إبراهيم عليه السلام (3)
إبراهيم عليه السلام (3)
أشرْتُ في الفصل السابق إلى مجيء إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل وهاجر إلى مكَّة، وذكرتُ ما أورده البخاريُّ في صحيحه عن هذه القصَّة، وعن نشأة إسماعيل عليه السلام، وما كان مِن شأنه مع قبيلة جرهم، وتعلُّمه اللسانَ العربيَّ ومساعدة أبيه إبراهيم عليه السلام في بِناء البيت الحرام، وقد ذكر اللهُ تبارك وتعالى قصَّةَ بناء الكعبة في كتابه الكريم؛ حيث يقول: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 26 – 29].
وقال عز وجل: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 124 – 129].
كما أشار الله عز وجل إلى ما كان من إبراهيم في وضعه هاجرَ وإسماعيلَ عند مكان البيت حيث يقول: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]، وقد استجاب الله تعالى دعوةَ إبراهيم؛ فجعل هذا البيت آمنًا، يُجبى إليه ثمرات كلِّ شيء، كما قال عز وجل: ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 57]، وكما قال عز وجل: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 67].
كما استجاب الله تبارك وتعالى إلى دعاء خليلِه إبراهيم، فأرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل أهل البيت الحرام، يتلو عليهم آياتِ اللهِ ويعلِّمهم الكتاب والحكمة ويزكِّيهم؛ ولذلك جاء في الحديث الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام))، كما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله، من حديث أبي أُمامة رضي الله عنه والعرباض بن سارية رضي الله عنه، واللفظ لأبي أُمامة رضي الله عنه.
كما ذكر الله تبارك وتعالى قصة هجرة إبراهيم عليه السلام وبشارته بإسماعيل وقصة رؤياه بذبحه فقال: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 83 – 89]، وكأنه عليه السلام أراد أن يفرِّقهم ليبتعدوا عنه؛ حتى يتفرغ لتحطيم أصنامهم بإيهامهم أنه مريض حتى لا يلامسوه وبخاصة بعد نظرته في النجوم، ونظرته عليه السلام في النجوم لم يقصد بها أن يتعرَّف من النجوم عن حالته، كما أن قوله: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ لم يرد بها أنه مريض بمرض مَعْدٍ، وإنما أراد في نفسه أنه ضعيفٌ، وكل ابن آدم ضعيف مهما كانت صحَّته، وقد خُلق الإنسان ضعيفًا، فهذا من المعاريض، وفي المعاريض مندوحةٌ عن الكذب، حاشاه عليه السلام أن يكذب، على أنه قد يطلق على المعاريض أنها كذب باعتبار حقيقة المراد، لكنه ليس الكذب المذموم؛ بل هو كإطلاق الحسد على الغبطة، في مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)).
وقد فسَّر عامَّةُ العلماء الحسدَ في هذا الحديث، بأنه الغِبطة؛ إذ الحسد المذموم هو تمنِّي زوال النعمة عن الغير، ولا شك عند أهل العلم أن قول إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ وكذلك قوله: ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ [الأنبياء: 63] وكذلك لما سأله ملكُ مصرَ عن سارة فقال: “إنها أختي”، لا شك عند العلماء أن ذلك ليس من باب الكذب المذموم، وإنما هو من باب التورية والمعاريض.
ثمَّ قال تعالى: ﴿ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴾ [الصافات: 90، 91]؛ “لأن الكفار قد جعلوا عند أصنامهم طعامًا” ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 92 – 99]؛ “أي: إني مهاجر إلى الله عز وجل من دار الكفر إلى الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وأمَلِي في الله عز وجل أن يرشدني إلى سبيل الخير وما فيه صلاح ديني ودنياي”.
﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا ﴾ [الصافات: 100 – 103]؛ أي انْقادَا لأمر الله، ﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [الصافات: 103 – 113].
ولا شك في أن سياقَ هذه الآيات الكريمة يدل على أنَّ الذَّبيح هو إسماعيل لا إسحاق عليه السلام؛ لأنه ذكر البشارة بإسحاق بعد البشارة بإسماعيل الذي وصفه بأنه غلام حليم، وقد وصف إسحاق عند البشارة به بأنه غلام عليم، ومن الأدلَّة أيضًا على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أنه عند البشارة بإسحاق قال: ﴿ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71]، وهو يُفيد أن إسحاق سيعيش ويولد له في حياة أبيه، فكيف يؤمر بذبحه وهو غلام لم يُولد له بعد، مع يقينه بأنه لن يموت حتى يولد له يعقوب، وقد حدَّث ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم فقال: “إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى؛ وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال تعالى: ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 112]، ويقول الله تعالى: ﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71]، يقول بابن وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد بما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل”، قال ابن إسحاق: سمعته يقول ذلك كثيرًا، وقال ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام، فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديًّا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، فسأله عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه عن ذلك، قال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبدالعزيز، فقال له عمر: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل واللهِ يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشرَ العرب على أن يكون أباكم، الذي كان مِن أمر الله فيه، والفضل الذي ذكر الله تعالى منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق؛ لأنَّ إسحاق أبوهم؛ اهـ.
كما ذكر ابن كثير رحمه الله، وليس هذا أول جحد من اليهود؛ فقد جحدوا أن يكون إبراهيم بنى الكعبة، ولعلم الله تعالى بما يكون من اليهود أبقى في البيت الحرام مقام إبراهيم ليكون شاهدًا عليهم إلى يوم القيامة يتوارث العلمَ به جيل بعد جيل، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [آل عمران: 96، 97].
وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.