مذكرات نجيب الريحانى.. قصة أول غرام فى حياته والخديعة الكبرى
ثقافة أول اثنين:
توفي الفنان الكبير نجيب الريحاني في 1949 لكن اسمه ظل واحدًا من علامات الفن المصري، وفي عدد يونيو 1952 أعادت مجلة الكواكب نشر مذكراته.
مذكرات نجيب الريحاني:
منذ 15 عامًا كانت مجلة الاثنين قد فازت بمذكرات فقد الفن المرحوم نجيب الريحاني، فنشرتها تباعًا على قرائها الذين وجدوا فيها صورًا رائعة من حياة الفقيد قدمها بأسلوبه الطريف الذي اشتهر به في مسرحياته.. وقد رأت “الكواكب” في مناسبة الذكرى الثالثة لوفاته، أن تعيد نشر هذه المذكرات.
لست في حاجة إلى أن ارجع بالذاكرة إلى التاريخ والذي تلقفتني فيه كف العالم.. فأقول مثلا أنني ولدت لخمس خلون من شهر كذا عام كذا.. أو أن ولادتي اقترنت بظهور كوكب دري في الأفق اعتبره لعلى طالع يمن وإقبال.. أو.. أو ما لا أرى فيه للقراء من فائدة، ويكفى أن أقفر بهم إلى سن السادسة عشرة حين غادرت مدرسة القرير بالخرنفش بعد أن تزودت بالمؤونة الكافية من تعليم وخبرة.
كنت في عهدي هذا أميل إلى دراسة آداب اللغة العربية والتزود من فنونها لا سيما الشعر وتاريخ الشعراء.
12
لم أكتف إذ ذاك بما كنت أتلقى في المدرسة فجيء لي بمدرس خاص اسمه الشيخ بحر ، كان يسر كثيرا حين كنت التي بعض المحفوظات بصوت جهوري و نبرات تمثيلية وإشارات تفسيرية.. وما إلى ذلك مما كان يعتبره الشيخ بحر نبوغا وعبقرية.
أما كيف تولدت عندي هواية التمثيل، فقد نشأ ذلك من إعجاب أستاذى الشيخ بحر بي وبإلقاني – كذلك .. وكانت المدرسة تكلف طلبتها بين وقت وآخر بتمثيل بعض الروايات على مسرحها ، وكثيرا ما كنت أندب لتمثيل الأدوار الهامة في هذه الروايات . وحين هجرت المدرسة اندمجت في سلك موظفى البنك الزراعي بالقاهرة …. وتشاء المصادفات الغربية أن يكون بين موظفي البنك في ذلك العهد الأستاذ عزيز عيد الذي لم يكن عمله هذا يمنعه من موالاة التمثيل.
أول غرام
وهنا أرى أن أشير إلى أول رواية اشتركت في تمثيلها وهي رواية (الملك يلهو) وكان قد ترجمها أدیب اسمه أحمد كمال رياض بك، وإذا كنت قد أشرت إلى أول رواية فليسمح لي القارئ العزيز أن أعرج على أول غرام علق به قلبي.
كنا نجلس في قهوة اسكندر فرح المجاورة لمسرحه بشارع عبد العزيز (موضع سينما أولمبيا الآن ) وكان بين الممثلين من زبائن هذه القهوة الممثل القديم على افندي يوسف الذي أصبح بعد ذلك من عتاة متعهدى الحفلات … وكان لعلى قطقوطة من بين الممثلات ما تزال إلى اليوم في عنفوان … الشيخوخة ، تحتل أحد أركان قهوة الفن …. كما كانت في الماضي تأوي إلى مثل هذا الموضع من قهوة اسكندر فرح ، وتلك القطقوطة هي السيدة (ص . ق) . كان على يوسف يعتز بصداقة هذه الفتاة باعتبار ما كان ، فلما كنت أذهب لأشاركهما في الحديث … كانت نظرة فابتسامة فمش عارف ايه… فشبكان !!
وظلت أواصر الصداقة تنمو بيني و بين فتاة على يوسف هذه … بينما كانت تتراخى بينها وبين صديقها … دون أن يعلم الرجل من أمرنا شيئا !!
وأخيرا لعب الفار في عبه.. وقاتل الله الغيران كلها من أجل خاطر هذا الذي لعب في عب أبی یوسف … أقول إن الشك بدأ يساوره .. لكنه كان على جانب كبير من اللؤم، فلم يبد لنا شيئا مما في نفسه، وعمل على مراقبتنا من حيث لا نشعر!
يا مولاي كنت في ذلك الوقت “ظبيا” في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري، ومع عدم المساس بفضيلة التواضع أرى أن لامانع من الاعتراف أن لم تكن لتقارن بـ …. أستغفر الله العظيم.. خلقة الصديق اللطيف على يوسف، زد على ذلك أنني كنت موظفا مضمون الإيراد، في حين كام منافسي (يا مولاي كما خلفتني).. كل هذه العوامل شدت أزري وقوت سببي فاتفقت مع الغزال النافر .. على تمضية نهاية الأسبوع في الإسكندرية بعيدا عن علي يوسف ورقابته القاسية.
ومعرف أن يوم الأحد هو موعد العطلة الأسبوعية في البنوك، فحصل الرضا والاتفاق بيني وبين .. محبوبي !! على أن نغادر القاههرة ظهر السبت إلى الثغر، ثم نعود منه صباح الاثنين ولكن اسمع ما حدث… قبل موعد الخروج من البنك زارني في مكتبي الصديق على يوسف وألح علي في أن أقرضه شيئا من المال لأنه دعا بعض زملائي إلى نزهة خلوية.. ولذلك يحتاج .. إلى كذا من “الفلوس” !! فأعطيته ما طلب .. وأنا أحمد الله على (زحلقته) وأدعو بطول العمر إلى أصدقائه أوائك الذين شغلوه عني في هذا الظرف السعيد.. وودعت أبا يوسف إلى الباب وعدت إلى مكتبي مطمئنا، وفي الموعد المحدد قصدت إلى محطة سكة الحديد فوجدت “الكتكوتة” على أحر من الجمر في انتظاري على رصيف القطار الذي امتطيناه وقلوبنا ترقص فرحا وسار القطار بنا ينهب الأرض نهبا ونحن نحلم بالسعادة التي سترفرف علينا بأجنحتها في الثغر الباسم.
ووصل بنا القطار إلى الإسكندرية فنزلنا نسير وخلفنا “الشيال” يحمل حقيبتنا “المشتركة” وما كدت أسير خطوات متأبطا ذراع المحبوبة حتى برز أمامي عزرائيل في ثياب الصديق الملعون.. علي يوسف!!
لقد اقترض اللعين مالي .. واشترى منه تذكرة السفر وجاء معنا في عربة أخرى بالقطار نفسه.. وراح يستقبلنا هانئا باشا مرحا.. وهو يمد يده لي بالتحية شاكرا إياي على قيامي بدفع نفقات السفر لحضرته ولحضرة بسلامتها “الست المصونة والجوهرة المكنونة” التي استلبها مني وتركاني أعض بنان الندم .. ولات ساعة مندم!
أصارحك أيها القارئ الحبيب بأن الدنيا أظلمت في عيني في تلك الحظة .. وأحمد الله إذ كنت خلوا من السلاح .. ولم أكن أحمل حتى ولا سكينة البصل.. فأغسل بها الشرف الرفيع من الأذى!
وذهب العاشقان بينما ظللت واقفا في مكاني، حتى دنت ساعة القطار العائد إلى مصر فامتطيته وجئت أضرب أخماسا في أسداس.