Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

على أبواب المدينة


على أبواب المدينة

 

قال في السيرة: وفي اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبقَ ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أولَ مَن رأى – ركبه – رجلٌ من اليهود، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا جدكم قد جاء، فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك.

 

قال أنس بن مالك: إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئًا، قال: حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر، فكمنا في بعض خراب المدينة ثم بعثا رجلًا من أهل البادية يؤذن بهما الأنصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة، حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ فما رأينا منظرًا شبيهًا به، يقول أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض فلم أرَ يومين شبيهًا بهما.

 

وفي الصحيحين عن أبي بكر قال: خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر، جاء رسول الله، الله أكبر، جاء محمد – يرددون هاتين العبارتين – فلما أصبح انطلق وذهب حيث أمر.

 

ورُوي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة جعل النساء والصبيان يقولون:

طلع البدر علينا
مِن ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع

 

قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجده، ثم خرج يوم الجمعة، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك، وقد ذكر الرواة عدد الأيام ما بين أربع عشرة ليلة إلى ثماني عشرة إلى اثنتين وعشرين، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي – وادي رانوناء – فكان أول جمعة صلاها بالمدينة، وذكر أنه قال فيها: ((الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقُرب من الأجل…)).

 

وقد مدح الله تعالى مسجد قباء، المسجد الذي أُسس على التقوى: ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108]، ورُوي في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الأنصار في مسجد قباء فقال: ((إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟))، قالوا: والله يا رسول الله، ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا، وفي رواية أخرى، قالوا: كنا نُتبع الحجارة بالماء، فقال: ((هو ذاك، فعليكموه))، وقد ورد أن “الصلاة في مسجد قباء كعمرة” في الأجر، وورد أن الذي حدد اتجاه قبلته جبريل عليه السلام، فلما خرج من قباء تجاه المدينة، أتاه رجال من بني سالم فقالوا: أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة، فقال: ((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة)) يعني ناقته – فانطلقت حتى إذا وازت دار بني بياضة تلقاه بنو بياضة، وقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة، قال: ((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة))، فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه رجال منهم، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا في العدد والمنعة، قال: ((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة))، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازت دار بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة، قال: ((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة))، فخلوا سبيلها، حتى إذا مرت بدار عدي بن النجار – وهم أخواله – اعترضه رجال من بني النجار، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلى أخوالك، إلى العدد والعدة والمنعة، قال: ((خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة))، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت في مربد لغلامين يتيمين – وهو مكان باب المسجد النبوي فيما بعد – من بني مالك بن النجار، وهما سهل وسهيل ابنا عمرو، وكان في حجر معاذ بن عفراء، ورُوي أنهما كانا في حجر أسعد بن زرارة.

 

وكانت الأنصار قد اجتمعوا قبل أن يركب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عمرو بن عوف فمشوا حول ناقته، لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة؛ محبة لمَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل يريد أن يقودها، فكان يقول: ((دعوها؛ فإنها مأمورة، فإنما أنزل حيث أنزلني الله)).

 

قال ابن إسحاق: لما بركت الناقة برسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عنها حتى وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يَثْنِيها به، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه، ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتمل أبو أيوب خالد بن يزيد رحله فوضعه في بيته ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل عن المربد: لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان لي، وسأرضيهما منه، فاتخذه مسجدًا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، فعمل فيه رسول الله صلى الله والمسلمون من المهاجرين والأنصار.

 

عن أنس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما دخلنا جاء الأنصار برجالها ونسائها، فقالوا: إلينا يا رسول الله، فقال: ((دعوا الناقة؛ فإنها مأمورة))، فبركت على باب أبي أيوب، فخرجت جوارٍ من بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن:

نحن جوارٍ من بني النجار
يا حبذا محمدٌ مِن جار

 

فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أتحبونني؟))، فقالوا: إي والله يا رسول الله، فقال: ((وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم))؛ حديث خرجه الحاكم في مستدركه، وفي رواية أخرى عن أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحي من بني النجار وإذا جوارٍ يضربن بالدفوف يقلن، وذكر البيت السابق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يعلم الله أن قلبي يحبكم))؛ رواه ابن ماجه، وفي صحيح البخاري عن أنس قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين – حسبت قال: مِن عُرس – فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم أنتم مِن أحب الناس إليَّ)) قالها ثلاثًا.

 

وهكذا وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرًا سالمًا، وقد استُقبل فيها بالحب والحفاوة والتكريم، كل يريده، وكل يدعوه للإقامة عنده في العز والمنعة، يبذلون دونه الأرواح والدماء، لقد آمن هؤلاء الأنصار إيمانًا راسخًا قويًّا كرسوخ الجبال أو أشد، في فترة زمنية قليلة، فأين هؤلاء من كفار مكة بلدِ النبي صلى الله عليه وسلم ومسقط رأسه الذين جفَوه وآذَوه وآذَوا أصحابه ثم تآمروا عليه وبيَّتوا قتله؟ مكث بينهم ثلاث عشرة سنة يعظهم ويقرأ عليهم القُرْآن وينبئهم بالمغيبات عن طريق الوحي، وبرغم هذا فهم معاندون مجادلون مقاطعون، لقد نزل معظم القُرْآن بمكة وسمعوا أغلبه، فأخذ عليهم – بما فيه من سر البلاغة والفصاحة – لبَّهم، ولكن قلوبهم ظلت كالصخر الأصم لا ينفع معه نصح ولا تذكير ولا تخويف، لقد نزل بمكة ست وثمانون سورة من أصل مائة وأربع عشرة سورة هي سور القُرْآن الكريم، فيها التوحيد والوعد والوعيد، والبِشارة والنِّذارة والتخويف، وذكر غابر الأمم وما مر بهم، وما لاقى أهل الجحود والصدود، والمتكبرون؛ أمثال فرعون ونمرود وقوم نوح وقوم عاد وصالح، فغلف الران قلوبهم، إلا نخبة منهم عرَفوا الحق فاتبعوه، وتحملوا أذى قومهم، فهاجروا إلى الحبشة اتقاء شرهم، ثم تركوا الديار خائفين وجِلين في هجرة إلى إخوانهم الأنصار بالمدينة، فجعل الله لهم بهم سندًا وناصرًا، فأبدلهم الله دار هجرة فيها الخير والاطمئنان إلى أداء العبادة ريثما يفتح الله بينهم وبين قومهم بالحق، والله خير الفاتحين.





المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى