Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

أعظم كتب الشريعة نفائس الإملاء


أعظم كتب الشريعة نفائس الإملاء

 

شَرحُ ابن عقيل، مَنْ منكم لا يعرفه؟

الكل يعرفه، ومن أمعنَ النظر فيه وجد أنَّ ابن عقيل يتموَّج في شرحه كالبحر، وقد شُرحت الألفية بأكثر من مائة شرح كلها في كِفَّة وشرح ابن عقيل في كِفَّة، وقد جاء الشاطبي لينافس ابن عقيل ومثله الأشموني وابن هشام والمكودي وكذلك ابن بونا في طُرَّتِه؛ لكن تميَّز شرح ابن عقيل بالسهولة والعذوبة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد كتب الله لهذا الشرح شهرةً واسعةً وخلودًا منقطع النظير، ورغم موسوعية شرح الشاطبي، ودقة طُرَّة ابن بونا، وجمال تطريز ابن هشام، إلا أن الله كتب لشرح ابن عقيل الذيوع والانتشار، فلا تكاد تُذكَر ألفية ابن مالك إلا ويُذكَر معها شرح ابن عقيل، فهو بحقٍّ كما قال أبو حيان قاضي شريعة النحو في عصره: “ما تحت أديم السماء أنْحَى من ابن عقيل”.

لكن ما أريد أن أحدثكم به الآن أن هذا الشرح النفيس لم يكن إلا إملاءً في بعض المجالس النحوية، نصَّ على ذلك البدر العيني وغيره، فكيف لو كان ابن عقيل تفرَّغ لهذا الشرح وكتبه كتابة مُدقِّق؟

وأعظم كتاب جامع في تفسير القرآن تفسير الإمام الطبري بإجماع الأمة كان إملاء، فقد روى الخطيب البغدادي أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة -يعني: أن عنده من العلم في التفسير ما يملأ ثلاثين ألف ورقة – فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فلما رأى فتور هِمَّتِهم أملاه عليهم في ثلاثة آلاف ورقة، فكم الفرق بين ثلاثة آلاف وثلاثين ألف ورقة؟! إنه عشرة أضعاف، وهو الآن يقع في ثلاثين مجلدًا، ولو كانت هِمَّةَ طلابه عالية لكان الثلاثون مجلدًا ثلاثمائة مجلد!

فكانَ يبدأ في تفسيره كالبحر وهم يكتبون فكانت حصيلة هذه المجالس التفسيرية كتابه «جامع البيان عن تأويل آيالقرآن» وقد أملاه على تلاميذه من سنة 283 إلى سنة 290هـ.

وعلى ذكرِ ابن جرير إمام المفسرين الطبري وتفسيره العظيم فقد كنتُ أطالع في آثار البشير الإبراهيمي فوجدته يتأسَّف ويتحسَّر على مجالس الشيخ محمد عبده التي لم تدوَّن؛ إذ يقول: “وكان من إصلاحاته العلمية في هذا الباب درسه لكتاب الله بأسلوب حكيم لم يسبقه إليه سابق، وكان رحمه الله -يقصد محمد عبده- وهو مَنْ هو في استقلال الفكر واستنكار الطرائق الجامدة يجاري الطريقة الأزهرية بعض المجاراة لاعتبارات خاصة، ومن هذه المجاراة السطحية أنه كان يلتزم في تلك الدروس العامرة بالحكم العليا تفسير الجلالين ويستهلها بقراءة عباراته ولكن السامعين لتلك الدروس -على كثرتهم وجلالة أقدارهم في العلم والمعرفة، وتساويهم في الاعتقاد بأن تلك الدروس فيض من إلهام الله أجراه على قلب ذلك الإمام وعلى لسانه، وأنها مما لم تنطوِ عليه حنايا عالم، ولا صحائف كتاب- لم تتسابق أقلامُهم لتقييد تلك الدروس إلا قليلًا، ولو أنهم فعلوا لما ضاع من كلام ذلك الإمام حرف واحد…انتهى كلامه”.

 

وقفتُ مستغربًا أمام كلام العلَّامة الكبير حبر الجزائر وبحرها ومُجدِّد دينها البشير الإبراهيمي وهو يتحسَّر أسفًا على عدم تقييد علم الشيخ محمد عبده، وقد وصفه بأوصاف ما أظنه وصف أحدًا سواه بها.

