أكرم محمد يكتب: الحياة الثانية لكفافيس..إعادة بناء الكون.. إعادة تشكيل الفن
ثقافة أول اثنين:
يدرك طارق إمام تتبعه لذاكرة الكون بذاكرة توازيها تنافى جمود الكتابة، كفعل حي، يهب نصوصه قبورا خاصة، تخطيطا لا يوازى إلا تشكيل عوالم تخصه، بذاتية مفرطة، ذاتية تواجهها شاعرية تتحدى التأريخ، تلك الذاتية المتجسدة، ليس فقط كبنية للنص، كتوازى لبنية النص ذاته بما يقابله بالنص بمشهد به “كلوديا” تبدل كل أشعار الشاعر بضمير الـ “أنا“.
وهنا، بروايته “الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس”، الصادرة عام ٢٠١٢ فى طبعتها الأولى عن دار “العين”، والتى أعادت دار “الشروق” نشرها عام ٢٠٢٢، يتم طارق إمام مشروعه السردي، بمشروع يوازيه، بتجريب، حتى، فى مشروعه ذاته.
تكتب النصوص ذواتها، كظل أخير يهوى الخلود فى ذلك الفاصل بين الوجود والعدم، الهامش/المركز، التمرد/ القمع، اللذة/الصمت، ليست كمحض ثنائيات؛ بل كبحث حى عن صاحبها الحقيقي، ذلك المنزوى فى ظل الذاتية، كاشفًا بشخوصه صورة لا يعلمها غيره.
لا يضع النص حدًا بين التأريخ والتخييل، نافياً الثنائية، طارحًا بعدًا ثالثاً للثنائية يهوى الفن، كتمثيل للحلم، كباعث للفن، المرتبط، حتماً، بالصوت، التعبير (التمرد)، مبتعثًا من ممارسة النص فعل الإحياء، بين ثنائية الحياة والموت، كترميز، والمادي/ المعنوي، كفعل فني. يحيى النص المعانى الهامشية الجامدة، المعنوية، حد أن لا أحد يتصور وجود حكايات إلا ذاكرة تفنى مع صاحبها، محض هامش لا يكتب على أسماء شوارع، لا يتلى فى بيوته. يحول النص القصيدة لنص روائي، حكاية تعتبر الشعر عزاءها الوحيد، ليس فقط لاستلهام الحكاية؛ بل أيضاً، لمعارضتها، حكاية لم تبدأ أبدًا. هنا التجريب يأتى بتحويل رموز قصائد الشاعر اليونانى السكندرى الراحل قسطنطين ب. كفافيس لفعل حى تخصه، يوازى فعل الفن نفسه، كإحياء للمعنى، ووهبه مروية.
الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس
يعترف النص بالهامش كهامش، لا يحوله لمركز، محض هامش يحمل مروية مركزية لا تنساه، لتشيد ثنائية الهامش/المركز، بالافتتاحية يوجد الهامش، النص يحفل بالمرويات الهامشية والشخصيات المُعترَف ضمنياً بهامشيتها وتعبيرها عن ذلك المفهوم، بغير تغيير دورها، الهامش هنا يشتبه بعضه، يمثل لونًا خاصًا للمدينة، لا ترتديه إلا لسكانها الأصليين؛ للتحدث بأفواههم، يعبر النص عن شخصياته الهامشية باعتبارها وحدة، لا يراها النص بنظرة أحادية، لتعدد أصواته السردية، لكن يبصرهم كوجه للمدينة، الوطن والبيت والهوية بكل ندوبه وسلطته، يؤثر فيهم، ليجعلهم جميعاً محض هامش واحد.. ربما، يحول النص أبطاله لهامش، فى محاولة لمحاكاة فعل الفن، كإعادة تشييد الكون، وبناء الواقع، فيمحى الكسندر سينجوبوليس الحياة الواقعية للشاعر كفافيس، ويشكل واقعه بنبوءة الفن لموته، ويمحى كفافى وجود الكسندر، ليضعها فى ثنائية لا تظهر فلسفتها إلا بتجريدها من كل شيء إلا كونها صائغ للفن والواقع، الوجود/العدم، تلك الرابضة النص منذ افتتاحيتها، ذلك التجريد للثنائية من كل ما يحفها، إلا تشييدها للفن والواقع، يخلق عنصراً للبنية الروائية للنص، تماهى الزمن، الطارح، فى تواجده، مستويين للاستقراء، أولهم كمروية، ثانيهما كسؤال ذاتى وفلسفية عن الزمن، تحولاته وكنهه، وجوده وعدمه.
للغرابة، يقف النص مشاهدًا قارئه، معريًا بذلك ذاته، كحلم، كمروية تكشف النص، بين الخاص/العام تأويلاً، يتجلى مشهد يوازى العالم والنص ومرويته، ليكثف النص بتعددات مستوياته السردية بمشهد واحد، بالفصل الثانى من رواية ألكسندر سينجوبوليس، مقطع “فتنة”، يقرر الشاعر كفافيس إعادة تشكيل الواقع بإقامة مشهد متخيل لأمه ليلة زفافها، وليلة ولادة أخته، مستعيناً بفتنة، هنا تتجسد أحجيتان، محض أضحوكتين يمارسهم النص، مبتعثًا من فعل الفن ذاته، أولها التجريبى ليس فقط بالجمع بين ثنائية التأريخ/التخييل، أو تحويل المعنى المجرد الشعرى لمروية شاعرية؛ بل بالكشف عن مشهدية تقدم عزاء لشاعرية إعادة بناء مشروع شعرى لنص شاعرى يحتفى بالمروية والرمز الأول، هارباً من القصيدة إليها، ثانيها، تعرية مفاهيم كالهوية والحرية واللذة والزمن وثنائية الموت/الحياة والنشأة والسلطة والفن، كإعادة تصور الواقع بالمهد، وتصويره كمشهد مبتور، لا يصدقه إلا صائغه، أيضاً الخاص هنا تجسيد مصرية للمشهد، فتنة، الشخصية التى من المفترض أن تتبع شخوص طارق إمام المهمشين، أصحاب الأسماء، فقط الأسماء، لكنها، وللدهشة، تصبح ذات مركزية، حتى بتهميش قسطنطين ب. كفافيس لها، من الممكن لأنها تحتفى بالفن، أو لأنها تنفى تهميش كل المصريين والمهمشين بكونها مركز، على الأقل فى السردية، كذلك عبد الفتاح، توتو، التالى بدوره التهميش بامتلاك مركز سردي، لكنه يتجرد من هويته، أمام اللذة وسلطة كفافي، متمثلةً فى اسمه، فيظل فى هامشه، رغم امتلاكه مروية مركزية، وربما صوت سردي. إعادة بناء مفهوم الفن بذلك التصور الخاص والذاتى يوضح مدى اهتمام مشروع الكاتب بمفهوم الفن، وتجسد ذلك المفهوم بالنص، ليس فقط كتأويل، كمحرك المروية، أيضاً. يتكرر ذلك التجسد للتصور السردى بما يشبه الكوراس، وهى تقنية موسيقية تتكرر فيها المقطوعة الأشد أهمية، فيحاكى النص نفسه، بإقامة ترضعن الشاعر كفافى ينتهى بتمثيل قصيدته عن الشموع بترميز هامشى للزمن، ينتهى العرض بكفافي، الذى يقوم بدوره ديمترى كهامش سرى يتوارى وراء المركز، الشاعر كفافي، ممثلاً ثنائية الهامش/ المركز مجدداً، نائماً بجوار أمه، كتجسد حى لمفهوم الهوية وارتباطه بالنشأة، وهو ما يؤكده النص، كأنه يحاور ذاته لمروية توازى المكشوف من النص، بمقطع حواري:
“تراقبه يا ديمتري؟ تراقبه؟ أنت مجنون.. وما الذى تستطيع فعله أكثر من أن تراه يغادر البيت ويعود إليه؟“
هذا فى فى الحقيقة هو كل شئ..”“
أما عن اللذة، المرتبطة كليًا بتصور إسكندرية “إمام”، تنبع من تجسيدها المادى بعد تشبيهها المعنوي، الجامد، بقصائد قسطنطين ب. كفافيس، اللذة هنا تؤاخَى مع فعل الفن، فيمارس الشاعر لذته مع قلم يُكتَب بنه بعد ذلك، لذا يوجد مستويات عدة للفن، بعد المستويات السردية، فيتجسد الرسم تحقيقاً للذة المُؤاخَاة بالفن، احتفاء بالفن بتجريدته، وتنويهًا عن مركزيته فى بنية النص وتأويله.. يناقض الفن القداسة والسلطة، يظهر دائماً الأجزاء الخلفية، الشوارع الجانبية، الكلاب الميتة، النوافذ الضيقة بالعيون المقطوفة بها حديثاً، دوماً التعبير عن الفقر والطبقية يلازم اللذة، حتى لو كان عند الموت، فتحتضن اللذة الموت، يظل النص هكذا حتى ينفى ذاته بطرح شخصية مُتخَيلة، تطبيقًا التخييل/ التأريخ، ثيوفيليس، صاحب الطابع الأسطوري، القداسي، فاقد العين، الرؤية، صاحب عين أخرى بلون البحر، الجمال والحرية كطابع للذة.. هنا، عند ظهور ثيوفيليس فقط، تخضع القداسة وسلطتها للذة، ليحمل ثيوفيليس أسطورة، سيرة شعبية لها سخونة اللذة، ودفء الهامش.. لا يقتصر الهامش، الرابض، أحياناً، المركزية على المصريين فقط؛ “هيليني”، أخت كفافيس، التى تمثل الفقد وثنائية الموت/الحياة، مع موتها تحيا المدينة كإنسان، ربما على أنقاض موتها، وكتابتها، كحياة، شديدة الذاتية، تعيد تشكيل الواقع، كتأويل النص لذاته.. هيلينى تقدم عزاء للقبور، عزاء يفتح نوافذ تتسع لمنازل بأسرها، ربما لكل الشقوق بشوارع المدينة، كونها بديل للحياة، هامش على حياة الشاعر، سرعان ما يحوله الفن لمركز بإعادة تشكيله، هامش على المدينة ذاتها، يظل هامشًا، لكنه رقيب، رقيب على إنسان يتشكل، إنسان يدعى المدينة، ذلك بالضبط ما يفعله طارق إمام بالتأريخ للمدينة بتاريخ يوازيها، تاريخ يشهده الموت والفقد، كدليل على الحياة، النافية، بقدر من تأويل فعل الفن يتكاتف مع باقى النص، فقدها، فيهبها كفافيس حياة ثانية بكتابتها ولو بالمقابر.