Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

نحو تأصيل قواعد الترجيح في مدونة التفسير” قراءة في الدر المصون للسمين الحلبي


قراءة في كتاب:“المرجحات: نحو تأصيل قواعد الترجيح في مدونة التفسير”

قراءة في الدر المصون للسمين الحلبي

 

ﻻ ﻳﺨﻔﻰ على طالب العلم ﻣﺎ ﻟﻠﻘﻮاﻋﺪ اﻟﻜﻠﻴﺔ ﻣﻦ أﳘﻴﺔ ﻛﺒﺮى ﰲ ﺗﺼـﺤﻴﺢ اﻟﻔﻜﺮ، وﺗﻘﻮﻳﻢ اﻟﻮﺟﻬﺔ; ﻷن ﻣﻦ اﺳﺘﻐﺮق ﰲ دراﺳﺔ اﻟﻔـﺮوع ﻣﻌﺰوﻟـﺔً ﻋـﻦ ﻗﻮاﻋـﺪﻫﺎ اﺿطﺮب ﻓﻜره، وﺗﻨﺎﻗﺾ رأﻳُﻪ، ﻓﻤﻌﺮﻓﺔ اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﻫﻲ اﻟﺴﺒﻴﻞ ﻟﻀﺒط اﻟﻔـﺮوع؛ ذﻟـﻚ ﻷن اﻟﻔﻜﺮ اﻹﻧﺴاني ﻻ ﻳﺒﻠﻎ ﻧﻀﺠﻪ إﻻ إذا اﻧﺘﻘﻞ ﻣـﻦ اﻟﻤﻌﺎﻟﺠـﺔ اﻟﺠﺰﺋﻴـﺔ اﻟﻤﻔﻜﻜﺔ ﻟﻠﻤﺴﺎﺋﻞ، إﱃ اﻟﻨﻈﺮ اﻟﻜـلي اﻟﻤﻨﻬﺠـﻲ اﻟـﺬي ﻳﺼـﻮغ ﻣـﻦ اﻟﺠﺰﺋﻴـﺎت ﺑﻨـﺎءً متكاملًا .

 

وقد اعتنى المفسرون بجمع مسائل الخلاف ودراستها عناية كبيرة، ولأننا بحاجة إلى معرفة المعنى الأصوب والأجدر بالاتباع، والأخذ به في المسائل العلمية؛ لأجل ذلك نشأ علم يتعلق بمعرفة الراجح من المرجوح من هذه الأقوال، وهو المُسمَّى بعلم: “قواعد الترجيح” والذي يحتوي على جملة قواعد متنوِّعة يستطيع المُفسِّر من خلالها تمييز القول الصحيح من الضعيف، ثم آتت هذه الضوابط والمعالم ثمارها، وبرزت آثارها، فصار لها حضور مشهود لدى مُفسِّري القرآن الكريم، سواء أكان هذا الحضور بالتنصيص على القاعدة، أو بالإشارة العملية على أساسها دون التنصيص.

 

واﻹﻣﺎم أﲪـﺪ ﺑـﻦ ﻳﻮﺳـﻒ اﻟﻤﻌـﺮوف ﺑﺎﻟﺴﻤﻴﻦ اﻟﺤﻠﺒﻲ، اﻟﻤﺘﻮﰱ ﺳﻨﺔ ٦٥٧ﻫ، اﻟﺬي ﺻﻨَّﻒ ﺳـﻔﺮًا ﺟﻠـﻴﻼً، جعل عنوانه: ” اﻟﺪر اﻟﻤﺼـﻮن ﰲ ﻋﻠـﻮم اﻟﻜﺘـﺎب اﻟﻤﻜﻨـﻮن”، وهو ﻣﻮﺳـﻮﻋﺔ ﻗﺮآﻧﻴـﺔ ﻣﺘﻤﻴﺰة ﰲ ﺑﺎب ﺗﻔﺴﻴﺮ اﻟﻘﺮآن، وإﻋﺮاﺑﻪ، وﺗﻮﺟﻴﻪ ﻗﺮاءاﺗﻪ، وﺗﻔﺴـﻴره اﻟﺒﻼﻏـﻲ، هذا الإمام يُعَدُّ ﻣﻦ أبرز اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﺬﻳﻦ اﻫﺘﻤﻮا ﺑﺬﻛﺮ اﻻﺧﺘﻼف ﺑﻴﻦ اﻷﻗﻮال، وﻻ ﻳﻜﺘﻔﻲ ﺑﺬﻟﻚ، ﺑﻞ ﻳُﺤﻘِّﻖ وﻳُﺪﻗِّﻖ وﻳﺨﺘﺎر ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻷﻗـﻮال ﺑﺎﻟﺪﻟﻴﻞ واﻟﺒﺮﻫﺎن.

 

وفي اختياراته تظهر القواعد اﻟﺘﻲ ﺗﻀﺒط اﻟﻔﻬﻢ واﻟﻨﻈﺮ، وﺗﻠﺰم ﻣﻦ ﺣﺼَّﻠﻬﺎ ﺟﺎدة اﻟﺼﻮاب; ﻷﻧﻪ إذا ﻛﺎن ﺑﻴﺎن اﻟﻘﻮل اﻟﺮاﺟﺢ أﻣﺮًا مهمًّا، وﻏﺮﺿًﺎ ﺳﺎﻣﻴًﺎ; ﻓﺈن اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ اﻟﻤﻮﺻﻠﺔ ﻟﻬﺬا اﻟﻬﺪف ﻻ ﺗﻘﻞ أﳘﻴـﺔ ﻋﻨـﻪ؛ ﺣﺘـﻰ ﻻ    ﻳﻜـﻮن اﻟﺘـﺮﺟﻴﺢ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﻬﻮى، أو   اﻟﺬوق اﻟﺸﺨﺼﻲ؛ ﻟﺬا شرع الباحث الدكتور محمد عبدالنبي الحفناوي المدرس بجامعة الأزهر ﰲ ﻗـﺮاءة اﻟﺴـﻤﻴﻦ ﻣﻔﺴـﺮًا، وﻗـﺮاءة اﻟـﺪر اﻟﻤﺼﻮن ﻣﺪوﻧﺔ؛ ﻟﺠﻤﻊ اﻟﻤﺸﺘَّﺖ، وﻧَﻈْﻢ اﻟﻤﻔﺮَّق من قواعد الترجيح، ﻣﻊ اﻟﺘﺄﺻﻴﻞ واﻟﺘﻤﺜﻴﻞ، فكان هذا الكتاب بين أيدينا وعنوانه: “المرجحات: نحو تأصيل قواعد الترجيح في مدونة التفسير، قراءة في الدر المصون للسمين الحلبي“.

 

وهذا الكتاب الصادر عن مكتبة الآداب بالقاهرة سنة 2020م، هو في الأصل رسالة علمية تقدَّم بها المؤلِّف إلى قسم التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر الشريف، وحصل بها على درجة العالمية “الدكتوراه” بتقدير مرتبة الشرف الأولى.

 

وقد أفرغ الكتاب جهده في محاولة تأصيلية لقضية التقعيد في حقل التفسير؛ لرفع هذا الجدل المثار حول قضية التقعيد؛ فكان هدفه المشار إليه في مدخله: الارتفاع فوق الجدليَّة بالتأصيلية.

وﻛﺎن ﻣﻦ أﻫﻢ أﺳﺒﺎب اﺧﺘﻴﺎره لهذا اﻟﻤﻮﺿﻮع: اﻟﻌﻤﻞ على ﺗﻨﻘﻴﺔ ﻛﺘﺐ اﻟﺘﻔﺴﻴﺮ ﻣﻤﺎ ﻟﺤﻖ بها ﻣـﻦ أﻗـﻮالٍ ﺷـﺎذةٍ أو دﺧﻴﻠـةٍ، وذﻟﻚ ﰲ ﺿﻮء اﻟﻨﻈﺮ في ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﺘﺮﺟﻴﺢ، كما أن ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ لطﺎﻟﺐ اﻟﺘﻔﺴﻴﺮ تُهيِّئ ﻟﻪ آﻟﻴـﺎت اﻻﺳﺘﻨﺒﺎط واﻟﻔﻬﻢ، ﻣﻊ ﻣﻠﻜﺔ ﺗﺼﻴره ذا ﻗﺪرة على اﻻﺧﺘﻴﺎر واﻟﺘﺮﺟﻴﺢ ، فمعرفة اﻟﺮاﺟﺢ ﻣﻊ أدﻟﺘﻪ ﻫﻮ اﻟﺘﻔﺴﻴﺮ على اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، والسمين ﻻ ﻳﻜﺘﻔﻲ ﺑﺤﻜﺎﻳﺔ اﻟﺨﻼف، وﻻ ﺣﺘﻰ ﺑﻴﺎن اﻟﺮاﺟﺢ، دون ﺑﻴﺎن ﻋِﻠَّﺔ اﺧﺘﻴﺎره، وﻫﻮ ﻗﺎﻋﺪة اﻟﺘﺮﺟﻴﺢ اﻟﺘﻲ أﻗﺎم ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﺬا اﻻﺧﺘﻴﺎر.

 

وحول الإشكال العلمي لموضوع الكتاب: يرى الحفناوي أنه إذا ﻛﺎن ﺷﺄن اﻟﺘﻘﻌﻴﺪ اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻲ ﺣﺎﺿﺮًا ﰲ ﻋﺪد ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺸﺮﻋﻴﺔ، ﻓﺈن ﻋﻠـﻢ اﻟﺘﻔﺴﻴﺮ ﱂ ﻳﺸﺬ ﻋﻦ ذﻟﻚ، ﻏﻴﺮ أن اﻟﺴﻤﺔ اﻟﻤﻤﻴﺰة ﻟﻘﻮاﻋـﺪ اﻟﺘـﺮﺟﻴﺢ اﻟﺘﻔﺴـﻴﺮﻳﺔ ﺗـﺘﺠلَّى ﰲ ﻛونهـﺎ ﻣﺘﻨﻮﻋـﺔ اﻟﻤﺒﺎﺣﺚ؛ وذلك ﻟﺨﺼﻮﺑﺔ ﻋﻠﻢ اﻟﺘﻔﺴﻴﺮ، ﻓﻜﺎﻧﺖ طﺒﻴﻌﺔ ﻗﻮاعده اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻴﺔ ﻛﺬﻟﻚ أﻳﻀًﺎ ، ﻣﻦ ﻫﻨﺎ اﺗﺴﻌﺖ رﻗﻌـﺔ اﻟﺒﺤـﺚ اﻟﻌﻠﻤـﻲ ﻟﺘﺸـﻤﻞ ﻋﻠﻮﻣـًﺎ ﻛﺜﻴـﺮةً ﻟﺘﺄﺻـﻴﻞ ﻫـذه اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻴﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺪرس اﻟﺘﻔﺴﻴﺮي، وﺑﻴﺎن ﻣﻀﺎﻣﻴﻨﻬﺎ اﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ .

 

وكلمة “المرجحات” في عنوان الكتاب – شأنها شأن جُلِّ عناوين الكتب؛ كالموافقات والتعريفات والكليات.. إلخ، الشأن فيها الإشارة إلى مضامين الكتاب؛ فالكتاب يُعْنى بقضايا التقعيد الترجيحي، فكان العنوان الرئيس إشارة إلى هذه القواعد الترجيحية التي هي بمثابة مرجحات يعتمد عليها الناظر في حقل التفسير بين المسائل المختلف فيها.