لقد كان يتمنى أن تكون دروس الشيخ محررةً منقولةً من طلابٍ يكتبون في الدرس ما يسمعونه من أستاذهم على طريقة الإملاء.

وقد عددتُ للإمام الإبراهيمي في آثاره ما يقرب من عشرين موضعًا يُثني على الشيخ محمد عبده، وأطلق عليه لقب إمام المصلحين، ولقب إمام النهضة، ووصفه أنه إمام المفسرين بلا منازع، وأبلغ من تكلَّم في التفسير بيانًا لهديه، وفهمًا لأسراره وتوفيقًا بين آيات القرآن وآيات الأكوان، وذكر أنه كان يُفسِّر القرآن بلسانين: لسان العرب، ولسان الزمان، وأنه فسَّر القرآن بطريقة لم يسبقه إليها أحد، وبقيتُ أتساءل أسفًا: ما الذي أذهلَ طلابه وهم كُثُر عن أن يلتقطوا ما يقذفه البحر إليهم من جواهر ولآلئ ودُرَر؟!

ولقد قلتُ في نفسي: لعلهم لم يدركوا أهمية الأمر، وأن الأمالي ركن من أركان نقل العلم، أو لعلهم يذهلون وهم في لُجَّة البحر عن اغتراف ما تُشَنَّف به آذانهم.

ومن العجائب في عالم الأمالي أن تجد عالمًا تنزل على كتبه جائحة فيعيدها كلها من استظهاره لها، فهذا أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المتوفى سنة 287هـ، قال: “ذهبت كتبي فأمليتُ من ظهر قلبي خمسين ألف حديث”.

ونقل تقي الدين السبكي أن: “كتبَ خِزانة المدرسة النظامية حَرقت في زمن حياة نظام الملك فشقَّ عليه ذلك، فقالوا له: لا تخف إن ابن الحداد وهو من فقهاء الشافعية يُملي للكتَّاب جميع ما حُرق من حفظه، فأرسلوا خلفه فأملى جميع ما حرق في مدة ثلاث سنين ما بين تفسير وحديث وفقه وأصول ونحو ذلك”.

لله دره وهو يستذكر كل هذه الموسوعات العلمية، ولقد صدق الشاعر حين قال:

ليس بعلمٍ ما حوى القِمَطْرُ
ما العلمُ إلا ما حواه الصَّدْرُ

وقد يُعتدى على عالم من قِبَل السلطان، فيحرق كتبه أو يُصادِرها أو يعبث بها، فإن كان متقنًا لما فيها أعادها كما كانت، ومن عجيب ما قرأت حول هذا ما حصل لابن حزم وقد كان -أعلم المغرب بعلوم الشريعة وأجمعهم لها- وكانت عنده مكتبة عظيمة جدًّا، فوشى به الحُسَّاد إلى المعتضد بن عباد حاكم أشبيلية، فأراد أن ينتقم منه شَرَّ انتقامٍ، فأمر بإحراق كتبه، فهجم عليه جنود المعتمد، وصادروا كُتُبه، وقاموا بإحراقها، فماذا قال وهو يشاهد منظر إحراق الكُتُبِ؟ لقد قال بكل ثقة وقوة وعزة:

فَإِنْ تُحْرِقُوا القِرْطَاسَ لا تُحْرِقُوا الَّذِي
تَضَمَّنَهُ القِرْطَاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي
يَسِيْرُ مَعِي حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ رَكَائِبِي
وَيَنْزِلُ إِنْ أَنْزِلْ وَيُدْفَنُ فِي قَبْرِي

 

ومن الطرائف ما نُقِل عن المبارك أن أباه أخفى كتبه، ولم يجد حيلة لاستردادها والعثور عليها، فأملاها مرةً أخرى من حفظه وقوة استيعابه.

أمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فلا تخفى على ناظرٍ سعةُ اطِّلاعه، وتبحُّره، وغزارة علمه، وسيلان ذهنه، وتوقُّد ذكائه، وكثرة محفوظه؛ فلقد جمع العلوم بين عينيه يأخذ من أيها شاء، ويترك ما شاء.

وللعلم فهذا العلم البحر تبلغ مؤلفاته أكثر من خمسمائة مصنف، وأملى في سجنه الأخير ستين مجلدًا دون الرجوع إلى أي مرجع، وأدعُ الحديث لأخصَّ تلاميذه وألصقهم به الحافظ ابن عبدالهادي ليحدثنا عن إملائه؛ إذ يقول: “وللشيخ من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط، ولا أعلم أحدًا من متقدمي الأمة ولا متأخِّريها جمع مثل ما جمع، ولا صنَّف نحو ما صنَّف ولا قريبًا من ذلك، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه، وكثير منها صَنَّفه في الحبس، وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب”.

ومن أغرب ما أوردته كتب التاريخ ما حصل للإمام السرخسي صاحب أكبر موسوعة في الفقه الحنفي، فقد حُبِس السرخسي في قعر بئر مُعطَّلة، فأملى على طلابه ثلاثين مجلدًا في الفقه من غير مطالعة كتاب أو رجوع إلى مصنف، وكان سبب سجنه أن حاكم (أوزجند) وهي بلدة تقع حاليًّا في إيران تزوَّج جارية قبل أن يستبرئها، فسَألَ السرخسي عن فعلهِ ذلك، فأفتاه أن فعله حرام لا يجوز، ونكاحه باطل، فغضب منه الحاكم فسجنه في بئر، وبقي محبوسًا خمس عشرة سنة، فسأله الطلاب وهو في السجن أن يشرح لهم كتاب محمد، وهو أحد متون الأحناف المهمة؛ فأجابهم لذلك، وأملى كتابه المبسوط وهو في قاع البئر وهم على شفيرها يكتبون ويدوِّنون ثم يُفرِّغون ما كتبوا، وهكذا حتى أنهى موسوعته.

وفي موسوعته الضخمة التي لا تزال شاهدةً على معاناته، وتبحُّره وغزارة علمه في نفس الوقت يجد القارئ شيئًا من ذكرياته التي دوَّنها، فعند فراغه من شرح العبادات كتبَ: “هذا آخر شرح العبادات، بأوضح المعاني، وأوجز العبارات، إملاء المحبوس عن الجمعة والجماعات”.

وقال في آخر كتاب الطلاق: “هذا آخر كتاب الطلاق، المؤثر من المعاني الدقاق، أملاه المحبوس عن الانطلاق، المبتلى بوحشة الفِراق، مصليًا على صاحب البراق، صلى الله عليه وآله وصحبه أهل الخير والسباق، صلاة تتضاعف وتدوم إلى يوم التلاق، كتبه العبد البريُّ من النفاق”.

وقال في آخر كتاب العتاق: “انتهى شرح العتاق، من مسائل الخلاف والوفاق، أملاه المستقبل للمحن بالاعتناق، المحصور في طرق من الآفاق، حامدًا للمهيمن الرزَّاق، ومصليًا على حبيب الخلاق، ومرتجى إلى لقائه بالأشواق، وعلى آله وصحبه خير الصحب والرفاق”.

وقال في آخر شرح الإقرار: “انتهى شرح كتاب الإقرار، المشتمل من المعاني ما هو سِرُّ الأسرار، وإملاء المحبوس في موضع الأشرار، مصليًا على النبي المختار.

وأملى غير المبسوط في الجُبِّ فكتابه في أصول الفقه يقع في مجلدين وهو من أجمل كتب الأصول أيضًا كان إملاء وهو متداول مطبوع، وأملى وهو في سجنه أيضًا شرح السير الكبير الذي يعد من أهم المراجع للباحثين في العلاقات الدولية الإسلامية، وقد أملاه وهو مسجون في تلك الجُبِّ، فلما وصل إلى باب الشروط تم الإفراج عنه فأكمل إملاءه بعد خروجه، ويعتبر كتابه هذا من أفضل كتب القانون؛ بل يعد أول كتاب أُلِّف في القانون الدولي، وقد تُرجم إلى عدة لغات، وطبعته الجامعة العربية، ولم تمهله المنية؛ إذ توفي بعد الإفراج عنه بأربع سنوات.

وإن كنتَ أديبًا عندك شغف بالأدب فلا بُدَّ أن تكون طالعت كتاب “الأمالي” للقالي؛ إذ يُعَد هذا الكتاب ركنًا رابعًا لكل أديب، وقصة هذا الكتاب أن أبا علي القالي العالم الكبير والأديب النحرير رحل من بغداد إلى الأندلس فحطَّ رحاله في مدينة قرطبة تاج عواصم الأندلس؛ حيث الجمال والصفاء والسياحة الفكرية، فدخل جامع قرطبة فانفتقت قريحته، وانطلق من على كرسي اللغة والأدب يُملي، والطلاب حوله يكتبون، فكانت الحصيلة هذا الكتاب الماتع الذي أشبه بحديقة وارفة الظلال، عذبة الماء، نقية الهواء فيها من كل ألوان الربيع.

ويعتبر هذا الأديب أول من نقل علم الأدب العربي إلى الأندلس.

ومثلُ القالي ابنُ دُريد العالم الأديب المصقع، والنحرير الذي ملأ الدنيا أدبًا، فقد أملى الجمهرة عن ظهر قلبٍ في بلاد فارس.

ويأخذك العجب وأنت تقرأ في كتاب المخصَّص لابن سِيْدة، وهذا الكتاب يقع في خمسة مجلدات ضخمة أملاها هذا العلم الجليل وقد كان أعمى البصر وعوَّضه الله نورًا في البصيرة، فألَّف موسوعته هذه التي تحار فيها من أول نظرة إليها؛ فهي موسوعة لغوية أدبية تحتوي على البديع من المعاني، والجزل من الألفاظ، ويكفيك أن مؤسسات علمية وهيئات بحثية تعجز اليوم عن الإتيان بعُشْرها صناعةً وتحريرًا، فكيف تسنَّى لهذا العلم أن يمليها؟

وكما علمتَ أنَّ أعظم كتب اللغة والتفسير والفقه والأدب كانت إملاءً، فكذلك أعظم كتاب في شروح الحديث النبوي وهو فتح الباري، فهذا الإمام الشوكاني أثناء ترجمتهِ لابن حجر قال عن ابن حجر: “ثم تصدَّى لنشر الحديث، وشهد له بالحفظ حتى صار إطلاق لفظ الحافظ عليه إجماعًا”، ثم قال: “ولا ريب أن أجَلَّ مصنفاته فتح الباري، وكان شروعه في تصنيفه سنة 817 هـ على طريق الإملاء”.

وأملى أيضًا ابنُ حجر تخريجه لكتاب الأذكار المسمى بـ”نتائج الأفكار” إملاء على طلبته، وهو كتاب قَيِّم له وزنه العلمي.

وتحدَّث عن أحد مشايخه في الحديث أنه أملى أربعمائة مجلس من مجالس الحديث كلها من حفظه شاملة فوائد حديثية محررة مهذبة متقنة، وتحدث السخاوي في “فتح المغيث” قال: أمليت بمكة وبعدة أماكن من القاهرة، وبلغ عدة ما أمليته من المجالس إلى الآن نحو الستمائة، والأعمال بالنيات..”.

ومثلُ ابن حجر العلامةُ المُحدِّث الجِهْبِذ البحر تقي الدين ابن دقيق العيد؛ فقد شرحَ عمدة الأحكام إملاء، وأصبح لشرحه الذيوع والانتشار في العالم الإسلامي.

والحافظُ المنذري أيضًا أملى كتابه الشهير الترغيب والترهيب من حفظه، وقد عددتُ له في كتابه تسعة عشر موضعًا وهو يقول: “وإسناده لا يحضرني الآن”.

لقد كان يتدفق كالبحر دون العودة إلى أي مرجع هو يُحدِّث والطلاب يكتبون.

وممن اشتهر بالإملاء من فطاحلة العلماء وبحوره شعبة بن الحجَّاج ومالك، والبخاري، والدارقُطني، والخطيب البغدادي، وابن عساكر، وابن الصلاح، والمِزّي…وغيرهم كثير، فأينما وجد الإمام الحافظ تحلَّق حوله التلاميذ وبدأ يُملي عليهم.

ثم عَزَّ الإملاء دهرًا، وانقطع زمنًا بسبب عدم وجود الأئمة المتقنين والجهابذة الحُفَّاظ، ثم عاد من جديد على يد أعلام كُثُر، منهم ابن الملقِّن، وابن حجر، والسيوطي، وغيرهم.

وذكر ابنُ النديم أنَّ ابنَ الأعرابي أملى على الناس ما يُحمَل على أجمال.

وللشناقطة طاقة عجيبة في الاستذكار والاستيعاب فتجدهم يستظهرون الكتب، فهذا مفخرتهم العلَّامـة سيدي محمـد بن العلَّامـة سيـدي عبدالله بن الحـاج إبراهيـم العلـوي -وقد عاصر الإمام الشوكاني وتوفي في السنة التي توفي فيها الشوكاني يقول: (إن علوم المذاهب الأربعة لو رُمِي بجميع مراجعها في البحر لـتمكَّـنت أنا وتلميذي ألْفَغّ الديماني من إعادتها دون زيدٍ أو نقصان، هو يحمل المتن وأنا أمسك الشروح..”.

استذكار عجيب، وذاكرة قوية، ولا يتأتَّى ذلك إلا بعد ملازمة الكتاب وتكراره حتى يرسخ في الذهن.

وإذا أردت أن تعرف ما معنى الإملاء؟

فتعريفه كما يقول الحاج خليفة: «الأمالي هو جمعُ الإملاءِ، وهو أن يقعدَ عالمٌ وحوله تلامذتُه بالمحابر والقراطيسِ، فيتكلَّمُ العالِمُ بما فتح اللهُ سبحانه وتعالى عليه من العلم، ويكتبُه التلامذةُ؛ فيصيرُ كتابًا ويسمُّونه «الإملاء» و«الأمالي»، وكذلك كان السَّلفُ من الفقهاء والمحدِّثين وأهلِ العربيَّةِ وغيرِها في علومهم، فاندرَسَت لذَهاب العِلمِ والعلماءِ، وإلى الله المصير».

أحيانًا يكون الدافع لاستظهار الكتب هو مخافة الضياع أو الغرق أو السرقة كما روت كتب التراجم ما حصل للإمام الغزالي مع رئيس عصابة أحد قُطَّاع الطرق، ولقد قال لها كلمة عجيبة فامتثل لها، وعزم على حفظ كتبه التي كان يحملها معه، قال الغزالي:

“قُطِعَتْ علينا الطريقُ وأخذَ العيارون جميعَ ما معي ومضوا، فتبعتهم، فالتفتَ إليَّ مُقدمهم وقال: ارجعْ ويحك وإلا هلكت.

فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن تردَّ علي تعليقتي فقط، فما هو بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟

فقلت له: كُتُبٌ في تلك المخلاة، هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة عِلْمِها، فضحك وقال: كيف تدَّعي أنك عرفت علمها؟ وقد أخذناها منك، فتجردتَ من معرفتك، وبقيت بلا علمٍ؟

ثم أمر بعض أصحابه فسلَّم إليَّ المخلاة.

قال الغزالي: هذا مُستنطقٌ أنطقه الله ليُرشدَني به في أمري، فلما وافيت (طوس) أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميعَ ما علَّقته، وصرتُ بحيث لو قُطِعَ عليَّ الطريق لم أتجرَّد من علمي”.

ورحم الله الإمام الشافعي فما أصدق ما قال:

عِلمي معي حيثُما يمَّمْتُ يَتبعني
صَدري وعاءٌ له لا بطنُ صندوقِ
إن كنتُ في البيتِ كان العلمُ فيهِ معي
أو كنتُ في السُّوقِ كان العلمُ في السُّوقِ

لقد رأيتَ الكثيرَ من النماذج المدهشة التي كانت تتموَّج كالبحور إن تحدّثَت فقد تُعيد كتبَها إملاءً إن نَزَلتْ عليها الجوائح، أو تعرَضتْ للحريق والسلبِ، أو طُلب منهم الحديث في مجال من مجالات العلوم والفنون، فما الذي جعلهم كالبحور؟

إنها الموسوعية العلمية التي كانت تُبنى وتُصقل وتُصاغ وَفْقَ مناهج محددة يتفرَّغ فيها العالم كذا من السنين لإتقان تخصُّصه، ويساعده في ذلك الاغتراب عن الأوطان، والرحلة للقاء علماء الأمة المتبحِّرين لا كمثل طلبة العلم اليوم إلا من رحم ربي يأخذون علمهم من الصحف والمجلات والمواقع التي تنشر ما هبَّ ودبَّ دون تحقيق أو تمحيص.

وقبل ذلك كان التجرُّد شعارهم فما كانوا يطلبون العلم بُغية دنيا أو جاه، فبارك الله في علومهم، وعَلَّمهم ما لم يعلموا، وفتح عليهم من فتوحاته، وأغاثهم من صيوب غيوثه، وفتق أذهانهم فاستنبطوا واستدركوا وشرحوا وبيَّنوا.

إننا بحاجة اليوم إلى العالِم الموسوعي المتفنِّن الذي إن تكلم في علوم الشريعة قلتَ هو النهاية.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى