الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي سيوطي العصر
الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي سيوطي العصر
الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي أو “سيوطي العصر” في التأليف؛ لأن مؤلفاته نيَّفت على الخمس مئة مؤلف كالحافظ جلال الدين عبدالرحمن السيوطي، أو “الجاحظ الثاني”؛ لبراعته وإنجازاته الأدبية واللُّغوية والفكرية والتراثية.
وُلِد الدكتور محمد في إحدى القرى المصرية منتميًا إلى سلالة عربية هم “بنو خفاجة” التي ينتمي إليها الأمير ابن سنان الخفاجي، وشاعر الأندلس ابن خفاجة، وغيرهما.
تلقَّى تعليمه التقليدي في كُتَّاب القرية، وواصل تعليمه في سني عمره متعلمًا من أساتذة كبار في معاهد اللغة العربية، وفي جامع الأزهر حتى تحصل على شهادة العالمية “الدكتوراه” في الأدب والبلاغة لأطروحته “ابن المعتز وتراثه في الأدب والنقد والبيان”.
استطاع الخفاجي بما رسم لنفسه من منهاج علمي أن يُبْحِر في شتى العلوم والمعارف، وأن يُقدِّم للمكتبة العربية كثيرًا من المؤلفات والتحقيقات التراثية، وكتب المقالة الأدبية الفكرية العميقة في كثير من الصُّحُف والمجلات والتي كانت مقصد القُرَّاء والمهتمين بالشأن الثقافي والفكري؛ لما تُقدِّمه تلك المقالات من قيمة ثقافية.
كان الخفاجي ظاهرة حضارية ثقافية؛ فهو أديب وناقد ومُؤرِّخ ومُحقِّق وشاعر نُشِر شعره في خمسة عشر ديوانًا أقدمها ديوان (وحي العاطفة)، وآخرها ديوان (أحلام الأمس).
وفي الشعر كانت للخفاجي آراؤه النقدية التي عبَّر عنها في مؤلفاته، ومنها رأيه في الشِّعر الحُرِّ والتجديد في شكل القصيدة العربية؛ حيث أقرَّ بقبوله، ولكن في أناةٍ وبقدر؛ حتى لا يُصدم القارئ والسامع بما لم يأْلَفْه، ومن الأَوْلَى أن يُسار في التجديد الشِّعري بخُطى معتدلة بعيدًا عن الهدم للبناء الفني الموروث للقصيدة العربية.
وقد نادى بالتجديد في مضمون القصيدة الشِّعري دون الغلوِّ في تغيير شكل القصيدة العربية الذي من شأنه تمزيق مقومات الروح الشعرية، ويصرف الأجيال عن الشعر القديم وشُعَرائه الكِبار.
وبالنسبة للصورة الأدبية؛ فيرى أنها التعبير بأسلوب جميل عن عاطفة الأديب سواء برزت الفكرة، أو سيطرت العاطفة، وتتركَّز عناصر الصورة الأدبية في الدلالة المعنوية للفظ فيها والعبارة، ثم تأتي المؤثرات الأخرى في دلالتها من الإيقاع الموسيقي، والصور، والظلال التي توحي بها العبارات، وبعدها يأتي تناول الموضوع، وحسن عرضه، وتنسيقه، وروعة الخيال، ووحدة العمل الأدبي وأصالة الأديب، وظهور شخصيته في التصوير والوحي فيه.
ويُوضِّح هذه العناصر بالتفصيل واحدة واحدة مع إيراد الأمثلة التي تُبْرِز هذه المعالم في الصورة.
وبالنسبة للإيقاع الموسيقي للكلمات والعبارات والصور والظلال التي يشعُّها التعبير؛ فيراها مؤثرات يكمل بها الأداء الفني.
ونرى الدكتور خفاجي يُركِّز على الصورة الشعرية محددًا معالمها بقوله: “وأمَّا الصور الشعرية فنعني بذلك أنك حين تقرأ للشاعر قطعة يكون الشيء كأنه مرسوم أمامك بوضوح شديد ومُجسَّم بارز تجاه بصرك.
وللدكتور خفاجي ميزانه الدقيق في المعادلة بين الشكل والمضمون؛ حيث لا يجب أن يطغى أحدهما على الآخر؛ وإلا خرج الكلام من باب الأدب فيقول: “فيجب على الأديب أن يُوازن بينهما موازنةً دقيقةً، فلا يطغى المضمون على الشكل؛ أي: الصورة، وإلا خرج الكلام من باب الأدب إلى باب العلم، ولا تطغى الصورة على المضمون؛ وإلا كان الكلام أدبًا لفظيًّا لا قيمة له في باب الفكر”.
نثر الخفاجي آراءه، وأفكاره، ونظرياته في كتب كثيرة في الأدب، والنقد، والبلاغة، والتاريخ، والتصوف، والإسلاميات، والتفسير، ومناهج البحث، والبحوث الأدبية، وتحقيق كتب التراث، وأولى جماعة (أبوللو) الشعرية عناية خاصة باعتباره أحد أعضائها منذ قيامها في عام (١٩٣٢م)؛ فقدَّم دراسة أدبية عنوانها (رائد الشعر الحديث) عن صديقه الشاعر الدكتور أحمد زكي أبو شادي رائد مدرسة (أبوللو) الشعرية، ولم يكتفِ بذلك؛ بل أسَّس مع الدكتورين: عبد العزيز شرف، ومختار الوكيل جماعة (أبوللو) الجديدة في عام (١٩٨٤م)، كما أسَّس مع الدكتور شرف في عام (١٩٨٦م) (سوق الفسطاط للشعر والنقد) على نمط (سوق المربد) الشِّعري.
كانت حياة الدكتور محمد رحلةً علميةً ثريةً ثمينةً؛ حيث تنقَّل بين كثير من البلدان أستاذًا للأدب والبلاغة والنقد، ومفيدًا من ثقافات تلك الدول وحضاراتها؛ فكتب (قصة الأدب في الحجاز)، و(قصة الأدب في ليبيا)، و(قصة الأدب في الأندلس).
وحياة علمية مترفة مثل هذه جديرة بأن تكون ذات أثر علمي حضاري لا يقتصر على التأليف والتحقيق والنشر؛ ولذا فقد رأس أقدم جمعية أدبية ثقافية في مصر هي (رابطة الأدب الحديث) التي رأسها أمير الشعراء أحمد شوقي، والدكتور أحمد زكي أبو شادي، والدكتور إبراهيم ناجي.
وشارك في إعداد تفسير القرآن الكريم المنشور من وزارة الأوقاف المصرية، والتفسير المنشور من مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ودعا إلى إنشاء مجمع فقهي منذ عام (١٩٦٢م)، وتحقَّق ذلك بقيامه في مكة المكرمة في عام (١٩٨١م).
ظلَّ الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي يبحث، ويُحقِّق، ويكتب، ويُؤلِّف، ويُشارك في المؤتمرات العلمية، والمهرجانات الثقافية حتى وافاه الأجل في شهر مارس عام (٢٠٠٦م)، فرحمه الله، وجزاه عن أُمَّتِه خيرًا.
إن عالمًا موسوعيًّا كالدكتور محمد سخَّر نفسه للعِلْم، وللُّغة القرآن متنقلًا بين عدد من الدول أستاذًا، ومُحقِّقًا، وكاتبًا، وناشرًا، وشاعرًا، لهو جدير بأن يعرف سيرته الشباب، ويقرأ كفاحه العلمي طُلَّاب العلم؛ فهو لنا نبراس هادٍ، ومشعل مضيء.