حين تسربت رائحة المخبوزات.. مشهد من رواية “2067” لـ سعد القرش قبل صدورها
ثقافة أول اثنين:
تصدر خلال أيام رواية “2067” للكاتب الصحفى والروائى سعد القرش عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر فى بيروت، وننشر مشهدًا من الرواية:
أراد رشيد أن يصرف أمه عن سيرة زوجته سهير. الأم هدى، التى ترملت قبل أكثر من ثلاثين سنة، سمعت سؤال ابنها عما إذا كان أبوه، وهذا مستبعد بطبيعة الحال، قد عرف امرأة أخرى؟ حدجته بنظرة قاتلة: ـ اشرب الشاى وامشِ يا أهبل. أنت تجننت؟ أقسم ألا يشرب الشاي.
وتحداها برفض شاى يقترن بالطرد من بيت أبيه. وتصنّع الغضب قائلا إنها أعدت الشاي، ولا تعرف هل هو جائع أمْ يريد أن يتعشى، وهذا لا يأتى إلا من أمّ قاسية.
اعتصمت هدى بسبعين عاما تقف عليها بصلابة، وثلاثين عاما من الترمّل. وصفت زوجها المرحوم كامل المحامى بأنه يخبئ روحا أخرى تتلبس جسده، ويصيبها مسّ من تلك الروح، يجذبها كامل فتصعد هدى قفزا.
ساعة لا يباليان فيها بأن يكون لها ما بعدها، وصالا أو حياة. كان باذخا فى الإفراط، يستنزف نفسه غائصا إلى العمق فى لحظة لا يهمه ما يليها. كانا قد اتفقا على إنهاء كل ما ليست له صلة بالبيت خارج البيت، فلا تقترب من بابهما مشكلات العمل، ومشاحنات الملتقيات، وشؤون العائلة. الجدال العام جدال، والحياة حياة، “لا تكون الحياة حياة إذا أصبحت مائدة اجتماعات مستمرة، تلاحقنا وتكدرنا”.
الباب فاصل بين العام والخاص، يدخلان فيصيران طفلين، ولا يثرثر طفل عن جلسات المحاكم، وأحقاد زملائه.
ينسى الطفل الكبير ما دون السعادة، ولا تشغله هدى بمعاناتها من ملل زميلاتها المدرسات، وسخافات المدرسين وضيق آفاقهم.
مهمة كامل شراء الفاكهة والخضراوات وما يلزم المطبخ. وهدى تتولى الطبيخ ويساعدها الطفل الكبير فى ابتكار أطعمة، وحين تصحّ التجربة يرسل إلى أبيه، ويزهو بأنه الطاهي، وتغضب هدى طالبة حقها فى الاعتراف بدورها الأهم فى تطييب الطعام، ووضع لمسات بهارية منحته الأكل نكهته. ويفصل بينهما ناجي.
ندم رشيد على أنه لا يتقن الطبخ، باستثناء أشياء قليلة وغير أساسية، يسمّيها “إسعافات أولية”. أراد أن يقول إنها، كما قال جدّه، محظوظة برجل خذلها ومات شابا، وتركها أرملة دون الأربعين، لولا أنها عاجلت ابنها رشيد: ـ أبوك صاحب المهارات والكرامات ما كان يعرف مقاسات ملابسه، كنت أنتقيها له.
تشجّع مرة واشترى قميصين، فرجع بهما فورا وأنا معه، وبدّلنا بالقميصين أغلى قميص فى المحل، ودفعنا الفرق! ضحك رشيد: ـ عمرى ما انتبهت، قبل اليوم، إلى أنه ما صحبنى لشراء ملابس. ـ ترك لى المهمة. أول الحمل، راهننى على أن البكر بنت كما تمنى، فكنتَ أنت الأول والأخير، وبدلا من الأب الطفل شرّفنا طفل بجدّ، طفل يزاحم الطفل الكبير.
أبوك كان يخاف جدّك، وأنت تتدلل عليه. انفعل كامل وأغضبها غضبة كبرى، وتركت البيت. ولم يجرؤ كامل على الذهاب ومواجهة أبيه الذى نصح هدى بألا تستمرئ الغضب؛ فيعتاد زوجها غيابها، ويصيبه الفتور، وتزوغ عينه. ومن استحيائها لم تقل إنها لا تترك فى زوجها، كل ليلة، خيرا لامرأة أخرى.
ولم تدفعه يوما إلى السأم، وأحيانا تلوم نفسها إذا هجرته أول الليل، وهى تعى كم يتعذب ويتحامل على نفسه، ويدّعى التماسك، وهو على حافة الانفجار غيظا، فتلحقه قبل أن يلوذ بتوسلات تمسّ كبرياءه. تلمس شعره أو كتفه فيحتويها.