معماريو الأنفاق
معماريو الأنفاق
في أُمَّة الحيوان معماريون كُثُر يبرعون في تخطيط وإنشاء الأنفاق المختلفة الأهداف والتصاميم والأشكال والمنحنيات والمداخل والمخارج، ولقد تم توظيف “الرادار” في دراسات جيوفيزيائية أبانت عن خرائط ثلاثية الأبعاد لنظم هندسة الأنفاق عند الحيوانات، وتبيَّن أن تصميم بعضها يكون مائلًا (30-40 درجة) ومنعطفًا ناحية اليسار أو لليمين مع اتساع عند المنعطفات لإتاحة حرية الحركة؛ إلا أن أعقد هندسة لهذه الأنفاق ما تنفذه “المناجذ” (من آكلات الحشرات)، فهي دائرية متحدة المركز يتصل بعضها ببعض بأنفاق شعاعية، وتمتد منها أنفاق أخرى سطحية، ويُستَدل على أماكن وجودها من أكوام التراب الصغيرة التي تبقى متناثرة هنا وهناك.
وفي بعض الأنفاق تأخذ الفتحات شكلًا إهليليجيًّا تعلوها كومة ترابية للتمويه؛ لكن بعض الجُحُور كجُحْر “الضَّبِّ” له فتحة واحدة، على عكس أنفاق كثير من الحيوانات التي لها عدة فتحات للتهوية والتمويه والهروب من الأعداء، ولقنص الفرائس.
“الخلد”
يعد “الخلد” Mole Rat (Spalax leucodon) القارض الثدييي الوحيد الذي ليس له فتحات عيون خارجية (الخلد الأعمى/ أبو عماية)، وجسمه أسطواني مكتنز متكيف مع حفر الأنفاق، وهو من أفضل الحيوانات الحفَّارة (بمعدل 13 مترًا/ ساعة، وفي الأراضي المتشققة مسافة 45 مترًا/ ساعة) ويساعده على ذلك أرجله الأمامية الكبيرة، وأياديه التي تحمل مخالبَ ضخمة (تشبه المناكيش/ جرافات)، وقواطعه القوية والكبيرة، وأنفه الضيق البارز، ورأسه الوتدي الشكل وشواربه الحساسة، وهو متكيف كليًّا للعيش في أنفاق أرضية يصل طولها لأكثر من 200 متر، ولا يغادرها إلا في فترات محددة في حياته، وينتج عن نشاطه في حفر أنفاقه ظهور أكوام ترابية فوق سطح التربة يتراوح قطرها بين 25-50 سم، وتبتعد عن بعضها البعض 1-5 أمتار، وقد يصل ارتفاع الأكوام الترابية السميكة إلى 25 سم والتي تظهر فجأة، وهي تحدد الشكل العام لـ”بانوراما” أنفاقه، وتم استخدام الرادار لرصد تغييرات الفاصل الزمني لشبكة أنفاق الخلد، وتبيَّن أن توزيع التلال على السطح ليس مؤشرًا مضمونًا للهندسة المعقدة للنفق؛ فلقد أظهر الرادار مجموعة متشابكة من الأنفاق تشبه خريطة مترو أنفاق “لندن”.
ويعتبر “الخلد” من (الآفات الزراعية) التي تستحق “المكافحة” لخفض الخسائر التي تسببها على بعض المحاصيل، وخاصة في الزراعات التكثيفية والمحمية والغابات الطبيعية، ففي أنفاقه يمكن لفرد واحد من الخلد تخزين كمية من الغذاء (الجذر أو الدرنات أو الأبصال أو أوراق المحاصيل الخضرية) تصل إلى 50 كجم/ الموسم.
وتفضل إناث الخلد التغذية على المواد الخضراء بشكل خاص في مرحلة إرضاع الصغار، وكذلك يقوم الخلد بتقطيع جذور الأشجار والشجيرات التي تعترض سبيله أثناء حفر الأنفاق وتوسيع عمارة أنفاقه، وكثيرًا ما تؤدي هذه الأنفاق إلى فقد كبير في مياه الري (عدة أمتار مكعبة) وتحويل اتجاهها إلى أنفاقه؛ مما يؤدي لخسارة مياه ري هامة خاصة في أشهر الجفاف، وقد تصب مياه الري في مناطق لا يريد المزارع سقايتها أو تذهب لحقول مجاورة أو إلى مناطق غير مزروعة أصلًا، وينتشر الخلد في المناطق التي معدل الهطول السنوي فيها 100 ملم وأكثر, وهي مناطق زراعية على الغالب.
الفئران
تؤسس مجموعة متنوعة من الفقاريات- وبخاصة القوارض، كالفئران- أنفاقها لتأوي إليها، وتختبئ بها عن أعين أعدائها كما تخزن فيها قوتها، وتتخذها حول المباني والمستودعات والحقول وحواف الأنهار والقنوات، كما يمضي بعضها سحابات النهار في حفرها في الرمال، مع تميُّزها بثبات درجات الحرارة، وتتكوَّن- معظمها- من نفق رئيس يتناسب قطره مع حجم الحيوان، ويتفرع عنه تفريعات جانبية يؤدي بعضها إلى تجاويف مستديرة أو بَيْضِيَّة تستخدم لوضع الصغار أو للراحة والنوم والاختباء، ويحفر الفأر جحره بواسطة القواطع الأمامية ومخالب الطرفين الأماميين، ويستخدم الأطراف الخلفية لدفع التراب إلى الخلف وخارج النفق.
ولفأر الحقل الاجتماعي «Microtus socialis (وهو من الآفات الزراعية) جحور يبثها في الحقول حيث يقوم بتخزين كميات كبيرة من الغذاء فيها، فهو يتغذَّى بما يعادل وزنه (40-50 جرامًا) من الجذور والبذور والثمار والأوراق وقشور الأغصان والساق في الأشجار المثمرة والحرجيَّة، ويمكنه تخزين حوالي 255 سنبلة في جحر واحد؛ حيث يتم ذلك ضمن أنفاق خاصة يصممها الفأر بالقرب من جحره الأساس، وتحفر الفئران أنفاقًا بقطر 5– 7 سم وعلى عمق5– 8 سم تحت سطح التربة، وتربط بعضها مع بعض حيث تنتهي بغرفة تُسمَّى العش يتراوح قطرها بين 10– 15 سم، ولوحظ وجود نمطين من أنظمة الجحور:
النمط الأول: بسيط يتألف من 3–4 مداخل ومن حجرة تعشيش واحدة، يوجد هذا النظام في الأراضي كثيرة الفلاحة.
أما النمط الثاني: وهو معقد وهو ذات مداخل عديدة وغرف تعشيش كثيرة، وهذا النمط يوجد في الأراضي الحراجية التي تقل أو تنعدم فيها الفلاحة، وينشط في الليل والنهار، غير أنَّ نشاطه يبلغ الذروة في ساعات الصباح الباكر والمساء حيث يقوم بسحب البذور والأعشاب إلى النفق ليتغذَّى عليها، وفأر الحقل الاجتماعي قارض صغير الحجم، يتراوح طول جسمه مع رأسه من 9-12سم، ويتميَّز بذيل قصير مغطَّى بشعيرات قصيرة، وبأطراف خلفيَّة أطول من الأماميَّة، كما يتميَّز عن غيره بلون شعر الظهر الذي يراوح بين الأحمر الباهت والأسود الرمادي بينما لون شعر البطن رمادي فاتح.
أما الجرذ المهيمن على مدينة مثل “نيويورك” فهو “الجرذ البني”http://www.alukah.net/”الجرذ النرويجي” (Rattus norvegicus) وهو يحفر جحورًا، ويتميز بجمجمة مرنة؛ إذ يمكنه التسلل إلى داخل أي مكان أعرضَ من جمجمته (كالأنبوب المفضي إلى حوض المرحاض)، وفي بعض المتنزهات، توجد تجاويف أرضية صغيرة تمثل مداخل رئيسة لأنفاق هذه الجرذان؛ حيث لكل جحر ثلاثة مداخل: مدخل رئيس، وفتحتان للهروب السريع، وتعيش الجرذان البنية في تجمُّعات عائلية وتحافظ على أعشاشها (التي غالبًا ما تبنيها في أحواض الزهور بالمنتزهات العامة) نظيفة نسبيًّا، كما تُجري دوريات حراسة بمناطق نفوذها الصغيرة، وعندما يبلغ درصٌ سن النضج الجنسي – نحو عشرة أسابيع- يغادر الجُحْرَ بحثًا عن شريك للتزاوج وإقامة أنفاقه الخاصة بعائلته.
“القنفذ”
القنفذ/ الدعلج Hedgehog من صغار الثدييات الليلية (16 نوعًا)، له غطاء شائك كثيف يحميه من أعدائه، وينشط صيفًا، وينام شتاء، ويستيقظ ربيعًا، وهو من الحيوانات المُحبة للعزلة والنوم، ويمكنه النوم 18 ساعة/ يوم، وتَحفر بعض القنافذ جحورًا عميقة في الأرض، وبعضها يبني وكرًا من الأغصان، والأعشاب، وأوراق الأشجار، أو يختبئ بين الصخور، وبعضها يعيش في جحور هجرتها بعض الحيوانات مثل السلاحف والثعالب بينما تحفر القنافذ العربية طويلة الأذن والقنافذ الصحراوية الإفريقية والآسيوية جحورًا لتقيم فيها تقيها من حَرِّ النهار، وتخرجُ القنافذ في المساء كي تتغذَّى وتقتات، وتُصبح أكثر نشاطًا في هذه الفترة من اليوم من غيرها، ورغمَ ذلك، يميلُ القنفذ في أوقاتٍ مُعيَّنة إلى الخُروج والاصطياد في النَّهار، ويحدثُ ذلك على وجه الخصوص بعد هطول الأمطار الخفيفة. ويعتاش على أكل الحشرات؛ فيأكل الديدان والرخويات والزواحف والفئران الصغيرة وبيض الطيور التي تعشش في البراري كما يأكل النباتات والثمار، وعندما يتعرَّض للخطر، فإنه يكور نفسه على هيئة كرة.
“القندس”
ينتمي “القُنْدُس” إلى طائفة القوارض المائية وهو أبرع “مهندسي المملكة الحيوانية”، له أسنان حادة تشبه الإزميل لتعينه علي إنشاء السدود والمساكن من أخشاب الأشجار، ويتراوح عرض السد – الذي يقيمه زوج القندس- من متر إلى مائة متر، ثم يبني بيته وسط البركة جاعلًا مدخله تحت سطح الماء لحمايته من الأعداء، ويبلغ طول الأنفاق المؤدية لمسكنه أمتارًا؛ إذ تؤدي النهاية العليا للنفق إلى غرفة تتسع لإيواء أسرته، مغطاة بطبقة من الطين المتماسك الجيِّد الصرف لوجود أعواد خشبية بأسفله، إنه يبني مسكنه عبر تكديس الأعواد الخشبية والطين تاركًا فتحة تهوية علوية، ثم يحفر بفمه التربة ليكوِّن الأنفاق والغرفة الرئيسة، وقد يكوِّن الطين المتساقط من بين الأعواد الخشبية أرضيةَ الغرفة، وعادة ما تحصل القنادس على المواد اللازمة للبناء بإسقاط الأشجار ليلًا، ويمكن قرض جذع شجرة قطرها 30 سم في ليلتين من العمل الدائب؛ ومِن ثَمَّ تُفصل الفروع عن الجذع، وتُجزَّأ إلى قطع يبلغ طول كل منها قدمًا.
“الغرير” الأوروبي
في الحفر والتنقيب يبرع “الغرير” الأوروبي (Meles meles) وهو من الثدييات البرية اللاحمة التي تقتات الجرذان والزواحف، وأرجله مزودة بمخالب طويلة تساعده على الحفر والصيد؛ لذا يعيش في “شبكة” طويلة من الأوجار (الأنفاق)، وحجرات النوم المُبطنة بالتبن وأوراق الشجر، وما يرثه من جحر عن آبائه يضيف إليه دهاليز جديدة وبعض الحجرات، وقد يعيش في الجحر نحو 35 حيوانًا، ويبني في الجحر منافذَ إضافية لتمكنه من الهروب السريع، وقد عثر على جحر له 178 مدخلًا، ويتكون من 50 حجرة، ويربط فيما بينها نظام دهاليز تصل في مجموعها إلى طول 880 مترًا، ويهتمُّ بشدة بنظافة جحره، ويبني “مراحيض” للتبرُّز بعيدًا عن الجحر، وهناك شواهد “لدفنه” أفراد من عائلته بعد نفوقهم، ويمكن للغرير العيش حتى 15 عامًا؛ لكن يكثر اصطياده طمعًا بجلده ووبره الجميل.
البيليبيَّات (الشبيهة بالأرانب)
تعيش البيليبيَّات أو البندقوطيَّات (مجموعةٌ من الجرابيات) في صحارى قارة أستراليا، ويوجد نوعان هُما: “البيلبي الصغير” (انقرض في خمسينيَّات القرن الماضي نتيجة الأنشطة البشرية)، و”البيلبي الكبير” الذي ما زال موجودًا إلا أنَّ أعداده تناقصت كثيرًا، ولدى البيلبي خطمٌ طويل شبيهٌ بذاك الذي يُميِّز البندقوط، وآذانه كبيرةٌ جدًّا، يبلغ طول الحيوان البالغ ما بين 30 – 55 سنتيمترًا، وهو شبيهٌ إلى حد بعيد بالبندقوط؛ لكن ذيله أطول وآذانه أكبر، وأمَّا فراؤه فأكثر نعومة، وهذه المخلوقات هي روامس (تنشط ليلًا)، ولا تحتاج لشُرب الماء، فهي تحصل على ما تحتاج إليه من الطعام (الحشرات ويرقاتها والعناكب والفطريات والبذور والفاكهة وبصلات النبات، وبعض الحيوانات الصَّغيرة)، وهي تجد مُعظم طعامها بالحفر في التراب بألسنتها الطويلة جدًّا، وعلى عكس البندقوط، البيلبي حفَّارٌ ماهر وقادرٌ على شق شبكات أنفاقٍ طويلة بأرجله الأمامية ومخالبه القويَّة، ويحفر البيلبي عددًا من الجحور المختلفة في منطقته، يُمكن أن يصل عددها إلى أكثر من عشرة، وهو يتنقَّل بينها لحمايته من المفترسين ومن حرارة النَّهار، وجراب أنثى البيلبي مُوجَّه نحو الخلف؛ ممَّا يحميه من التلوُّث عندما تحفر جحورها، وتبلغ مدة الحمل عند أنثى البيلبي ما بين 12- 14 يومًا، وهي من أقصر فترات الحمل عند الثديِّيات.
بينما تقوم “الأرانب البرية” بتهيئة نفقها/ مسكنها الملائم، فتخطط وتحفر أنفاقًا أرضية تحمي فيها مواليدها من تقلبات الطقس والأعداء المتربصين بالصغار، كما تختار تربة تتميَّز بمعدل تسريب كبير كي تمتص أبوالها، أمَّا “الجربوع” فمن الحيوانات التي تنشط ليلًا للحصول على غذائها (البذور والثمار) ويعيش في إنفاق خاصة صممها بعناية للمعيشة وتخزين الطعام، أما في المناطق القاحلة فتحفر السلاحف أنفاقًا طولها ما بين 1-3 أمتار تحت الأرض لتصل لأماكن أكثر رطوبة؛ حيث تقضي ساعات النهار الحار فيما يسمى بــ”البيات الصيفي“، والخلاصة: قد تكون الأنفاق دائمة أو موسمية يؤسسها معماريو الأنفاق، أو قد يتم الاستيلاء على أخرى سابقة التجهيز؛ ومن ثَمَّ تتخذ بيوتًا ومصائد ومخازن ومآوي من الافتراس والأخطار.
والخلاصة: يظـُن الإنسان أنه وحده، دون باقي الكائنات الحية الذي يمتلك التخطيط العمراني، والإبداع المعماري؛ لكنه ليس وحيدًا في هذا التخطيط، وذلك الإبداع؛ بل يُشاركه- من عالم الحيوان- مِعماريون مُدهشون، وبنَّاءون عجيبون، وتقنيون بارعون.