ماركيز كان يصرخ: “ساعدونى أنا أفقد ذاكرتى”.. كواليس ما قبل وبعد فقدان ذاكرته
ثقافة أول اثنين:
من أحدث الكتب التى صدرت عن جابرييل جارسيا ماركيز، الفائز بجائزة نوبل للآداب، والتي كشفت لجمهور القرء عن جوانب عديدة في شخصيته، كتاب “في وداع غابو ومرسيدس” الصادر عن دار آثر للنشر، بترجمة أحمد الشافعي، وهو كتاب يكشف عن مذكرات جابرييل جارسيا ماركيز وزوجته مرسيدس بارتشا، والتي يرويها ابنهما رودريغو جارسيا.
ومن بين فصول الكتاب، يكشف رودريجو جارسيا، عن فترة مهمة فى حياة والده جابرييل جارسيا ماركيز، وهى تلك الفترة تلك فقد فيها ذكراته، فيقول:
قبل أشهر قليلة سألتنى صديقة عن حال أبى مع فقدانه ذاكرته. فقلت لها أنها يعيش الحاضر، صارما فى ذلك، لا يثقله الماضى، ولا تقيده توقعات المستقبل، أما استشراف المستقبل بناء على تجارب الماضى – وهو ما يعتقد بكون أمرا ذا دلالة تطورية ويعتقد أيضا بكونه أصلا من أصول الحكى – فلم يعد له دور في حياته. خلصت من ذلك إلى أنه “إذن لا يعرف أنه فان” وأضافت “كم هو محظوظ”.
جابو
مؤكد أن الصورة التى رسمتها لها صورة مبسطة. مصطبغة بالصبغة الدرامية. فلم يزل الماضى يلعب دورا في حياته الواعية. ولم يزل يعتمد على صدى بعيد من مهاراته التواصلية المعتبرة إذ يطرح على أى شخص يقابله سلسلة أسئلة آمنة: “كيف الأحوال؟”، و”أين تعيش فى هذه الأيام؟”، و”كيف حال جماعتك؟”.
ويحدث بين الحين والآخر أن يغامر بحوار أكثر طموحا فيرتبك في ثناياه، ويفلت منه خيط الأفكار أو تخذله الكلمات. وإذا بالحيرة ترتسم على وجهه، ويعبر به الحرج لوهلة أيضا، فكأنه نفثة دخان في الريح، فيكشف عن ماضيه أيام أن كان الحوار بالنسبة إليه طبيعيا كأنه التنفس. الحوار الخالص؛ الطريف، المثير، المستنفز. فكم كانت لـ الكونسر فادور أي المحاور العظيم مكانة وسط جماعة أصدقائه الأوائل تكاد ترقي إلى مكانة الكاتب الجيد.
وهو أيضا لم ينفض يده من المستقبل بالكامل. فكثيرا ما كان يسأل عند المغرب: “إلى أين سنذهب الليلة؟ هيا بنا إلى مكان ظريف. هيا نذهب للرقص لم؟ ولم لا؟”، وحينما تغير الموضوع بضع مرات يجاريك.
يستطيع التعرف علي أمي ويخاطبها بـ ميشى، وبـ مرسيدس، وبالأم، وبالأم المقدسة. وقبل زمن غير بعيد، مضت شهور قليلة شديدة الصعوبة كان يتذكر فيها زوجته التى عاشت معه طوال عمره لكنه عندما ينظر إليها وهى واقفة أمامه يظنها امرأة أخرى تحتال عليه زاعمة أنها تلك الزوجة.
“فيم إصدارها الأوامر هنا وإدراتها للبيت وهى بالنسبة إلى لا شيء”
فانتاب أمي الغضب من ذلك
وسألت في ذهول “ماذا دهاه؟”.
“إنه ليس نفسه يا أمي.. وهكذا هو الخرف”. نظرت إلى كما لو أنني أحاول أن أخدعها. والمدهش أن تلك الفترة مضت، واستردت أمي مكانها اللائق فى عقله بوصفها رفيقته الأساسية. والسند الأخير، بوسعه أن يتعرف على سكرتيرته، وسائقه وطاهيته، وقد عملوا جميعا في بيته لسنين، فبات يجدهم مألوفين، ودودين، أناسا يشهر فى حضورهم بالأمان، لكنه بات يجهل أسماءهم. وعند زيارتي أنا وأخى، يطيل النظر إلينا ويتمعن فينا، بفضول جامح. يدق وجهانا فى ذاكرته ناقوسا بعيدا، لكنه لا يستطيع أن يتبين من نكون.
يسأل مدبرة المنزل: “من اللذان فى الغرفة المجاورة؟”.
“والداك”.
“فعلا؟ هذان الرجلان؟ اللعنة. شيء لا يصدقه عقل”.
قبل بضع سنوات مرت فترة أقبح، كان أبى واعيا تمام الوعي بأن عقله ينفلت. ظل يطلب العون طيلة الوقت. مكررا المرة تلو المرة أنه يفقد ذاكرته. وإنه لثمن فادح يتكبده من يرى شخصا يعتريه مثل ذلك القلق، إذ يضطر إلى احتمال تكراراته اللانهائية مرة بعد مرة.
كان يقول “إننى أعمل بذاكرتى. الذاكرة أداتى وخامتى. لا يمكن العمل فى غيابها. ساعدونى”. ثم يكرر ذلك بشكل أو بآخر لمرات كثيرة فى الساعة، على مدار نصف ساعات الظهيرة.
فترة مضنية. ومرت فى نهاية المطاف. استعاد سكينته وصار يقول فى بعض الأحيان: “إننى أفقد ذاكرتى، ولكن من حسن الحظ أنني أنسى ذلك” أو “يعاملنى الجميع معاملة الطفل، ومن حسن الطالع أن ذلك يروق لي”.
تحكي لى سكرتيرته أنها وجدته ذات أصيل واقفا وحده فى منتصف الحديقة، شاخصا ببصره إلى البعيد، غارقا فى أفكاره.
“ماذا تفعل هنا يا دون غابرييل؟”
“أبكى”
“تبكى؟ لكنك لا تبكى”.
“بل أبكى. لكن بلا دموع. ألا تدركين أن رأسى الآن هباء؟”.
فى موقف آخر قال لها: “هذا ليس بيتى. أريد أن أرجع إلأى البيت. عند أبى. لي سرير بجوار سرير أبى”.
نشك فى أنه لم يكن يقصد أباه. وإنما جده الكولونيل الذى عاش معه حتى بلغ الثامنة وألهمه شخصية الكولونيل أورليانيو بوينديا، كان ذلك الكولونيل صاحب أكبر أثر فى حياته. كان أبى ينام على حشية تفرش على الأرض بجوار سريره. ولم ير أحدهما الآخر بعد عام 1935.
تقول السكرتيرة “وهكذا هو والدك، حتى الأمور القبيحة قادر حين يتكلم عنها، أن يجعلها جميلة”.