المجاهد خالد بن الوليد
المجاهد خالد بن الوليد
الحمد لله رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُـحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وأصْحَابِهِ والتَّابِعِيْنَ لَـهُمْ بإحْسَانٍ إلى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:
فإن المجاهد خالد بن الوليد هو أحد الصحابة المجاهدين في سبيل الله تعالى، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
النسب:
هو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي، وهو ابنُ خال عمر بن الخطاب.
كنيته: أبو سليمان.
أُمُّه: لُبابة الصغرى بنت الحارث بن حرب الهلالية، وهي أخت لُبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب، وهما أختا ميمونة بنت الحارث، زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ (الإصابة لابن حجر العسقلاني، جـ1، صـ412).
كان خالد أحَدَ أشراف قريش في الجاهلية، وإليه كانت القُبة والأَعِنَّة في الجاهلية؛ فأمَّا القُبَّة فإنهم كانوا يضربونها، ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش، وأمَّا الأَعِنَّة فإنه كان يكون المقدم على خيول قريش في الحروب؛ (الاستيعاب لابن عبدالبر، جـ 2، صـ 11).
إسلام خالد:
أَسْلَمَ خالد وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صفر سنة ثمانٍ من الهجرة.
قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي حُبَّ الإسلام، وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد، فليس موطن أشهده إلا انصرفت وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأن محمدًا سيظهر، ودافعته قريش بالراح يوم الحديبية، فقلت: أين المذهب؟ وقلت: أخرج إلى هرقل؟ ثم قلت: أخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية فأقيم مع عجم تابعًا لها مع عيب ذلك عَليَّ؟ ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام القضية، فتغيبت فكتب إليَّ أخي: لم أر أعجب مِن ذهاب رأيك (انصرافك) عن الإسلام، ومثل الإسلام لا يجهله أحدٌ، وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك، فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به، فقال: ما مثل خالد يجهل الإسلام، فاستدرك يا أخي ما فاتك، فلما أتاني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وسرتني مقالة النبي صلى الله عليه وسلم، فأرى في المنام كأني في بلاد ضيِّقة جدبة، فخرجت إلى بلد أخضر واسع، فقلت: إن هذه لرؤيا، فذكرتها بعد لأبي بكر، فقال: هو مخرجك الذي هداك الله فيه للإسلام، والضيق الشرك، فأجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبت مَن أُصاحِب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرتُ له الذي أريد، فأسرع الإجابة، وخرجنا جميعًا، فلمَّا كُنَّا بالهدة (اسم مكان) إذا عمرو بن العاص، فقال: مرحبًا بالقوم، فقلنا: وبك، فقال: أين مسيركم؟ فأخبرناه وأخبرنا أنه يريد أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم، فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول يوم من صفر سنة ثمانٍ، فلما طلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوَّة، فرَدَّ عليَّ السلام بوجه طَلْق فأسلمتُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كنت أرى لك عقلًا، رجوت ألا يسلمك إلَّا إلى خير، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت: استغفر لي كل ما أوضعتُ فيه من صَدٍّ عن سبيل الله، فقال: إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، ثم استغفر لي، وتقدَّم عمرو وعثمان بن طلحة فأسلما، فوالله، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحدًا من أصحابه فيما يُحزِبه؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 652:650).
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ من سيوف الله تعالى:
روى الترمذيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ هَذَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟))، فَأَقُولُ: فُلَانٌ، فَيَقُولُ: ((نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا))، وَيَقُولُ: ((مَنْ هَذَا؟))، فَأَقُولُ: فُلَانٌ، فَيَقُولُ: بِئْسَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا حَتَّى مَرَّ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالَ: ((نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ))؛ (حديث صحيح) (صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث: 3021).
شهادة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لخالد:
روى البخاريُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا، فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا))؛ (البخاري، حديث: 1468).
أحاديث خالد بن الوليد:
روى خالد إحدى وسبعين حديثًا، وله في الصحيحين حديثان فقط؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 1، صـ 384).
