مقدمات الكتب.. نصر حامد أبو زيد فى “نظرة جديدة للقرآن.. نحو تأويل إنسانى”
ثقافة أول اثنين:
نواصل سلسلة مقدمات الكتب، ونتوقف اليوم مع كتاب “نظرة جديدة للقرآن.. نحو تأويل إنسانى” لـ نصر حامد أبو زيد، فما الذى يقوله فى مقدمة الكتاب.
مقدمة:
لقد أصبح العالَم بالفعل — سواء أكان ذلك جيدًا أم سيئًا — قريةً صغيرة واحدة لا يمكن لثقافة منغلقة منعزلة أن تواصل الحياةَ فيها، هذا إن كان لمثل هذه الثقافة وجودٌ فى الأساس. وعلى الثقافات أن تتفاوض، عليها أن تعطى وتأخذ، عليها أن تُعِير وتستعير، وليس ذلك بظاهرة جديدة أو مبتدَعة فى سياق العولمة الحديث. يخبرنا تاريخ ثقافات العالَم أنَّ موجة الحضارة قد وُلدت على الأرجح فى مكانٍ ما حول أحواض الأنهار، ربما فى أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أو مصر أو العراق، ثم انتقلت إلى اليونان، وعادت بعدها إلى الشرق الأوسط فى صورة الثقافة الهيلينية.
ومع ظهور الإسلام، بزغت ثقافةٌ جديدة استوعبت عناصرَ الثقافة الهيلينية وكذلك الهندية والإيرانية، وأعادت صياغتها، ثم انتقلت هذه الثقافة الجديدة إلى العالَم الغربى الجديد عبر إسبانيا وصقلية.
نظرة جديدة للقرآن نحو تأويل إنسانى
هل لى أن أذكرَ هنا الفيلسوف المسلم ابن رشد، الذى يُعرَف فى السياقات اللاتينية باسم أفيروس، وأهمية كتاباته فى التوليف بين الإرث الأرسطى والإرث الإسلامي، لينتشر بذلك نورًا فكريًّا جديدًا فى خِضم عصور الظلام فى أوروبا؟
أودُّ أن أنتهزَ هذه الفرصة للتعبير عن امتنانى إلى مؤسسة “سقراط” الإنسانية، ومنظمة التنمية الإنسانية، والمعهد الإنسانى للتعاون الإنمائى “هيفوس”، ومجلس محافظى جامعة الإنسانيات بأوترخيت، وذلك لمبادرتهم المهمة جدًّا المتمثِّلة فى تأسيس كرسى أكاديمى للدراسات الإسلامية والإنسانية بالاسم العربي، ابن رشد، بدلًا من الاسم اللاتينى أفيروس. وإننى ليشرفنى للغاية أن أكونَ أولَ باحث يَشغل هذا الكرسي؛ واتساقًا مع فكر ابن رشد، فإننى أرجو ألا يقتصر جهدى اليوم على تقديم تلك المحاضرة التى ألقيها بمناسبة قبولى لهذا الكرسي، بل آمُل أن يمتدَّ إلى المساهمة فى عملية بناء جسور متينة بين الإسلام والمذهب الإنساني.
لماذا يُعد تناوُل القرآن بنظرة جديدة أمرًا فى غاية الأهمية للمسلمين اليوم؟ فى سياق رُهاب الإسلام الذى نشهده فى الغرب اليوم، لا سيَّما بعد أزمة الحادى عشر من سبتمبر، وما تلتها من عمليات إرهابية فى كل مكان بالعالم الإسلامى وغير الإسلامى أيضًا، مما اختزل الإسلام فى الأصولية والعنف والإقصاء، ينبغى للمرء أن يركِّز على أهمية هذه الدعوة إلى «النظرة الجديدة للقرآن» بالنسبة إلى المسلمين فى العموم، والمسلمين الذين يعيشون فى أوروبا على وجه الخصوص. ولست أدَّعى هنا أننى أقوم بأى مهمة تبشيرية لصياغة نسخة محدَّدة من الإسلام، وإنما أقدِّم موقفى التأويلى فحسب.
غير أنَّ آلية “النظرة الجديدة للتراث” والتفاوض بشأن “معنى” القرآن فى العالَم الإسلامى لم تزل تشهد تطورًا منذ القرن الثامن عشر. إننى لن أدعوَ هنا إلى استمرارية آلية هذه النظرة الجديدة فحسب، بل أدعو أيضًا إلى تطويرها نحو صياغة منهجية بنَّاءة للمسلمين، أينما كانوا، لكى ينخرطوا بفاعلية فى تشكيل «معنى الحياة» فى العالَم الذى يعيشون فيه.
فى عام 2000، شرُفت بأن اختارتنى اللجنة المسئولة فى جامعة لايدن لاعتلاء كرسى كليفرينخا للقانون والحرية والمسئولية، ولا سيما حرية الدِّين والضمير، ذلك الكرسى الذى يشغَله صاحبه مدة عام واحد. وفى محاضرتى الافتتاحية التى ألقيتها قبل ثلاثة أعوام ونصف بالضبط، فى يوم الاثنين الموافق السابع والعشرين من نوفمبر لعام 2000، قدمتُ مفهومَ القرآن بوصفه مجالًا للتواصل بين الإله والإنسان. جاءت المحاضرة بعنوان «القرآن: التواصل بين الله والإنسان»، وقد حاولتُ أن أقدِّم فيها قراءةً جديدة، ومن ثَم تفسيرًا جديدًا، لبعض الافتراضات الأساسية الموجودة فى المجالات الكلاسيكية المعروفة باسم «علوم القرآن»، لا سيَّما تلك العلوم التى تتناول طبيعة القرآن وتاريخه وبِنيته.
فى هذه القراءة الجديدة وذلك التفسير الجديد، استخدمتُ بعضَ النُّظم المنهجية، مثل علم الدلالة وعلم العلامات (السيميوطيقا)، إضافةً إلى النقد التاريخى وعلم التأويل (الهرمنيوطيقا)، وكلها من المجالات التى لا تُطبَّق بصفة عامة فى الدراسات القرآنية التقليدية فى العالم الإسلامي، ولا تحظى بالتقدير الملائم لها. وقد ركَّزتُ فى تحليلى على البُعد «الرأسي» للوحي؛ أى عملية التواصل بين الله والنبى محمد التى أنتجت القرآن. ولما أنتج هذا التواصل الرأسي، الذى استمر على مدار أكثر من عشرين عامًا، مجموعةً متعدِّدة من الخطابات (فى صورة آيات وسور قصيرة وطويلة)، فقد كان لهذه الخطابات ترتيبٌ زمني.
فى عملية تدوين القرآن وجَمْعه التى انبثقَ منها النص المقدَّس فى صورة “المصحف”، لم يُحفظ هذا الترتيب الزمني، بل استُبدل به ما يُعرَف الآن ﺑ “ترتيب التلاوة”، بينما صار الترتيب الزمنى يُعرَف الآن ﺑ “ترتيب النزول”. وفقًا للنظرة التقليدية، فإنَّ القرآن قد حُفظ على نحوٍ تام شفويًّا منذ البداية، ثم دوِّن خلال حياة النبى محمد أو بعد وفاته بفترة قصيرة حين “جُمِع” ورتِّب للمرة الأولى على يد صحابته.
ويُعتقد أنَّ النص الثابت الكامل تأسَّس فى عهد الخليفة الثالث، عثمان (644–656)، بينما استقر النص المُشكل النهائى فى بدايات القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي.
ومن المهم لنا — حتى إذا تبنَّينا النظرةَ السلفية دونما نقد — أن ندركَ وجود بُعد بشرى آخر فى عملية تدوين القرآن وجمعه هذه، استدعى عمليةَ إعادة الترتيب التى جرَت مبكرًا، والتطبيق المتأخر لعلامات التشكيل على النص الثابت.
واليوم، أودُّ أن أُطوِّر أكثرَ أطروحتى عن الجانب البشرى من القرآن، منتقِلًا من البُعد الرأسى إلى البُعد “الأفقي”. وما أعنيه بالبُعد الأفقى يتجاوز عمليةَ التدوين والجمع، أو يمكن القول إنه يتجاوز ما يعرِّفه بعضُ الباحثين الآخرين بأنه فِعل الإبلاغ التدريجى من جانب النبى محمد لرسالة القرآن بعد تلقيها، أو نشر الرسالة عبر “النص التفسيري”، وفقًا لمحمد أركون، ما أقصده هو البُعد “الأفقي” المضمَّن فى بنية القرآن، والذى تجلَّى خلال عملية الاتصال نفسها. ولا يمكن إدراكُ هذا البُعد الأفقى إلا إذا حوَّلنا إطارنا المفاهيمى من النظر إلى القرآن بوصفه «نصًّا»، ونظرنا إليه بوصفه «خطابًا».