مقدمات الكتب.. ما قاله محمد سليم شوشة في “فخ الحضارة”
ثقافة أول اثنين:
نواصل سلسلة مقدمات الكتب، ونتوقف اليوم عند كتاب صدر حديثًا بعنوان “فخ الحضارة.. ثورة الذكاء الاصطناعي وتأثيرها على الثقافة واللغة العربية ” للدكتور محمد سليم شوشة، فما الذي قاله في مقدمته؟
مدخل:
ربما لم يستوعب كثيرون منا جوهر التحول الجذري والجوهري في منظومة الذكاء الاصطناعي الفائق، وتصور الأغلبية منا أنها مجرد أداة جديدة مثل اختراع القنبلة النووية أو الطائرات والسيارات والغواصات والراديو والتلفزيون والكمبيوتر والإنترنت وغيرها من منتجات الثورة العلمية والصناعية. والحقيقة أنه تحول جذري ومختلف تماما عن كل ما سبق من مخترعات، فلأول مرة في تاريخ البشر يصبح حرفيا للآلة عقل فائق، وعقل ليس مجازا أو نوعا من التشبيه، فهو عقل غير بشري نعم، وغير مطابق، حتى الآن فقط، في كل وظائفه لما يتم في مخ البشر، ربما أيضا صحيح، ولكنه في أكبر درجة من التطابق والمحاكاة لما يتم في مخ الإنسان من عمليات، محاكاة لشبكاته العصبية، ووظائفه الدماغية الأخرى من الذاكرة المرنة المنفتحة على التشغيل بمستوياتها من المدى القصير والطويل، والذاكرة القابلة للتمدد كذلك بمرور الوقت وزيادة المخزون من البيانات والمعلومات. ولكنه يفوق عقول البشر ملايين ومليارات المرات في القدرة الاستيعابية لمعالجة البيانات وفي سرعة المعالجة.
باختصار شديد يمكن القول إنه إذا كان البشر عبر كل تاريخهم السابق كانوا ينتجون آلات وأجهزة تغطي شئون الحياة كافة للسلم والحرب؛ في الزراعة والصناعة والأعمال المنزلية والمعدات الحربية والأسلحة فإنهم قد تمكنوا الآن مع ثورة الذكاء الاصطناعي من أن يصنعوا عقلا لكل هذه الآلات، نعم هذه هي اللحظة التي أصبحت فيها كل مخترعات البشر السابقة تمتلك عقلا.
هذا هو الجانب الأول والأساسي في ثورة الذكاء الاصطناعي الفائق، وهو أن هذه الآلة لم تعد مجرد وسيط أو وسيلة، فعلى الرغم من قدر ما لدى الكمبيوتر (الذكاء الاصطناعي التقليدي) من تعقيد فهو مجرد وسيلة، يدخل في إطار الوسائل، أي أنه مثل السيارة، وربما مثل الفأس أو السكين أو ماكينة الحلاقة، أو غيرها من الآلات، يتحكم فيها الإنسان بشكل كامل، بصرف النظر عن قدرات هذا الإنسان في متوسط البشر بين الخبرة والجرأة والهواية، فيمكن حتى الآن أن تجد إنسانا لا يجيد استخدام السكين أو الفأس برغم وجودهما منذ آلاف السنين، وبالمثل السيارة، فقد تجد إنسانا يجيد قيادة السيارة وآخر غير شغوف بها، فالكمبيوتر العادي وهو ما أصبح يعرف بالذكاء الاصطناعي التقليدي كان بكل تطبيقاته وبرامجه داخل مفهوم (الوسيلة أو الأداة)، فلا يفكر أو يملك عقلا ولو بشكل المحاكاة والتقليد، يحتاج دائما إلى الإنسان ليقرر ما الذي يوظفه فيه، ويعطيه الأوامر ويخزن فيه الأشياء ويسميها بأسمائها ويصنفها ويرتبها ويؤدي كل هذه المهام، يكوّن محتوى ويطوره أو يصلحه، يربطه بالإنترنت ويستخدمه في البحث أو يقرر فصله وعزله، فيحافظ على محتويات ذاكرته الصلبة ويحتفظ بها كما هي دون أدنى تغيير أو تصرّف ذاتي. ولهذا لم تكن هناك صعوبة في أن يتعلم بعض الأميين لدينا استخدام هواتف الأندرويد مثلا بالتعلّم والتدرب على الاستخدام.
أما الآن بعد ثورة الذكاء الاصطناعي الكبير أو الفائق، فالأمر مختلف كليا، حيث يصبح هذا العقل الآلي فاعلا لأول مرة في التاريخ، يملك دماغا محاكيا لدماغ البشر عبر شبكة عصبية مشابهة للشبكات العصبية التي في مخ الإنسان، وهذه الشبكة العصبية لها منظومتها البنائية التي تأسست عليها بما يجعلها مختلفة بشكل كامل في تعاملها مع المواد التي تشتغل عليها عن الكمبيوتر التقليدي.
في هذه المرحلة الجديدة من امتلاك الآلة لعقل حقيقي، والأكثر دقة أن نقول حقيقي؛ لأنه يمثل محاكاة متطابقة لعقل الإنسان أصبحت فاعلة ومنتجة ومؤثرة بشكل ملموس، ويجب أن ندرك أننا إذا قلنا في وصفه إنه (شبه حقيقي) فإنما يرجع فقط لكونه اصطناعي أي أنه مازال حتى الآن ليس من لحم ودم، لكنه برغم ذلك يؤدي حتى الآن غالبية وظائف العقل البشري وبخاصة في تعامله مع اللغة. في هذه المرحلة وصل هذا العقل الاصطناعي الفائق والتوليدي إلى حدود عميقة من الفهم وتكوين معنى، والأهم أنه يؤدي ما يعرف بالتعلم العميق (deep learning) والقابلية للتطور ذاتيا.
والجانب الثاني في هذا التحول العميق والجذري هو بداية تعامل هذا العقل مع اللغة الطبيعية، أو ما يعرف بنظام (NLP) التي هي اختصار (Natural Language Processing)، فأصبح كل نظام للذكاء الاصطناعي يتعامل مباشرة مع اللغات الطبيعية في منظومته الداخلية من التعلم العميق والمعالجة ومحاولة الفهم وتنفيذ المهام داخل كل لغة بطبيعتها، وهذا تحول جوهري ولافت وله تأثيره داخل كل لغة وكل ثقافة، وبخاصة مع اتساع حدود معالجة الذكاء الاصطناعي الفائق داخل كل لغة إلى معالجة النماذج اللغوية الكبرى وما أصبح أساسيا في هذا النظام باسم (LLMs) وهي اختصار (Large Language Models).
والذكاء الاصطناعي كما يجب أن نفهمه هو (سوفت وير جديد للعالم)، أي أنه ينسحب على كل جوانب الحياة، بداية من تفاصيل الحياة اليومية العادية في الشارع وفي المدرسة وفي الشركات والجيوش والآلات الزراعية كما في وسائل استكشاف الفضاء.
الحقيقة أن هذه فقط بعض المسارات المحتملة بقوة، وبعضها أصبحت مؤكدة، وسيكون لها آثارها الأخرى الكثيرة التي ستمتد بكل تأكيد إلى حياتنا ومجتمعاتنا ولا يمكن لعاقل أن يتأخر في التفكر فيها والتجهز لها إن كان يملك بقية من عقل أو مازال يفكر مثل بقية البشر الطبيعيين. على أننا يجب أن ننتبه إلى مسألة مهمة تخص لحظتنا، أنه في القديم كانت المخترعات تنتقل هي وآثارها من حضارة إلى أخرى عبر الحروب والغزو، أما في العصر الحالي ومنذ هيمنة التكنولوجيا على العالم فالأمر أصبح مختلفا، فانتقال المخترعات بما لها من آثار وتبعات من داخل أسوار حضارة إلى أخرى لم يعد بحاجة إلى غزو أو حروب، إذ يعتمد الغزو بالأساس عليها هي نفسها بدرجة أولى، بصورة ناعمة وأكثر فاعلية وأكثر أمانا لمالكها الذي لم يعد بحاجة لأن يكلّف نفسه عتادا وجيوشا وأسلحة بالصور التقليدية.