جهاده في سبيل الله:
شهد خالدُ بن الوليد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة فتح مكة وحنين وتبوك، وشارك في معركة مؤتة، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا إلى دَومة الجندل، فأسر حاكمها، أُكَيْدَر، وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فحقن دمَه وصالحَه على الجزية، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدًا إلى العُزَّى – وكانت لهوازن – فكسرها، وجعل يقول:
يا عُزى كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
|
وأرسله أبو بكر الصديق إلى قتال أهل الرِّدة، فأبلى في قتالهم بلاءً عظيمًا، ثم ولَّاه حرب فارس والروم، فأثَّر فيهم تأثيرًا شديدًا وفتح دمشق.
قال الإمام ابن كثير(رحمه الله): خالد بن الوليد سيفُ الله،أحدُ الشجعان المشهورين،لم يُقهر (وهو قائد للجيش) في جاهلية ولا إسلام؛ (البداية والنهاية لابن كثير، جـ 7، صـ116) (الإصابة لابن حجر العسقلاني، جـ1، صـ413).
روى البخاريُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ (البخاري، حديث: 3757).
روى البخاريُّ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَقُولُ: لَقَدْ انْقَطَعَتْ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ؛ (البخاري، حديث: 4265).
قال خالد بن الوليد: لقد شغلني الجهاد عن تَعَلُّمِ كثير من القرآن؛ (الإصابة لابن حجر العسقلاني، جـ1، صـ 414).
قيادة خالد لمعركة اليرموك ضد الرُّوم:
أرسل أبو بكر الصديق الجيش الإسلامي بقيادة أبي عُبيدة بن الجرَّاح نحو الشام، فأفزع ذلك الروم، وخافوا خوفًا شديدًا، وكتبوا إلى هرقل يُعْلِمونه بما كان من الأمر، فقال لهم: إن هؤلاء أهل دين جديد، وإنهم لا قِبَلَ لأحدٍ بهم، فأطيعوني وصالحوهم على نصف خراج الشام، ويبقى لكم جبال الروم، وإن أنتم أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام، وضيَّقوا عليكم جبال الروم، فرفضوا، فأعَدَّ الروم جيشًا كبيرًا، يتكوَّن من أربعين ومائتي ألف مقاتل، لملاقاة المسلمين.
بعث أبو عبيدة بن الجرَّاح إلى أبي بكر الصديق يُعْلِمه بما اجتمع من جيش الروم باليرموك، ويطلب منه المزيد من المجاهدين.
ثقة أبي بكر بقدرة خالد العسكرية:
قال أبو بكر الصديق: والله، لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد.
فكتب الصِّدِّيق عند ذلك إلى خالد بن الوليد أن يستنيب على العراق، وأن يذهب بمَنْ معه إلى الشام، فإذا وصل إليهم فهو الأمير عليهم، فإذا فرغ من أمر الروم، عاد إلى عمله بالعراق، فاستناب خالد المثنى بن حارثة على العراق، وسار مسرعًا في تسعة آلاف وخمسمائة من المجاهدين، وقطع المسافة في خمسة أيام فقط.
وصية خالد للمجاهدين:
لما وصل خالدٌ إلى الشام وجدَ الجيوش مُتفرِّقةً؛ فجيشُ أبي عبيدة وعمرو بن العاص ناحية، وجيش يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة في ناحية، فأمرهم بالاجتماع، ونهاهم عن التَّفَرُّق والاختلاف. قام خالد في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن هذا يومٌ من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أَخْلِصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وإن هذا يوم له ما بعده لو رددناهم اليوم إلى خندقهم فلا نزال نردهم، وإن هزمونا لا نفلح بعدها أبدًا، فتعالوا نتبادل الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم، والآخر غدًا، والآخر بعد غد، حتى يصبح كل منا أمير على الجيش، ودعوني اليوم إليكم، فأمَّرُوه عليهم، وهم يظنون أن الأمر يطول جدًّا، فخرجت الروم في تعبئة لم يُر مثلها قبلها قط، وخرج خالد في تعبئة لم تعبئها العرب قبل ذلك، فكان جيش المسلمين حوالي أربعين ألف مجاهد، منهم ألف من الصحابة، ومن هؤلاء الصحابة مائة من أهل غزوة بدر.
تنظيم خالد لجيش المسلمين:
قسَّم خالد الجيش الإسلامي إلى مجموعات، كل مجموعة تتكوَّن من ألف رجل عليهم أمير، وجعل أبا عبيدة في القلب، وعلى الميمنة عمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن حسنة، وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان، ووعظ المجاهدين عدد من الصحابة؛ منهم: أبو سفيان بن حرب، والمقداد بن الأسود، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة، والزبير بن العوام، وسعيد بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
مناظرة بين خالد وأحد قادة الرُّوم:
طلب ماهان (أحد قادة الرُّوم) خالدًا ليبرز إليه فيما بين الصفين فيجتمعان في مصلحة لهم، فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع، فهلمُّوا إليَّ أُعْطِ كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعامًا، وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها، فقال خالد: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك.
فقال أصحاب ماهان: هذا والله ما كنا نُحدِّث به عن العرب، وبدأت المعركة، واشتدَّ القتال، ثم حمل خالد بمن معه من المجاهدين على ميسرة جيش الروم التي حملت على ميمنة جيش المسلمين فأزالوهم إلى القلب، فقُتلَ من الروم في حملته هذه ستة آلاف، ثم قال خالد: والذي نفسي بيده، لم يبْقَ عندهم من الصبر والجَلَد غير ما رأيتم، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم، ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس معه على نحو من مائة ألف، فما وصل إليهم حتى انفضَّ جمعهم، وحمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد، فانكشفوا وتبعهم المسلمون لا يمتنعون منهم.
خالد بن الوليد رجل المواقف:
بينما كان المسلمون يقاتلون الروم، إذ قدم البريد من المدينة فدفع إلى خالد بن الوليد، فقال له: ما الخبر؟ فقال له – فيما بينه وبينه -: إن الصِّدِّيق رضي الله عنه قد توفي واستخلف عمر، واستناب على الجيوش أبا عبيدة عامر بن الجراح، فأسرها خالد ولم يُبْدِ ذلك للناس؛ لئلا يحصل ضعف ووهن في تلك الحال، وقال له والناس يسمعون: أحسنت، وأخذ منه الكتاب، فوضعه في كنانته، واشتغل بما كان فيه من تدبير الحرب والمقاتلة.
إسلام أحد قادة الروم على يد خالد:
خرج جرجه بن بوذيها (أحدُ كبار أمراء الروم) من الصَّفِّ واستدعى خالد بن الوليد، فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجه: يا خالد، أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحُرَّ لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيِّكم سيفًا من السماء، فأعطاكه، فلا تسلَّه على أحدٍ إلا هزمتهم؟ قال: لا! قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيَّه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعًا، ثم إن بعضنا صدَّقَه وتابَعَه، وبعضنا كذبه وباعده، فكنت فيمن كذَّبه وباعدَه، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لي: ((أنت سيف من سيوف الله سَلَّه الله على المشركين)) ودعا لي بالنصر، فسُميت سيف الله بذلك، فأنا من أشدِّ المسلمين على المشركين، فقال جرجه: يا خالد، إلامَ تدعون؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده، قال: فمن لم يجِبْكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم (نحميهم من أعدائهم)، قال: فإن لم يعطها، قال: نؤذنه بالحرب ثم نقاتله، قال: فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم؟ قال منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا، قال جرجه: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم وأفضل، قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر عنوة (بالقوة)، وبايعنا نبيَّنا وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء، ويخبرنا بالكتاب ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويُبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا (هذا تواضُع من خالد؛ لأنه ليس هناك أحدٌ في هذه الأُمَّة أفضل من أصحاب نبيِّنا صلى الله عليه وسلم)، فقال جرجه: بالله، لقد صدقتني ولم تخادعني؟ قال: تالله، لقد صدقتك، وإن الله ولي ما سألت عنه، فعند ذلك قلب جرجه التُّرْس ومال مع خالد، وقال: علِّمني الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه (خيمته)، ثم صلَّى به ركعتين.
وحملت الرُّوم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها منه حملة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية عليهم عكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، فركب خالد وجرجه معه والرُّوم خلال المسلمين، فتنادى الناس وثابوا، وتراجعت الروم إلى مواقفهم، وزحف خالد بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف، فضرب فيهم خالد وجرجه من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب.
وصلى المسلمون صلاة الظهر وصلاة العصر إيماءً، واستشهد جرجه (رحمه الله) ولم يُصَلِّ لله إلا تلك الركعتين مع خالد رضي الله عنهما.
أكمل خالد ليلته في خيمة تدارق (أخو هرقل وقائد جيوش الروم)، وباتت الخيول تجول نحو خيمة خالد يقتلون مَنْ مَرَّ بهم من الرُّوم حتى أصبحوا، وقُتل تدارق بعد ذلك، وغنم المسلمون الكثير من الغنائم.
وما فرح المسلمون بما وجدوا من الغنائم بقدر حزنهم على موت الصِّدِّيق حين أعلمهم خالد بذلك؛ ولكن عوَّضهم الله بالفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
طارد خالد من انهزم من الروم حتى وصل إلى دمشق، فخرج إليه أهلها، فقالوا: نحن على عهدنا وصلحنا؟ قال: نعم.
ثم اتبعهم إلى ثنية العقاب، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، ثم ساق وراءهم إلى حمص، فخرج إليه أهلها فصالحهم كما صالح أهل دمشق.
وقتل من الرُّوم في هذه المعركة أكثر من مائة ألف وعشرين ألفًا، واستشهد من المسلمين ثلاثة آلاف.
تقوى المسلمين سبب انتصارِهم:
قال هرقل (ملك الروم) وهو على إنطاكية لما قدمت منهزمة الروم: ويلكم! أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشرًا مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافًا في كل موطن، قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، من أجل أنا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغضب الله، ونظلم ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضي الله ونفسد في الأرض.
فقال له هرقل: أنت صدقتني؛ (تاريخ الطبري، جـ 2، صـ342:335) (البداية والنهاية لابن كثير، جـ7، صـ16:4).
حجة عمر بن الخطاب في عزل خالد:
قال عمر بن الخطاب: حين عزل خالد بن الوليد عن الشام، والمثنى بن حارثة عن العراق: إنما عزلتهما ليعلم الناس أن الله نَصَرَ الدين، لا بنصرهما وأن القوة لله جميعًا؛ (البداية والنهاية لابن كثير، جـ7، صـ118).
شبهات ورد عليها:
(1) قتل خالد لبني جذيمة:
روى البخاريُّ عَنْ عبدِالله بْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا (أي: خرجنا من دين إلى دين) فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ، لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْنَاهُ فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ؛ (البخاري، حديث:4339).
قال ابنُ سعد بعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ خالدَ بن الوليد في ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار داعيًا إلى الإسلام لا مقاتلًا؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، جـ7، صـ 654).
قوله: (فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا).
قال الخطابي: يُحتمل أن يكون خالد نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام؛ لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأَنَفَة، ولم ينقادوا إلى الدين، فقتلهم متأولًا؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، جـ7، صـ 654).
قوله: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ)) مَرَّتَيْنِ.
قال الخطابي: أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على خالد العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم: صبأنا؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، جـ7، صـ 655).
(2) قتل خالد لمالك بن نويرة:
قدم خالد بن الوليد البطاح (اسم مكان) وبث السرايا، وأمرهم بداعية الإسلام أن يأتوه بكل من لم يجب، وإن امتنع أن يقتلوه، وكان ممَّا أوصى به أبو بكر إذا نزلتم منزلًا، فأذِّنوا وأقيموا، فإن أذَّن القوم وأقاموا، فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة، ثُمَّ اقتلوهم، وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم، فإن أقرُّوا بالزكاة فاقبلوا منهم، وإن أبوها فلا شيء إلا الغارة ولا كلمة، فجاء الجنود بمالك بن نُويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع، فاختلفت السرية فيهم وفيهم أبو قتادة، فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر خالد بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء، وجعلت تزداد بردًا، فأمر خالد مناديًا فنادى: أدفئوا أسراكم، وكانت في لغة كنانة إذ قالوا: دثروا الرجل فأدفئوه، دِفْئُهُ قَتْلُهُ، وفي لغة غيرهم: أَدْفِهِ فَاقْتُلْهُ، فظن القوم- وهي في لغتهم القتل- أنه أراد القتل، فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالك بن نويرة، وسمع خالد نساء يبكين، فخرج وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمرًا أصابه، وقد اختلف القوم فيهم، فقال أبو قتادة: هذا عملك فنهره خالد، فغضب أبو قتادة، ومضى حتى أتى أبا بكر الصِّدِّيق، فأخبره فغضب عليه أبو بكر حتى كلمه عمر فيه، فلم يرضَ إلا أن يرجع إليه، فرجع إليه حتى قدم معه المدينة، وتزوَّج خالد زوجة مالك بن نويرة، وتركها لينقضي طُهْرها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتُعايره، فكتب أبو بكر الصديق إلى خالد أن يقدم عليه ففعل، فأخبره خالد بما حدث، واعتذر له عن ذلك الخطأ، فقبل أبو بكر منه عذره؛ ولكنه عاتبه في زواجه من امرأة مالك؛ لأن هذا الأمر كانت العرب تعتبره عيبًا في الحرب؛ (تاريخ الطبري، جـ 2، صـ 273:272).
وصية خالد بن الوليد:
دخل أبو الدرداء عائدًا خالد بن الوليد، فقال خالد: إن خيلي وسلاحي على ما جعلته في سبيل الله عز وجل، وداري بالمدينة صدقة، قد كنت أشهدت عليها عمر بن الخطاب، ونعم العون هو على الإسلام، وقد جعلت وصيتي وإنفاذ عهدي إلى عمر، فقدم أبو الدرداء بالوصية على عمر، فقبلها وترحَّم عليه؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 654).
وفاة خالد بن الوليد:
قال أبو وائل: لما حضرت خالدًا الوفاة، قال: لقد طلبت القتل في مظانِّه، فلم يُقَدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد أن لا إله إلا الله من ليلة بِتُّها وأنا متترِّس والسماء تهلني تمطر إلى صُبْحٍ حتى نُغِيرَ على الكُفَّار؛ (الإصابة لابن حجر العسقلاني، جـ1، صـ415)).
قال أبو الزناد: لما حضرت خالدَ بن الوليد الوفاةُ بكى، وقال: لقد لقيت كذا وكذا زحفًا (مائة معركة) وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامَتْ أعيُنُ الجبناء، وما من عمل أرجى من “لا إله إلا الله” وأنا متترِّس (متمسِّكٌ) بها؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ 1، صـ 671) (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 654).
تُوفي خالد بن الوليد بمدينة حِمْص بسورية، سنة إحدى وعشرين، وكان عمره ستين سنة؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ1، صـ 367).
خِتَامًا: أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْـحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، كما أسألهُ سُبْحَانَهُ أن ينفعَ به طلابَ العِلْمِ الكِرَامِ، وأرجو كُل قارئ كريم أن يدعوَ اللهَ سُبْحَانَهُ لي بالإخلاصِ، والتوفيقِ، والثباتِ على الحق، وحُسْنِ الخاتمة، فإن دعوةَ المسلمِ الكريم لأخيه المسلمِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتجَابةٌ، وأختِمُ بقولِ الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نبيِّنا مُـحَمَّدٍ وَآلهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَـهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.