 

وقد قام الباحث ﺑﺎﺳﺘﻘﺮاء اﻟـﺪر اﻟﻤﺼـﻮن كاملًا؛ ﻻﺳـﺘﻨطﺎق اﻟﻨﺺ، وﻗﻮاﻋده اﻟﻤﻨﺜﻮرة ﰲ ﺛﻨﺎﻳﺎ اﻟﺘﻔﺴﻴﺮ و تتبَّع ﻣﻮاطﻦ اﻻﺧﺘﻼف واﻟﺘﺮﺟﻴﺢ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻫﺎ اﻟﺴﻤﻴﻦ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ، وقام بجَمْع وﺗﺤﻠﻴﻞ ودراﺳﺔ ﺗﻠﻚ اﻟﻤﻮاطﻦ، وﺑﻴﺎن ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻨﺪرج ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺤﺖ اﻵﺧﺮ، كما قام بصياغة اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻴﺔ، ﺛﻢ ﺗﻨﺎول ﻫذه اﻟﻘﻮاﻋﺪ واﻷﻣﺜﻠﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﺪراﺳﺔ واﻟﺘﺤﻘﻴﻖ وبيان أوﺟﻪ اﻟﻘﻮة واﻟﻀﻌﻒ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺴﺘﻔﻴﺪًا ﻣﻦ أﻗﻮال أﻫﻞ اﻟﻌﻠﻢ .

 

والكاتب ينتهج ﻣﺴلكًا ﻳﻘﻮم ﻋلى الجَمْع بين دراﺳﺔ ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﺘـﺮﺟﻴﺢ ﻣـﻦ ﻧﺎﺣﻴـﺔ اﻟﺘﺄﺻـﻴﻞ ﻋﻤﻮﻣًﺎ، وﺗﻨﺰﻳﻞ ﺧﺼﻮﺻـﻴﺔ اﻟﻤﺪوﻧـﺔ اﻟﺘﻔﺴـﻴﺮﻳﺔ ﰲ اﻟـﺪر اﻟﻤﺼـﻮن، ومِن ثَمَّ ﻛﺎن اﻟﻤﻨﻬﺞ ﺟﺎﻣﻌًﺎ ﺑﻴﻦ اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ واﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ اﻟﻤﻨطﺒﻘﺔ ﻋـلى اﻟﻤـﺎدة اﻟﺘﻔﺴﻴﺮﻳﺔ.

 

وفي نهاية تحليله لكل قاعدة، و ﺗﺤﺖ حاشية بعنوان “اكتفاء من القلادة بما يحيط بالعنق“؛ وضع الكاتب ﺗﺬﻳﻴﻼً ﺑطﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻤﺎذج اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺄﻧﺲ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺸﻴﺦ ﺑﻤضمون اﻟﻘﺎﻋﺪة، دون اﻟﺘﺼﺮﻳﺢ بها؛ ﻟﺬﻟﻚ آﺛﺮ أن ﻳﻜﻮن ﻫﺬا اﻟﺘﺬﻳﻴﻞ غُفلًا ﻣـﻦ اﻟﺪراﺳـﺔ واﻟﺘـﺮﺟﻴﺢ، ﻓﻬـﻮ ﻣـﻦ ﺑـﺎب اﻻﺳﺘﺌﻨﺎس واﻟﺘﺄﻛﻴﺪ، ﻻ ﻣﻦ ﺑﺎب الاستشهاد واﻟﺘﺄﺳﻴﺲ .

 

هذا، وقد اشتمل اﻟﻜﺘﺎب بعد المقدمة وقبل الخاتمة على مدخل تأصيلي، وأرﺑﻌﺔ ﻓﺼـﻮل، أما “المدخل التأصيلي” فقد خصَّصه الكاتب لمعالجة عملية التقعيد في الدرس التفسيري، فعرف بقواعد الترجيح وأهميتها وحجيتها، وصلتها بأسباب الاختلاف، وختمها ببيان صيغ الترجيح عند السمين.

