ننشر فصل من كتاب “سيد درويش.. وقائع سرقة معلنة” لـ خيرى حسن
ثقافة أول اثنين:
تمر اليوم الذكرى الـ 101 على رحيل فنان الشعب الموسيقار الكبير سيد درويش، إذ رحل في 15 سبتمبر 1923، وهو أعظم مجدد للموسيقي والغناء، وهو الفنان العظيم سيد درويش سابق عصره فهذا العبقري أدخل تطورات في أساليب التلحين والغناء وجدد الفكر الموسيقي.
صدر حديثا كتاب “سيد درويش.. وقائع سرقة معلنة” للكاتب خيرى حسن، عن كتاب اليوم، وجاء الكتاب بعنوان فرعى “المؤلف الحقيقى للنشيد الوطنى”، يطرح فيه قضية أن كلمات “بلادى بلادى” تأليف سيد درويش وتمت سرقتها، وننشر خلال السطور التالية الفصل الثاني من الكتاب والذي جاء كالتالي:
الفصل الثاني:
الموهبة.. والاكتشاف!
“يا اللى قوامك يعجبني
ليه بس ترضي لي صدودك
يا هل ترى بتأدبني
أكمنّ عزالي شهودك
دا شيء كتير بعدك عني
والقلب ميال لوجودك”
سيد درويش ـ من دور ـ (ياللي قوامك يعجبني)
(1)
لكن من أين جاء حُب سيد درويش للموسيقي والغناء؟ يقول صديق طفولته وجاره في الحارة وكان اسمه محمد العجان:
“كان من عادة الأثرياء من أهل الحي في ذلك الحين أن يدعوا شيخًا من المقرئين المطربين يدعى الشيخ حسن الأزهري، وكان ممن يدعونهم لإحياء حفلاتهم. وكان الشيخ الأزهري هذا ذا صوت حسن وأداء ممتاز فكان أهل الحي يجتمعون في السرادق الذي يغنى فيه، وكان الأطفال يسهرون خارج البيوت ليستمعوا إلى صوته العذب الجميل وإن كانوا لا يفهمون الكثير من معاني القصائد التي يلقيها ومن بين هؤلاء الأطفال كان سيد درويش الذي لم يترك حفلة من هذه الحفلات إلا وحضرها”!
وكان في الصباح ـ وهو في طريقه للمعهد ـ يجمع زملاءه وأصدقاءه ويقوم بتقليد الشيخ حسن بطريقة بارعة في غنائه وأدائه. ولقد حارب الأب حتى وفاته ـ والأم الست ملوك فيما بعد ـ بشتى الطرق حُب الابن للموسيقى، ولكنهما فشلا في حربهما ضد حبه وعشقه للموسيقى والغناء.
ويقول محمد محمود دوارة : “إن الأب ذات يوم وجد ابنه يقف فوق قفص دجاج خشبي فارغ وفرش عليه قطعة من الخيش المهترئ وكأنه مسرح ـ أو منصة ـ كالتي يقف عليها الشيخ حسن الأزهري وبدأ الغناء للأطفال الصغار في الشارع. وعندما ضبطه أبوه متلبسًا بهذه الجريمة الشنعاء ـ من وجهة نظره ـ جذبه من فوق القفص وأدخله إلى البيت وضربه ضربًا مبرحًا وحذره من الخروج والسهر والاستماع إلى الشيخ حسن أو غيره مرة أخرى”!
ويؤكد محمد إبراهيم في كتابه (الموسيقار سيد درويش) قائلًا: “إن الأم بعدما حملت المسؤولية بمفردها كانت قد استقبلت ابنها ذات ليلة بالسب واللعن والضرب، بعدما قضت ليلة باكية وهي تبحث عنه في كل مكان ولم تجده”!
وكان الابن في هذه الليلة سهران يغني في حفلة دعاه لها الشيخ أحمد الشباسي وأقامها في منزله بمناسبة عيد ميلاد ابنه. في الحفل وجد سيد درويش حالة رائعة وإعجابًا كبيرًا بصوته حتى إن مستمعًا من الحضور قام من مكانه ـ وكان تركي الأصل ـ وجمع تبرعات من الحضور لهذا المنشد الصغير وصلت إلى 270 قرشًا عاد بها الصبي إلى البيت، ورغم ذلك أوسعته الأم سبًا، ولعنًا، وضربًا.
ومثلما ضرب سيد درويش عرض الحائط بتحذيرات أبيه قبل رحيله فعل ذلك مع أمه.. وخرج من البيت.. وسهر خارج البيت ساعيًا ـ بدوافع داخلية لم يستطع السيطرة عليها ـ إلى الاستماع لمشايخ المعهد ومشايخ الإنشاد والألحان والغناء في الإسكندرية!
(2)
في هذه السنوات كان قد ترك الدراسة واتجه مدفوعًا بحب الغناء إلى الاستماع للشيخ أحمد ندا والشيخ سكر وغيرهما من أهل الإنشاد، بالإضافة إلى مطربه الأول ـ أو منشده الأول ـ الشيخ حسن الأزهري.
وفي هذا الوقت بدأ يداعبه الأمل في أن يكون واحد مثلهم (ولماذا لا يكون الشيخ حسن الأزهري مثلًا؟ هكذا سأل نفسه) وللإجابة عن السؤال راح يغذى تلك الرغبة بالإنشاد.
وفي نفس الوقت بدأ رحلة البحث عن لقمة العيش؛ من أجل أمه ـ الست ملوك ـ وأخواته البنات وإلا ماتت هذه الأسرة الصغيرة فقرًا وجوعًا ومرضًا، حيث لم يترك الأب ـ صاحب دكان النجارة ـ سوى بعض الديون وعلى الورثة تسديدها في المستقبل الآجل أوالعاجل.
واشتدت الأزمة عليه وعلى أسرته فقرر البحث عن عمل، ولم يجد سوى إحياء سهرات الموالد بالغناء، حيث كان ينشد أغاني الشيخ سلامة حجازي وبدأ بالفعل العمل بالتنقل ما بين الموالد وفرقة غنائية كانت تعرف باسم (فرقة كامل الأصلي) ومقرها (قهوة إلياس) بجهة (كوم الناضورة).
ثم ارتاد بعد ذلك مقاهي بلدي لا تليق برجل معمم ليحيي لياليها مقابل 5 قروش في الليلة. غير أن هذا الدخل المادي كان لا يكفي للحياة العادية، فقرر أن يعمل ـ بجانب ذلك ـ في مهن أخرى مختلفة بعدما خلع الجبة والقفطان والعمامة وساقته الأقدار للعمل في محل أثاث قديم ثم تركه، ليعمل في محل لبيع الدقيق وتركه بعد فترة، ليعمل مناولًا لأحد المبيضين(يناوله المونة) وأخذ يمارس المهنة الجديدة ـ مهنة مبيض محارة بمصطلح هذه الأيام ـ والتي يطلى من خلالها جدران المنازل القديمة باللون الأبيض بمادة كانت تسمى (الجير السلطانى)
ومن خلال العمل مع عمال البناء بدأ يغني لنفسه ـ ولهم بطبيعة الحال ـ الأغاني والأهازيج والأناشيد التي تخفف عنه وعنهم مشقة وإرهاق العمل، مما يبعث فيهم الهمة والنشاط والقوة ويدفعهم إلى سرعة الإنجاز وجودة العمل.
فى هذه الأيام الشاقة بالعمل، القريبة من اليأس، والبعيدة عن الأمل، اكتشف جمال صوته ـ وهذا هو الاكتشاف الثاني ـ المعلم ـ (المقاول) ـ الذي كان يعمل معه وأمره ـ أي أمر سيد درويش ـ بأن يكف عن العمل ويكتفى بالغناء فقط للرجال وهم يعملون في البناء والبياض!
ـ(أنت يا سيد يا ابني متشتغلش.. أنت مش بتاع بهدلة.. أنت تغني بس بصوتك الحلو ده للرجالة الشغالة (الشقيانة)!
ثم أردف قائلًا: (وهتاخد أجرتك كاملة)!
وكانت هذه الأغانى التي يغنيها لعبده الحامولى ومحمد عثمان وألمظ وصالح عبدالحى والشيخ سلامة حجازي والست تودد الشامية والحاجة السويسية. ومحمد أفندي العجوز. واللاوندية ، والكمسارية (الكمسارية اسم مطربة كانت في ذلك العصر ذائعة الصيت) والست بهية والست توحيدة المصرية (هؤلاء جميعًا كانوا مشاهير الغناء في القاهرة والإسكندرية)!
(3)
ومن شارع إلى حارة ومن حارة إلى زقاق، تنقل سيد حاملًا في قلبه حلم الموسيقى والغناء وفي يده جردل الجير(والمونة) وأدوات الهدم والبناء. وذات يوم وهو يقف فوق السقالة يعمل (وعمله ـ كما ذكرنا آنفًا ـ هو الغناء للعمال) بدأ وصلة من الغناء والإنشاد تصادف ـ حينذاك ـ أن البيت الذي يجري فيه العمل يقع بجواره مقهى بلدي صغير يجلس عليه اثنان هما أمين عطالله وشقيقه سليم عطالله فالتفتا إلى جمال الصوت القادم إليهما من الجهة المقابلة.
وقام سليم من مكانه واستدعى صاحب الصوت الذي لم يكن يعرفه من قبل (وهذا هو الاكتشاف الثالث لسيد درويش) وطلب له فنجان قهوة، ثم عرض عليه العمل معهما بالفرقة.
وافق سيد درويش فورًا. فقال له أمين عكاشة:
“نحن لدينا رحلة عمل غنائية في الشام وسوف يكون السفرأول يناير القادم ـ عام 1909
رد سيد: “موافق طبعًا”!
كان سيد درويش قد تزوج زوجته الأولى والزوجة حامل في مولوده الأول الذي وضعته وهو مع الفرقة خارج مصر واستغرقت الرحلة عشرة شهور ولم تنجح فيها الفرقة حتى إنه اضطر إلى مراسلة أهله في الإسكندرية طالبًا منهم أجرة العودة. وبهذا لم تحقق الرحلة حلمه في الغناء وعاد إلى الإسكندرية حزينًا بسبب الحلم الذي تحول إلى سراب!
(4)
ومن وراء البحر والسفر والسراب عاد مأزومًا، يائسًا، محبطًا (فى ظل وجود زوجة وأم وأخوات) وهو بلا عمل وبلا أمل لا في المعمار ولا في البناء ولا في الموسيقى والغناء.
لذلك قررأن يعود ـ عندما ضاقت به الحال ـ إلى الغناء في المقاهي ومنها مقهى (شيبان) الذي كانت تتردد عليه طبقة ممتازة من الناس ويغني لهم الشيخ سلامة حجازي ثم تنقل ما بين مقهى(شيبان) ومقهى (شاطئ المحمودية) في كرموز. ومقهى (إلياس) ومقهى (المنصورة) ـ “ولكل مقهى مطربة أو مطرب معروف وتخت يتألف من أربعة أو خمسة” ومن المقاهي إلى(بار كوستى) بأول شارع انسطاسي لتتقلب به الحياة وترهقه المطالب الحياتية اليومية، وهو يواصل السير والمسيرة بلا ملل أو زهق؛ رغم صعوبة المعيشة!
(5)
لكن العودة للمقاهي والبارات وسهرات الليل ازعجت الأسرة، فأقسم زوج أخته بالطلاق ألا يدخل سيد له بيتًا ـ وبالتالي لن يرى شقيقته الكبرى التي يحبها كثيرًا.
ـ سأله سيد درويش: “ولماذا يا معلم؟” رد: “طالمًا عدت للغناء في البارات والخمارات والمقاهي فلن تدخل لى بيتًا”! ولأن سيد درويش كان يحب أمه أخواته البنات جدًا عاد وسأل زوج أخته: طالما ترفضون عملى بالغناء؟ إذن ماذا أعمل؟ ومن أين لى باحتياجات طفلى وأمى وزوجتى؟ رد قائلًا: “تعال اشتغل معايا يا أخى”؟ سأله سيد درويش: “اشتغل معاك إيه”؟ قال: “تشتغل هنا في المحل كاتبا” ـ كان يمتلك محلًا لبيع الأثاث ـ تسجل لى الحسابات والصادر والوارد”.
على مضض وافق وبدأ العمل بالفعل، لكنه لم يستمر فيه سوى أربعة شهور فقط بعدها جاءت له دعوة أخرى للسفر للمرة الثانية إلى بلاد الشام.. فوافق على الفور وترك محل زوج شقيقته وكان ذلك عام 1912 وعاد بعد سنتين، حينما كان عمره قد وصل إلى 20 سنة.
وعندما وصل عمره إلى 22 سنة كان الاحتلال قد رسخ أقدامه في مصر، وانتهى الأمر بإسقاط السيادة العثمانية عن مصر، وإعلان الحماية البريطانية عليها في عام 1914. ومنذ هذه اللحظة أخذت المقاومة الشعبية والسياسية تنمو أمام سيطرة الاحتلال. وأخذ ـ كما يقول عبدالعظيم رمضان في كتابه تطور الحركة الوطنية في مصر ـ 1918 ـ 1936ـ “مد الكراهية للاحتلال يمتد ويشتعل في نفوس المصريين وتنمو الروح القومية في صدورهم”، وبهذا الحماس والروح والقومية والوطنية تشبعت موهبة سيد درويش وتأهلت لتتقدم الصفوف بالكلمة واللحن. استعدادًا لثورة 1919.. وقد كان!