قديما بعد اكتشاف البارود وبداية استخدامه في الحرب استهان به بعض الفقهاء في القاهرة في عصر المماليك وحرّموا استعمال جيش مصر له في الحروب فكان ذلك سببا في تمكين العثمانيين من فرض سيطرتهم على دولة المماليك وإسقاطها. وكان هذا تحولا كبيرا في منطق الدول الإسلامية وهيمنة التناحر الداخلي الذي انتهى باضمحلالها التام، وكان بداية التحول الحقيقي في منطقة الشرق الأوسط. على نحو ما تهاون المماليك كذلك مع مسألة تحول طريق التجارة إلى رأس الرجاء الصالح، فأثّر ذلك على وضع الدولة اقتصاديا، والاقتصاد أثر في القدرات العسكرية، والأمر نفسه مع رأي فقهي جعل التفوق العسكري لصالح العثمانيين، وكلها في النهاية أدت إلى حقيقة واحدة وهي أن قوة جديدة حلت محل القديمة واستولت على مُلكها.
مازال هذا القانون ساريا، فهو أزلي، فكل تغير في معادلات الاقتصاد أو العلوم يؤثر في موازين القوى في العالم، لتتمكّن أمم من أمم أخرى، وهكذا في تجدد، ومع ذلك لا أدرى لماذا حضاراتنا بالتحديد هي التي تغفل هذا القانون، فلم تعد تعر انتباها لما يجري حولها وبخاصة في العلوم إلا قليلا وبشكل فردي وبعيدا عن المنهجية أو التيار الغالب الذي يصنع الوعي التراكمي بالذات وبالآخر. وإذا حاولنا فيه نكون مستوردين ومستهلكين ومقلدين؟!
من هذه المنطلقات مجتمعة جاء تأملنا لهذا التحول العميق الذي ستؤدي إليه ثورة الذكاء الاصطناعي الفائق، وجاءت محاولتنا لأن نفكر في تبعاته وآثاره في ضوء محددات ثقافتنا ولغتنا وفي ضوء نظامه الجديد المشتغل مباشرة على اللغة العربية والمتوافر من موادها بكل أنواعها، المكتوبة والمسموعة، القديمة والحديثة، لينقسم ذلك إلى سؤالين؛ الأول يخص اللغة نفسها أو تعامل هذا العقل الاصطناعي الفائق مع اللغة في حد ذاتها بقوانينها وبنيتها وحالة أهلها من الوعي بها وبنظامها. ثم السؤال الثاني ويخص طبيعة هذه المواد باللغة العربية والمنتج الفكري العربي المطروح، وهو ما يعني الثقافة العربية أو ما فضلنا طرحه على أنه تفاعل الذكاء الاصطناعي مع الثقافة العربية ومنتجات العقل العربي بحسب الواضح من حالته الراهنة في ضوء استقصائنا وتقديرنا.
وبعد طرح عدد من الأسئلة والتصورات حول احتمالات تفاعل الذكاء الاصطناعي مع الثقافة واللغة العربية وإشكالياته معهما في الفصول الثلاثة التالية، طرحنا في النهاية فصلا رابعا يتضمن تصورا لبعض الحلول أو المنافذ نحو الخروج من هذه المآزق المحتملة، لتكون لدينا بعض المقترحات المبدئية لمحاولة تفادي هذا المصير الكابوسي لو أردنا الدقة والأمانة في التوصيف.