، وليست بالضرورة صائبة تمامًا.

[10] حول قضية الشعر العربي بين الأصالة والانتحال انظر: الشعر العربي القديم بين الأصالة والانتحال، ص (159 – 166)، في: فؤاد سزكين: محاضرات في تاريخ العلوم العربية والإسلامية؛ مرجع سابق، 183 ص، (سلسلة أ: نصوص ودراسات؛ 1).

[11] انظر: عبدالرحمن بدوي: دراسات المستشرقين حول صحَّة الشعر الجاهلي؛ مرجع سابق، ص (5 – 14).

[12] انظر: عبدالرحمن بدوي: دراسات المستشرقين حول صحَّة الشعر الجاهلي، المرجع السابق، 327 ص.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى