العلاقة بين التصور والسلوك من منظور تربوي إسلامي
العلاقة بين التصور والسلوك من منظور تربوي إسلامي
إنَّ لكل تربية في الوجود البشري منهجًا تسلكه وتسير عليه في إطارها النظري والعملي، وبمقدار صحة هذا المنهج وتجرُّده من الحظوظ الإنسانية وتجدُّد متغيراته في الفروع مع ثبات أصوله، يكون له البقاء والتأثير.
وما يُميِّز التربية الإسلامية، أنها ربانية المنهج، متجددة في فروعها، ثابتة في أصولها، وأن العلاقة بين جانب التصوُّر والسلوك فيها علاقةٌ طرديةٌ.
وهذه الميزة في التربية الإسلامية بمفهومها العام، تنطلق من جانبها التصوُّري الفكري النظري للمعرفة أولًا، ثم من جانبها السلوكي التطبيقي العملي لتلك المعرفة؛ ولذا فإن العلاقة بينهما علاقة طردية إيجابًا وسلبًا.
ومفهوم التربية الإسلامية العام- أي: فحوى مفهوم الكتاب والسُّنَّة – ورد واضحًا وجليًّا ومحكمًا، بأن يكون سلوك المسلم وَفْق مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن، وفي كل صغيرة وكبيرة؛ لأن هدفه السامي الفوز برِضا الله أولًا وأخيرًا، ثم الفوز بالجنة ونعيمها الدائم، قال الله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]، فهل هناك من جزئية في حياة المسلم لم تدخل في هذا الخطاب؟! وهل هناك تحديد لمفهوم التربية الإسلامية بالمفهوم العام، أدقُّ من هذه الآية الكريمة؟!
وهل هناك مجال من مجالات الحياة، في حياة المسلم أو المسلمة يمكن ألَّا يندرج تحت مفهوم التربية الإسلامية بالمفهوم العام، وهو كامل الانقياد لله عز وحل من بداية الحياة إلى نهاية الحياة التي يعيشها الفرد المسلم في هذه الدنيا؟!
ما أدقَّه من مفهوم عام للتربية الإسلامية، المناطة بكل فرد مسلم أو مسلمة، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا كان أو كبيرًا!
أما العلاقة الطردية- في المصطلح الرياضي- فمعناها وجود علاقة بين متغيرين، كلما زاد أحدُهما بمقدار معين، زاد الآخر بزيادة تتناسب مع زيادة الأول، والعكس صحيح، وسُمِّيت بهذا الاسم؛ لأنها ترمز إلى المطاردة بين اثنين.
قدَّم الله عز وجل جانب التصوُّر المعرفي على الجانب العملي؛ لأن العلم بالشيء أولًا، ثم يأتي بعده العمل بذلك الشيء؛ كجانب عملي تطبيقي للجانب التصوُّري، قال الله عز وجل: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19].
قال الطبري رحمه الله في تفسيره: فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهية, ويجوز لك وللخَلْق عبادته, إلا الله الذي هو خالق الخلق, ومالك كل شيء, يدين له بالربوبية كل ما دونه ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ وسَلْ ربَّك غفران سالف ذنوبك وحادثها, وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ يقول: فإن الله يعلم متصرفكم فيما تتصرَّفون فيه في يقظتكم من الأعمال, ومثواكم إذا ثويتم في مضاجعكم للنوم ليلًا، لا يخفى عليه شيء من ذلك, وهو مُجازيكم على جميع ذلك؛ انتهى.
فقدَّم هنا في هذه الآية الكريمة الجانب التصوُّري، وهو العلم بالشيء، ثم يتبعه العمل بذلك الشيء، وهنا هو الاستغفار، ومن أعظم ما أمر به الإنسان المسلم، هو العلم بالله عز وجل، فلا يتصوَّر العمل الصحيح إلا بالعلم به!
وهناك كلام من دُرَرٍ؛ بل أغلى من ذلك في مجال العلم بالله وكيف يكون؟ وما هي الطرق الموصلة لذلك؟ أرى أن أطرحه هنا للفائدة، ومزيد علم بهذا المجال وما يتعلق به، رزقنا الله عز وجل معرفته حق المعرفة، وعند ذلك فقط سيكون السلوك متوافقًا مع الجانب التصوُّري، وستُرْدم الفجوة الملاحظة بين الجانب النظري “التصوُّري” للتربية الإسلامية بمفهومها العام وبين الجانب التطبيقي السلوكي العملي لهذا التصوُّر في واقع المسلمين إلَّا مَن رَحِم الله.
قال السعدي رحمه الله: وهذا العلم الذي أمر الله به – وهو العلم بتوحيد الله- فرضُ عينٍ على كل إنسان، لا يسقط عن أحد، كائنًا من كان؛ بل كُلٌّ مضطرٌّ إلى ذلك، والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا هو أمور:
أحدها بل أعظمها: تدبُّر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته، فإنها توجب بذل الجهد في التألُّه له، والتعبُّد للربِّ الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال.
الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية.
الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنِّعَم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلُّق القلب به ومحبَّته، والتألُّه له وحده لا شريك له.
الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنِّعَم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به، فإن هذا داعٍ إلى العلم، بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.
الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عُبِدت مع الله، واتُّخِذت آلهةً، وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ولا يَنصرون مَنْ عبدهم، ولا ينفعونهم بمثقال ذرَّة، من جلب خير أو دفع شَرٍّ، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلَّا هو، وبطلان إلهية ما سواه.
السادس: اتفاق كُتُب الله على ذلك، وتواطؤها عليه.
السابع: أن خواصَّ الخَلْق الذين هم أكمل الخليقة أخلاقًا وعقولًا، ورأيًا وصوابًا، وعلمًا -وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيُّون- قد شهدوا لله بذلك.
الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية، التي تدل على التوحيد أعظم دلالة، وتُنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته، وبديع حكمته، وغرائب خلقه.
فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخَلْق بها إلى أنه لا إله إلَّا الله، وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمُّل العبد في بعضها، لا بُدَّ أن يكون عنده يقين وعلم بذلك، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت، وقامت أدلة التوحيد من كل جانب، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد، بحيث يكون كالجبال الرواسي، لا تزلزله الشُّبَه والخيالات، ولا يزداد -على تكرر الباطل والشبه- إلا نموًّا وكمالًا.
هذا، وإنْ نظرت إلى الدليل العظيم، والأمر الكبير، وهو تدبُّر هذا القرآن العظيم والتأمُّل في آياته؛ فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد، ويحصل به من تفاصيله وجمله ما لا يحصل في غيره؛ انتهى.
وبعد هذا الجانب التأصيلي لهذا الموضوع من طرح آية محكمة من القرآن الكريم عن التلازم الذي يكون بين الجانب التصوُّري والسلوكي “العملي” للمفاهيم الإسلامية؛ فإننا نؤكد على أن العلاقة بينهما من منظور التربية الإسلامية في الأصل أنها علاقة تلازمية طردية إيجابًا وسلبًا، ومعنى ذلك: أنه كلما زاد المسلم علمًا وإدراكًا بالكتاب السُّنَّة- وهما المرجعان الأساسيان للتربية الإسلامية- زاد تطبيقًا عمليًّا سلوكيًّا لما تم تلقيه وتعلُّمه من الجانب التصوُّري المعرفي للمفاهيم الإسلامية في هذا الشأن!
وإكمالًا لهذا الجانب التأصيلي للعلاقة بين التصوُّر والسلوك من منظور التربية الإسلامية؛ فإننا نؤكد أن هذا هو ما فهمه الرعيل الأول، وما كان يعمل به في حياتهم؛ ولذا ندَرَ وقَلَّ وجود الفجوة الكبيرة التي نشاهدها اليوم في جانب التطبيق إلَّا مَن رَحِم الله؛ فالتطبيق العملي “السلوكي” للمجال التصوُّري لحقيقة الإسلام والتديُّن، هو التوافق بين التصوُّر والسلوك في العموم؛ ولذا عاب الله عز وجل وعتب في كتابه العزيز على المؤمنين للمخالفة التي حدثت في هذا الجانب؛ فقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3].
وهذه المخالفة إما أن تكون مخالفة كلية، وإما أن تكون مخالفة جزئية في جانب التصوُّر وليس في كل التصوُّر؛ فإذا خالف السلوك التصور مخالفة كلية؛ فهنا خلل لدى الشخص؛ إمَّا أن يكون ضعفًا في مفهوم المجال التصوُّري لمفهوم الإسلام وحقيقته، وإمَّا أن يكون أصلًا قائمًا على مصلحة ومنفعة دنيوية، هي التي تُوجِّه السلوك لديه، وليس حقيقة التصوُّر الديني هو الموجِّه للسلوك.
ففي الجانب الأول: ضعف في مفهوم المجال التصوُّري؛ ولذا وجَّه الله عز وجل العتب للمؤمنين الذين اختلف سلوكُهم عن مجالهم التصوُّري، وهو توجيه رباني لكل مسلم إلى يوم القيامة؛ فقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3].
وفي الجانب الثاني: التديُّن لدى الشخص قائم على مصلحة ومنفعة دنيوية، بعيدًا عن حقيقة التدين، قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 8، 9].
ولذا السلف الصالح في عمومهم كان المنهج لديهم واضح؛ فكان غالبية فئات المجتمع يظهر عليهم التديُّن الظاهري لتوافق الفطرة البشرية مع ذلك؛ فلم يكن مجرد الشكل هو المحدد للهوية لديهم؛ وإنما المحدد لديهم التطابق قُرْبًا وبُعْدًا بين التصوُّر والسلوك للشخص.
روي أن رجلًا أثنى على رجل عند عمر رضي الله عنه، فقال له: هل صحبته في سفر؟ قال: لا، فقال: فَأْتَمَنْتَه على شيء؟ قال: لا، قال: ويحك! لعلك رأيته يخفض ويرفع في المسجد! وفي رواية أخرى أن الرجل قال في مجلس عمر: إن فلانًا رجلُ صِدْقٍ، فقال له: سافرت معه؟ قال: لا، قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال: لا، قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال: لا، فقال: أنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يخفض رأسه ويرفعه في المسجد.
نعم؛ يجب أن يكون هناك تطابُق في حياة وسلوك المسلم؛ فترى ذلك في قوله وحديثه، وفي فعله وتطبيقه لما يؤمن به ويعتقده ويدين الله عز وجل بذلك؛ فحقيقة الدين لا يؤخذ من عبادات شكلية؛ بل يؤخذ من سلوك عملي في واقع حياته اليومية.
وفي الختام يمكن أن نستنبط القاعدة التالية مما سبق: أنه بمقدار التطابُق بين السلوك والمجال التصوُّري، يكون التدين الصحيح “أو الإسلام الصحيح”؛ فالسلوك تابع للتصوُّر إيجابًا وسلبًا.