حصار النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشعب
حصار النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم في الشِّعب
لَمَّا فشا الإسلام في مكة، وانضم إليه فتيان من قريش عُرفوا بالشدة والجرأة أمثال حمزة بن عبدالمطلب وعمر بن الخطاب، وأن محاولتهم مع النجاشي في إعادة المسلمين من الحبشة قد باءت بالفشل، وأن المهاجرين قد وجدوا دارًا اطمأنوا بها على دينهم وحرية عبادتهم – تواطأت قريش فيما بينها على تشديد النكال بالمسلمين، فقرروا عزل المسلمين في مكة ومقاطعتهم اقتصاديًّا وتجويعهم ووضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما الموت جوعًا وإما الرِّدة وترك الدِّين، فكان من أهم بنود الاتفاق:
• ألا ينكحوا بني هاشم وبني المطلب، ولا ينكحوا إليهم.
• ألا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئًا.
ولكي يوثقوا ما تعاهدوا عليه كتبوا الاتفاقية في صحيفة وأودعوها جوف الكعبة، وأخذوا على أنفسهم جميعًا الالتزام بنص الاتفاق وعدم خرقه مهما وصل إليه الأمر من شدة، ولما علم بذلك بنو هاشم وبنو المطلب انحاز الجميع إلى أبي طالب تضامنًا وتحديًا لعتاة قريش، إلا أبا لهب، فإنه أبى الانحياز إلى عشيرته، ووافق طغاةَ قريش على موقفهم.
وانتقل المسلمون ومَن والاهم إلى شِعب لأبي طالب، وهناك صمدوا على ضنك العيش وشدته، إلا ما كان يأتيهم خفية تحت جنح الليل من طعام، فقد ورد أن هشام بن عمرو بن الحارث كان يأتي بالبعير وقد حمَّله طعامًا إلى أول الشعب فينزع خطامه ثم يضربه على مؤخرته ليتجه إلى داخل الشعب فيأخذه المحاصرون ويوزعونه فيما بينهم، ثم يوقر جملًا آخر بالقمح ويفعل كما فعل سابقًا، ومع ذلك تبقى المعاناة وتشتد وطأة الحصار وصعوبة تحمله، واستمرت الحالة قرابة السنتين وقد تضوروا جوعًا حتى اضطر كثير منهم إلى أكل ورق الشجر والعشب ليسدوا جوعتهم، وهنا رأى عدد من أصحاب المروءة أن هذه المقاطعة جائرة، وكان منهم هشام بن عمرو، فقد كلم صديقه زهير بن أبي أمية في هذا الشأن، فاستجاب له، ثم سعى إلى ضم آخرين لهم وزنهم وجرأتهم، أمثال: المطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، فاتفق هؤلاء على الاجتماع سرًّا في الليل ونسقوا فيما بينهم لكي يخرجوا بموقف موحد، وفي الصباح قام زهير بن أمية وطاف بالبيت سبعًا ثم وقف وقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل: والله لا تشق.
قال: زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت.
قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به.
قال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.
قال هشام بن عمرو مثل ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمر قد قضي بليل، فقد أحس بأن هذا التنسيق لم يكن مصادفة، وإنما عن تدبير بين هؤلاء، وربما ظن أن الأمر قد يتعدى هؤلاء فخشي أن يخرج هذا الأمر عن سيطرته، فسارع إلى قبول العرض بإنهاء المقاطعة وتمزيق الصحيفة.
ولما دخل زهير بن أبي أمية إلى الكعبة لتمزيق الصحيفة وجد أن الأرَضَةَ قد أكلت الصحيفة إلا ما كان منها “باسمك اللهم”، عبارة ورثتها قريش من الحنيفية كانت تصدِّر بها كتبها، وهكذا انتهت المقاطعة، وسري عن بني هاشم والمطلب ما أرهقهم.
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: ((يا عم، إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدَعْ فيها اسمًا لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان))، فقال أبو طالب: أربك أخبرك بهذا؟ قال: ((نعم))، وانطلق أبو طالب إلى الكعبة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كانت كما قال فانتهوا من قطيعتنا وانزلوا عنها، وإن كان كاذبًا دفعتُ إليكم ابن أخي، فقال القوم: قد رضينا، فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا في الصحيفة فكانت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زادهم إلا طغيانًا، وهنا قام الخمسة الذين ذكرناهم آنفًا فعملوا على نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة.
ويروى أن سبب المقاطعة هو أن قريشًا أجمعوا على أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شِعبهم ومنعوه ممن أرادوا قتله، فلما رأت قريش وقوف عشيرته معه كتبوا بينهم الصحيفة.