من أحوال النبي في المدينة
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
أصبح المسلمون في المدينة قسمين:
أ– المهاجرون، وهم المسلمون الأوائل من أهل مكة الذين هاجروا من مكة إلى المدينة نتيجة اضطهاد المشركين لهم، وتركوا ديارهم وأموالهم، ولا يمنع أن يكون قد هاجر معهم عدد ممن أسلم مِن غير أهل مكة.
ب– الأنصار، وهم أهل المدينة من الخزرج والأوس الذين أسلموا وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة على الإيواء والنصرة لإخوانهم المسلمين المهاجرين.
وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينهم من أجل تقوية الصف الداخلي وإيجاد مأوى لائق للمهاجرين، بحيث يضم كل أنصاري إلى بيته رجلًا أو أسرة من المهاجرين بقوله: ((تآخوا في الله أخوينِ أخوين))، وتمت العملية بروح الأخوَّة والمحبة التي فاقت كل تصور، قال السهيلي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حين نزلوا المدينة؛ ليُذهِب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد أزر بعضهم ببعض، ولقد رفع القُرْآن الكريم من قيمة هذه المؤاخاة إلى حد التوارث بين المتآخيينِ؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72]، يقول ابن كثير في تفسيره: ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 72]؛ أي: كل منهم أحق بالآخر من كل أحد؛ ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثًا مقدمًا على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 75].
وبعد الاستقرار وانطلاق المهاجرين إلى العمل والجهاد عاد التوارث حسب القرابة مع بقاء الأخوَّة والمحبة بين المسلمين ورباطهم بها بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، وأخرَج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ… وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 33]، قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاريُّ المهاجريَّ دون ذوي رحمه؛ للأخوَّة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزل: ﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ﴾ [النساء: 33]، قال: نسخَتْها: ﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 33]، والروايات تعددت في كتب السنة، وكلها عن ابن عباس، وأخرج ابن سعد والحاكم وصححه عن الزبير بن العوام قال: أنزل الله فينا خاصة معشر قريش: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 75]، وذلك أنا معشر قريش قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان، فواخيناهم ووارثناهم فآخونا، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخى عمر فلانًا، وآخى عثمان بن عفان رجلًا من بني زريق، قال الزبير: وآخيت أنا كعب بن مالك ووارثونا ووارثناهم، فلما كان يوم أحد قيل لي: قد قتل أخوك كعب بن مالك، فجئته فانتقلته فوجدت السلاح قد ثقلته فيما يرى، فوالله يا بني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار، فرجعنا إلى مواريثنا، ويعني بها: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 75].