 

وأودُّ أن أنقل للقارئ هنا تعريف قواعد الترجيح الذي استقر عليه الكاتب، حيث يرى أنها: ضوابط وقواعد أغلبية يُتوصَّل بها إلى معرفة الراجح من الأقوال المختلفة، والمراد بقواعد الترجيح في هذا الكتاب خاصة: هي الطرق التي سلكها الإمام السمين الحلبي رحمه الله لتقوية أحد الأقوال على غيره في تفسير كتاب الله[1].

 

أما الفصل الأول فقد قدم فيه دراسة موجزة عن السمين الحلبي، وتفسيره الدر المصون، ومنهجه، ومصادره.

وفي الفصل الثاني: تأصيل قواعد الترجيح المتعلقة بالتفسير بالمأثور للقرآن الكريم.

يعرف التفسير بالمأثور بأنه: ما جاء في القرآن الكريم نفسه من البيان، وما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نقل عن الصحابة ،وما نقل عن التابعين، من كل ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم والتفصيل لبعض آياته.

 

ويبدأ بالحديث عن “قواعد الترجيح المتعلقة بتفسير القرآن بالقرآن”: وهي كثيرة، ومنها:

“الوجه الموافق للآيات القرآنية مقدم على غيره”[2]، وهنا يُشير الكاتب إلى براعة الشيخ رحمه الله في توظيف النظير القرآني لأبعد من مجرد تفسير آية بأخرى، فقد استخدم النظير القرآني في الترجيح به في أدق المسائل القرآنية، من ترجيح معنى كلمة، أو معنى جملة، أو ترجيح إعراب على إعراب.

 

“لا يصح حمل الآية القرآنية على وجوه تخالف آية أخرى”[3]، وبيانها أنه إذا ذكر في تفسير آية قرآنية عدة أقوال، وكان أحد هذه الأقوال التفسيرية، أو اللُّغوية ترده آية قرآنية أخرى وتقتضي بطلان مقتضاه؛ ضعف هذا القول، وانحصر الراجح في بقية الأقوال المذكورة.

 

ثم ينتقل إلى الحديث عن “قواعد الترجيح المتعلقة بتفسير القرآن بالسنة”:

وقد وظَّف السمين هذا الوجه من قواعد الترجيح، وأكَّد عليه بكثرة استشهاده بالحديث النبوي في تفسيره؛ إذ وصل عدد الأحاديث إلى المئات، تارةً في ثنايا الاستشهاد، وتارةً في ثنايا الترجيح، بل وصلت براعة الشيخ في توظيف الترجيح بالسنة لأبعد من مجرد تفسير آية، فقد وظَّف السُّنَّة في الترجيح بها في أدق المسائل القرآنية، وإن لم ينصَّ على القاعدة نصًّا، إلا أنه عمل بمقتضاها من ترجيح معنى مفردة، أو معنى تركيب، أو ترجيح إعراب على إعراب، بل وتضعيف قول؛ لأنه يخالف حديثًا صحيحًا؛ لذا كانت القاعدة التي أقام عليها هذا المبحث هي: “الوجه الموافق للحديث الثابت فهو مقدم على ما خالفه”[4].

 

ويأتي للحديث عن “القواعد المتعلقة بأقوال الصحابة والتابعين“؛ وذلك لمباشرتهم الوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسُّنَّة، فهم أقعد في فهم القرائن، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم، والقاعدة الدالَّة على ذلك هي: “فهم السلف للقرآن حجة يحتكم إليه لا عليه”[5].

 

وفي الفصل الثالث الذي جعل عنوانه:تأصيل قواعد الترجيح المتعلقة بالتفسير بالرأي للقرآن الكريم“، يعرف التفسير بالرأي بأنه: عبارة عن تفسير القرآن الكريم بالاجتهاد بعد معرفة المفسِّر لكلام العرب ومناحيهم في القول، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها، ووقوفه على أسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليه المفسِّر.

 

والذي عليه المحققون من أهل العلم أنه إذا لم يجد المُفسِّر ما يفسر به من القرآن، أو السنة، أو من أقوال الصحابة والتابعين، أجهد رأيه وأعمل فكره، وَفْق العلوم والأدوات التي اشترطها المُحقِّقون.

 

وفي هذا الفصل يُحدِّثنا عن قواعد الترجيح المتعلقة باستعمال الألفاظ القرآنية، وباستعمال التراكيب القرآنية، وباستعمال القرائن، وفي ضوء هذه القواعد يناقش العديد من القضايا اللسانية المتعلقة بعلوم القرآن؛ مثل: الترادف، والاشتقاق، والحقيقة والمجاز، ومرجعية الضمير، والاستثناء، والحذف والزيادة، وأثر السياق في فهم النص، ومن أمثلة تلك القواعد:

“إذا دار اللفظ بين كونه مترادفًا أو متباينًا، فحمله على المتباين أولى”[6].

ذهب بعض أهل النظر إلى أن التوارُد على المعنى قد يتجاوز حدَّ التقارب إلى التطابق، فقالوا بما عرف بالترادف، وبعضهم قال بالتباين الصوتي والمعنوي أيضًا، فقالوا بما عرف بالفروق أو التباين، فبين معاني الألفاظ اتفاق في شيء واختلاف في شيء؛ ومِنْ ثمَّ عني غير قليل من أهل العلم بتحرير الفروق الدلالية بين الكلمات التي يحسب أنها مترادفة، وهذا المذهب هو المختار عند كثير من أهل التحقيق.

 

هذا، وبعد استقراء الدر المصون تبيَّن للباحث أن السمين رحمه الله من أنصار القائلين بالتباين، وهو ما جعله يقول بالفروق بين كل لفظين متقاربين في المعنى، وليس أدل على ذلك من قوله بعد مناقشة الفرق بين: “كسب واكتسب” قال” :وهذا مبني على القول بالفرق بين البناءينوهوالأظهر[7].

 

“يحمل تأويل كتاب الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره”[8]:

تظهر قيمة هذه القاعدة، وتشعُّبها في تفسير كلام الشارع، من خلال كونها حاكمة على جُلِّ قواعد تفسير النصوص، ومن أهمها:توجيهمعانيكتابالله عزوجل إلىالظاهرالمستعملفيالناس، أولىمنتوجيههاإلىالخفيالقليلفيالاستعمال”[9].

 

“الخطابيمضيعلىماعمَّوغلب، لاعلىماشذَّوندر”[10].

 

فإن أكثر هذه القواعد مَرَدُّها إلى اعتبار الغالب الأعم، وترك القليل بشرط التجرد من القرينة الحاملة على المعنى الأقل اشتهارًا، فإذا ما توفرت هذه القرينة فالمصير إليها، ولم يكن السمين بدعًا عن هؤلاء؛ بل سار على نفس النهج في تأصيلهم وتنظيرهم، وليس أدل على هذا من علله التي يعلل بها رده لبعض الأقوال مرجحًا المشهور عليها، ومن ذلك:

* وهذاليسبشيء؛ لأنالعربعلىخلافهكابرًاعنكابر[11].

* وادعاءعلىالعربمالمتعرفه، وهذهجرأةيستعاذباللهمنها[12].

 

والتنوُّع في القضايا اللسانية التي تناولها السمين ليس غريبًا عليه رحمه الله، فتفسيره خلاصة التفاسير السابقة له المهتمة بجانب الأعاريب والأساليب، مع كامل العناية بالترجيح القائم على المعنى والقاعدة النحوية والصناعة اللغوية، ومراعاة الظاهر؛ فكان هذا الفصل محاولة لاستقراء هذه القواعد والضوابط الحاكمة للمعاني، من خلال توظيفها بعملية الترجيح؛ للنجاة من الخطأ في التفسير؛ وللوصول إلى حسن الاستنباط لمراد الله في كتابه.

 

وفي الفصل الرابع الذي جعل عنوانه:ﺗﺄﺻﻴﻞ ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﺘﺮﺟﻴﺢ اﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﻤﺴﺎﺋﻞ ﻋﻠﻮم اﻟﻘﺮآن اﻟﻜﺮﻳﻢ” يتحدَّث عن أبرز مسائل علوم القرآن الكريم التي أشار إليها السمين، وهي: اﻟﻘﺮاءات، ورﺳﻢ اﻟﻤﺼﺤﻒ، واﻟمطﻠﻖ واﻟﻤﻘﻴﺪ.

يتحدَّث عن ظاهرة نقد القراءات القرآنية المتواترة، بحجة مخالفتها من بعض الوجوه للنحو الكوفي أو البصري، وهذا لا يجوز عند المحققين من أهل العلم؛ فإن الحكم على القراءة صحةً أو ضعفًا لا يكون من خلال قواعد اللغة وحدها، وإنما الحكم على القراءة يكون مرجعه الأول إلى الرواية وصحة النقل، وهذا ما عبرت عنه قاعدة: “القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها”[13] والسمين رحمه الله لم يضعف قراءة متواترة في تفسيره؛ بل ردَّ كل انتقاد وُجِّه إلى القراءات المتواترة، وأثبت صحة القراءة وسلامتها من حيث اللغة والمعنى، وقاعدته في ذلك: متىصحَّتالقراءةوثبتتواترهافلاالتفاتإلىمنتقديها[14].

 

وعند حديثه عن قاعدة: “الأصل توافق القراءات[15] يقرر أنه إذا اجتمع في كلمة قراءتان أو أكثر، وكانت إحدى القراءات تحتمل أكثر من توجيه؛ فإن التوجيه الأولى هو الذي يوافق القراءة الأخرى في المعنى، فهو أولى الوجوه حتى تتحد القراءات في المعنى.

 

وينتقل الباحث إلى الرسم العثماني، فيؤكد أن احترام الرسم والتزامه أمر ضروري، تجب المحافظة عليه؛ لما في هذا الشأن من سدٍّ لذريعة التبديل والتحريف، وحماية للرسم الذي يحفظ أصول القراءات المتواترة، ويتلاءم معها، وقد صرَّح السمين بموقفه في غير ما موضع بأن الرسم سُنَّة مُتَّبَعة، وأولاه عنايةً بالغةً سواء من جهة التوجيه أو التنظير والمقارنة بين المصاحف كآلية ترجيحيَّة بين الأقوال؛ لذا كانت هذه القاعدة: “القول المؤيد بالرسم مقدم على غيره[16].

 

ولقد راعى السمين المطلق والمقيد، واستخدم رحمه الله هذه الآلية في الترجيح من خلال القاعدة الآتية: “الأصل إبقاء المطلق على إطلاقه حتى يرد ما يقيده”[17].

 

فإذا ورد لفظ مطلق، فالأصل أن يحمل على إطلاقه ما لم يقم دليل على تقييده، وإذا ورد لفظ مقيد بقيد معين فالأصل فيه أن يحمل على تقييده ما لم يقم دليل أو قرينة تدل على أن التقييد لم يكن مقصودًا، فإذا قام دليل أو قرينة على أن هذا القيد غير مقصود فإن المطلق يبقى على إطلاقه.

 

وفي ختام هذه الرحلة مع هذا الكتاب الماتع يلاحظ القارئ ﺣﻀﻮر اﻟﻀـﺎﺑط اﻟﺘﺮﺟﻴﺤـﻲ ﰲ ﻓﻜـﺮ اﻹﻣـﺎم اﻟﺴـﻤﻴﻦ اﻟﻤﻨﺜـﻮر ﰲ أﻗﻮاﻟـﻪ واﺧﺘﻴﺎراﺗﻪ اﻟﻤﺒﺜﻮﺛﺔ ﰲ “اﻟﺪر اﻟﻤﺼﻮن“؛ ذلك اﻟﻜﺘﺎب الذي ﲨﻊ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺨﻤﺴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆدي إلى ﻓﻬﻢ اﻟﻘﺮآن ﻓﻬﻤًـﺎ ﺻـﺤﻴﺤًﺎ، وﰲ وﺣﺪة واﺣﺪة ﻣﺘﺮاﺑطـﺔ، ﻳﺨـﺪم ﺑﻌﻀـﻬﺎ ﺑﻌﻀًـﺎ، وﻫـﻲ: ﻋﻠـﻢ اﻟﻠﻐـﺔ، واﻟﻨﺤـﻮ، واﻟﺼﺮف، واﻟﺒﻴﺎن، واﻟﻤﻌﺎني.

 

ولعل من أﺑﺮز اﻹﺿﺎﻓﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ التي قدَّمها اﻟﻜﺘﺎب ما يأتي: ﺿﺒط ﺻﻴﺎﻏﺔ اﻟﻘﺎﻋﺪة وَﻓْﻖ ﻣﺎ ﻗﺮره أﻫـﻞ اﻟﻌﻠـﻢ، و ﺗﻮﺛﻴﻖ اﻟﻘﺎﻋﺪة ﻣﻦ ﻣﻈﺎنِّـها ﻣﻦ ﻛﺘـﺐ اﻷﺻـﻮل واﻟﺘﻔﺴـﻴﺮ ،  واﻻﺳﺘﺌﻨﺎس ﰲ ﺗﻮﺛﻴﻖ اﻟﻘﺎﻋﺪة ﺑﻘﻮاﻋﺪ أﺧﺮى ذات ﺻﻠﺔ وﺛﻴﻘﺔ بها، والتأكيد على أن اﻟﻘﺎﻋﺪة اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻴـﺔ ﻟﻴﺴـﺖ ﻣﺠـﺮد ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻛﻼﻣﻴﺔ؛ ﺑﻞ ﺗﺮﺗﻘﻲ ﻟﺮﺗﺒﺔ اﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻲ ﺑﻴﻦ اﻷﻗـﻮال، وقد ﺗﺠـﺎوز ﻋـﺪد اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺘﺮﺟﻴﺤﻴﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻣﻨﻬﺎ واﻟﻔﺮﻋﻴﺔ في الكتاب اﻟﺨﻤﺴﻴﻦ ﻗﺎﻋﺪة .

 

ولعلنا في ضوء ما سبق نستطيع أن نقرأ عبارة السمين التي صدَّر بها الباحث كتابه: “وهذا التصنيف في الحقيقة نتيجة عمري وذخيرة دهري، فإنه لُبُّ كلامِ أهل هذه العلوم”[18].


[1] المرجحات، ص: 37.

[2] المرجحات، ص: 109.

[3] المرجحات، ص: 127.

[4] المرجحات، ص: 134.

[5] المرجحات، ص: 152.

[6] المرجحات، ص: 179.

[7] الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، (2/ 701) للسمين الحلبي، تحقيق أحمد محمد الخراط، طبعة دار القلم دمشق، الطبعة الثالثة 1432هــــــ – 2011م.

[8] المرجحات، ص: 191.

[9] الدر المصون: (1/ 28).

[10] كنز الوصول إلى معرفة الأصول للبزدوي، ص: 369، مطبعة جاويد بريس ـــــــ كراتشي ـــــــ بدون تاريخ.

[11] الدر المصون: (1/ 28).

[12] الدر المصون: (2/ 254).

[13] المرجحات، ص: 330.

[14] المرجحات، ص: 337.

[15] المرجحات، ص: 349.

[16] المرجحات، ص: 361.

[17] المرجحات، ص: 375.

[18] الدر المصون: (1/ 6).





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى