مقدمات الكتب.. ما يقوله يوسى إم هانيماكى فى كتابه “الأمم المتحدة”
ثقافة أول اثنين:
نواصل سلسلة مقدمات الكتب، ونتوقف اليوم عند مقدمة كتاب “الأمم المتحدة: مقدمة قصيرة جدا” لـ يوسي إم هانيماكي، فما الذي يقوله؟
يقول يوسي إم هانيماكي في مقدمة الكتاب:
مقدمة
نحن الشعوب: وعد الأمم المتحدة
“نحن شعوب الأمم المتحدة.” بهذه الكلمات يبدأ ميثاق الأمم المتحدة. ثم يسرد الميثاق بعد هذا أربعة أهداف رئيسية للمنظمة الدولية؛ أولًا: أن الأمم المتحدة آلت على نفسها حفظ السلام والأمن: “أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب.” ثانيًا: “أن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان.” ثالثًا: أكدت الأمم المتحدة على احترام القانون الدولي. ورابعًا: تعهدت المنظمة الوليدة ﺑ «أن ندفع بالرقي الاجتماعي قدمًا، وأن نرفع مستوى الحياة». وفي صيف عام ١٩٤٥، قطعت الدول المؤسِّسة للأمم المتحدة على نفسها عهدًا بأن تجعل العالم مكانًا أفضل.
هل استطاعت الأمم المتحدة تحقيق كل هذه الأهداف النبيلة، أو بعضها، أو أيها، على امتداد أكثر من ستة عقود؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي نتعامل معه في هذا الكتاب. ومن ثم، سيقيم الكتاب نجاحات الأمم المتحدة وإخفاقاتها كحارس للسلم والأمن الدوليين، وراعٍ لحقوق الإنسان، وحامٍ للقانون الدولي، ومهندس لعملية التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وأثناء ذلك، سيسبر الكتاب أغوار هيكل الأمم المتحدة وعملياتها في أنحاء العالم.
شكل ١: مقر منظمة الأمم المتحدة، يقع على مساحة ثمانية عشر فدانًا بالجانب الشرقي من مانهاتن، ويتألف من أربعة مبانٍ رئيسية: مبنى الجمعية العامة (ذي السقف المائل)، ومبنى المؤتمرات (على نهر إيست ريفر)، ومبنى الأمانة العامة المكون من ٣٩ طابقًا، ومكتبة داج همرشولد، التي أضيفت عام ١٩٦١. صمم هذا المجمَّع فريق دولي من أحد عشر مهندسًا معماريًّا.
ليست هذه مهمة يسيرة؛ إذ ظلت الأمم المتحدة على مدار تاريخها مؤسسة مثيرة للجدل. لقد مرت المنظمة الدولية الوحيدة العالمية بحق — التي يُجِلُّها البعض ويلعنها البعض الآخر — برحلة وعرة؛ فقد فازت بجائزة نوبل للسلام وغيرها من الجوائز لإنقاذها حياةَ البشر وتخفيف معاناتهم، لكنها كانت أيضًا هدفًا مفضلًا للسياسيين الذين يشككون في أن الأمم المتحدة تحاول أن تكون حكومة عالمية، أو يزعمون هذا كي يكسبوا قلوب مجموعات بعينها من الناخبين، لكن آخرين — أمثال هنري كابوت لودج الابن، سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة من عام ١٩٥٣ إلى ١٩٦٠ — يتبنَّوْن نظرة أكثر اعتدالًا؛ إذ يقرون بمَوَاطن القصور المتأصِّلة بالمنظمة التي تمثل — نظريًّا على الأقل — مصالح العالم أجمع. وقد لخص لودج هذا الرأي في عام ١٩٥٤ بقوله: «نشأت هذه المنظمة لتمنعك من الذهاب للجحيم، لا لتأخذك إلى الجنة.»
في الواقع، إن كان من فكرة رئيسية تهيمن على هذا الكتاب فهي الحقيقة البسيطة القائلة إن أعظم التحديات التي جابهتها الأمم المتحدة هي الفجوة شديدة الاتساع بين طموحاتها وقدراتها، ويمكن لنظرة سريعة على الجوانب الأساسية لأنشطة الأمم المتحدة أن تؤكد هذا.
أولًا: تعهدت الدول المؤسِّسة للأمم المتحدة بجعل العالم أكثر أمنًا. ولتجنب المجازر التي سببتها الحرب العالمية الثانية أنشأت هذه الدول هيكلًا وأدوات مصممة لمواجهة التهديدات المحيقة بالأمن الدولي، وأوضح مثال على هذا تمثَّل في منح مجلس الأمن سلطة غير محدودة تقريبًا حين يتعلق الأمر بانتهاكات السلام. من المفترض أن تكون قرارات المجلس ملزمة لجميع الدول الأعضاء، وقد عُهد للجنة الأركان العسكرية التابعة له بالتخطيط للعمليات العسكرية، على أن تملك تحت تصرفها قوة جوية جاهزة للنشر الفوري. وبدا أن الدول المؤسِّسة قد عقدت العزم على ألا يقف العالم مكتوف الأيدي ثانية وهو يشاهد الدول المعتدية تنتهك الحدود والاتفاقات الدولية.
كان التصميم معيبًا؛ فلجنة الأركان العسكرية لم تضع تصورًا لقوتها الجوية أو قواعدها؛ ولهذا لم يكن بالإمكان بدء العمليات العسكرية التابعة للأمم المتحدة بسرعة، بل في الواقع لم يكن من المفترض أن تملك الأمم المتحدة تسليحًا عسكريًّا خاصًّا بها. أيضًا احتوى ميثاق الأمم المتحدة في صلبه على أسباب عجز مجلس الأمن: فمن خلال منح حق النقض (الفيتو) لخمس دول (الصين وفرنسا وبريطانيا العظمى والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة)، مكَّن الميثاق هذه المجموعة المختارة من منع أي فعل تراه مناقضًا لمصالحها الوطنية؛ ونتيجة لذلك، قد تكون الأمم المتحدة لعبت دورًا إيجابيًّا في منع اندلاع حرب عالمية أخرى، لكنها عجزت عن منع نشوب سلسلة من الصراعات الإقليمية أو وقفها (من كوريا وفيتنام وحتى الشرق الأوسط وأفريقيا). فقوات حفظ السلام التي أرسلت إلى مناطق النزاعات في العالم كانت عادة تصل بعد انتهاء أسوأ الأعمال العدائية بوقت طويل. وفي بعض الأحيان — كما هو الحال في إقليم دارفور بالسودان بعد عام ٢٠٠٣ — تأخر وصولها، وكانت عمليات الإبادة الجماعية دائرة.
المشكلة الأساسية التي تعانيها الأمم المتحدة كمراقب للأمن الدولي كانت — ولا تزال — بسيطة: كيفية التعامل مع الصراعات — سواء بين الدول أو داخل الدولة نفسها — دون المساس بالسيادة القومية للدول الأعضاء بها. إنه لغز يستمر في التأثير على وظائف الأمن الدولي التي تقوم بها الأمم المتحدة، فلا يزال السلام ينتظر أن يسود.
كان الهدف الثاني للأمم المتحدة هو تسليط الضوء على أهمية حقوق الإنسان واحترام القانون الدولي. ولتحقيق هذا الهدف، عُقدت المعاهدات وصدرت الإعلانات وصيغت الأدوات القانونية المتعددة. أبرز هذه الوثائق لا شك كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام ١٩٤٨. وأضيفت وثيقتان أخريان إلى قانون حقوق الإنسان في الستينيات، وهو ما أنتج لنا الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. وبحلول القرن الحادي والعشرين، كان مجلس حقوق الإنسان والمفوضية السامية لحقوق الإنسان وغيرهما من الهيئات تبلِّغ — في نشاط — عن أي انتهاكات لحقوق الإنسان في العالم، وكانت المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الخاصة، في لاهاي، تحاكم من ارتكبوا أشنع انتهاكات حقوق الإنسان.
بيد أن قدرة هذه الهيئات على تنفيذ نوع من الولاية القضائية العالمية تظل محدودة بفعل العامل عينه الذي يعرقل دور الأمم المتحدة في الأمن الدولي: سلطة الدولة القومية؛ فليس من حق المفوضية السامية أو المجلس توجيه «الأوامر» للدول ذات السيادة، والمقررون الخصوصيون الذين يحققون في الانتهاكات نيابة عن المجتمع الدولي يجب أن «يُدعوا» من جانب الحكومات التي تكون — في أحوال كثيرة — هي نفسها موضع التحقيق. وكثيرًا ما تنتهي التحقيقات إلى طريق مسدود.
وأخيرًا: تعهدت الأمم المتحدة بتعزيز التقدم الاجتماعي والاقتصادي. ولتحقيق هذا المأرب، أُنشئت مؤسسات مثل البنك الدولي — المرتبط بالأمم المتحدة مع أنه ليس جزءًا من نظامها من الناحية الفعلية — لمساعدة الدول التي تحتاج العون. وفي ستينيات القرن العشرين، ومع ارتفاع عدد أعضاء الأمم المتحدة بفضل الاستقلال الحديث لدول عديدة، وأغلبها دول نامية (من قارة أفريقيا بالأساس)، استجابت المنظمة بإنشاء هياكل إضافية، أشهرها على الأرجح مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
ظهرت مشكلتان منذ الستينيات، ولا تزالان حاضرتين إلى اليوم؛ فمن ناحية، لم يوجد اتفاق على كيفية تعزيز التقدم. فالاقتصاديون وعلماء الاجتماع اختلفوا حول جدوى منح المساعدات الاقتصادية أم ترك هذه المهمة للسوق. ومن ناحية أخرى، تمتعت المنظمات المختلفة بقواعد موارد وهياكل تنظيمية مختلفة؛ على سبيل المثال: لأن البنك الدولي كانت تموله بالأساس الولايات المتحدة، أثرت واشنطن على سياساته تأثيرًا بالغًا، لكن الولايات المتحدة ظلت منخرطة لأكثر من أربعة عقود في الحرب الباردة ونصرة الرأسمالية على الشيوعية بوصف الأولى السبيل الصحيح لتنظيم الحياة الاقتصادية. وفي هذا السياق، كثيرًا — بل غالبًا في واقع الأمر — ما صارت المساعدات الإنمائية أداة سياسية غير مرتبطة بالمشكلات الفعلية لشعوب العالم النامي.
أضف إلى هذا عددًا من العناصر الأخرى — الفساد والتنافس بين الوكالات ونقص الموارد — وستصير الأسباب وراء عدم تمتع المساعدات الإنمائية بنجاح كبير أوضح، لكنها لم تفشل فشلًا تامًّا كما يدعي بعض منتقديها؛ ففي الواقع دعت الأهداف المسماة بالأهداف الإنمائية للألفية — التي أميط عنها اللثام في عام ٢٠٠٠ — إلى تقليل معدلات الفقر إلى النصف بحلول عام ٢٠١٥. وبحلول السابع من يوليو ٢٠٠٧ — في منتصف الوقت الذي حددته الأمم المتحدة رسميًّا لتحقيق هذا الهدف — بدت الدول الآسيوية على المسار السليم لتحقيق هذا الهدف، لكن دول جنوب الصحراء الأفريقية كانت متأخرة للغاية عن تحقيق أهدافها. وليس من قبيل المصادفة أن يحذو الأمين العام الحالي — بان كي مون — حذو سلفه في دعوة الدول الغنية إلى التعامل بجدية مع موضوع المساعدة الإنمائية.
قد لا تكون الأمم المتحدة ارتقت إلى مستوى طموحات مؤسسيها، لكن حقيقة واحدة تظل واضحة: أنها المنظمة الوحيدة العالمية بحق في تاريخ البشرية؛ فالأمم المتحدة — بعدد أعضائها البالغ ١٩٢ دولة في عام ٢٠٠٨ — تغطي كوكبنا بأسره، وخلال عمرها البالغ ستة عقود ضاعفت تقريبًا من عدد أعضائها الأصليين، ٥١ دولة، بمقدار أربعة أضعاف، وتعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة — وهو المنتدى المُمثلة به الدول الأعضاء جميعها — تجسيدًا حقيقيًّا للصورة الشهيرة ﻟ «عائلة الأمم» أو «برلمان البشر».
ما الذي يكمن خلف تأسيس هذه المنظمة العالمية التي تبدو مطلقة الشمولية وربما مطلقة القدرة؟ ولماذا يزداد عدد أعضائها بهذه الدرجة الكبيرة؟ لماذا — بالرغم من النقد الكثير — تستمر في العمل في أنحاء العالم؟ وما الذي ينطوي عليه هذا العمل حقًّا؟
هذا الكتاب القصير هو محاولة للعثور على بعض الإجابات لهذه الأسئلة، التي يثير كثير منها الحيرة والإحباط. إلا أن اهتمامي الأساسي هو محاولتي لأن أفسر — لنفسي ولقراء هذا الكتاب — ذلك التناقض الذي أزعجني منذ أن انتقلت إلى جنيف؛ المدينة التي كانت مقرًّا لعصبة الأمم وتستضيف حاليًّا مقر منظمة الأمم المتحدة في أوروبا.
من ناحية، يرى الكثيرون منا في الأمم المتحدة كيانًا بيروقراطيًّا عجيبًا يمتلئ بموظفين مدنيين يتقاضون أجورًا مرتفعة (مبالغًا فيها) دون أن يفعلوا شيئًا يذكر في وقتهم سوى عقد المؤتمرات في مدن جميلة (كجنيف) على مبعدة كبيرة من مناطق الاضطرابات في العالم. ومع ذلك، من ناحية أخرى، يبدو أيضًا أننا مقتنعون بالرأي القائل إن الأمم المتحدة تساعد ملايين الأشخاص في العالم على عيش حياة أفضل أو — في حالات عديدة — البقاء وحسب على قيد الحياة. والسبب الأساسي وراء اضطلاعي بمهمة تأليف هذا الكتاب هو محاولة تفهم هاتين النظرتين، المتباعدتين أيما ابتعاد، للأمم المتحدة ودورها في العالم الحديث.
لم يكن الأمر سهلًا؛ فقد تحتم عليَّ — مثلًا — اتخاذ بعض القرارات القاسية. وكانت نتيجة ذلك أنني لن أركز على العدد الضخم من القرارات الذي يصدر عن الأمم المتحدة كل عام. وتغافلت أيضًا عن العديد من وكالات الأمم المتحدة وصناديقها، ليس لأنها غير مهمة، بل لأن ضيق المساحة لم يسمح لي بمناقشة عمل منظمات كمنظمة السياحة الدولية مثلًا أو التحليلات المهمة الصادرة عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية. بدلًا من ذلك ركزت على المناحي المختلفة الواقعة في قلب العمل اليومي للأمم المتحدة: حفظ السلام والأمن الدوليين، والتنمية الاقتصادية والبشرية، ومناصرة حقوق الإنسان. قد يعترض البعض على حقيقة أنني لم أُولِ الاهتمام الكافي لخطط الأمم المتحدة المتعلقة بالبيئة والصحة العالمية. وردي ببساطة هو أن هذين الأمرين يمكن دراستهما كجزء من القضايا عريضة النطاق التي ذكرتها لتوِّي.
ثانيًا: يعد تأليف كتاب صغير عن موضوع متشعب أمرًا صعبًا (بطبيعته) لمؤرخ معتاد على التعامل مع التعقيد وتسليط الضوء عليه بدلًا من البساطة. بالتأكيد سيحكم القراء ما إذا كان جهدي ناجحًا أم لا. لكن ينبغي تحذيرهم مسبقًا من أنه استحال إخفاء إشارة واحدة معينة تدل على حقيقة أن مؤلف الكتاب مؤرخ؛ إذ كثيرًا ما يميل الكتاب لسرد الأحداث المتعلقة بموضوع رئيسي محدد بدلًا من الانخراط في شرح وتحليل نظري لوظائف أي جزء بعينه للأمم المتحدة.
وفي النهاية، يستحيل على المرء أن يصنف كتابًا عن الأمم المتحدة دون تناول سؤال أساسي: هل عفى الزمن على الأمم المتحدة وباتت لا لزوم لها؟ الإجابة التي يقدمها هذا الكتاب هي: لا؛ فالأمم المتحدة منظمة لا غنى عنها، جعلت من العالم مكانًا أفضل — كما أمل مؤسسوها — لكنها أيضًا مؤسسة تشوبها عيوب عميقة، وبحاجة لإصلاح دائم.
قد لا تبدو هذه حجة ثورية، بل هي بالأحرى تعكس آراء أغلب البشر في العالم؛ فوفق استطلاع عالمي للرأي أجري في عام ٢٠٠٧ فإن قضية منح الأمم المتحدة سلطات إضافية تحظى بالقبول في العالم (إذ أيد ثلاثة من كل أربعة أشخاص من عينة الاستطلاع فكرة زيادة سلطات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لإجازة استخدام القوة). هذا لا يعكس وحسب عدم الرضا العام عن الطريقة التي تُحيِّد بها الدول القوية الأمم المتحدة — من أبرز الأمثلة الحديثة على ذلك التدخل في العراق عام ٢٠٠٣ — بل هو مؤشر أيضًا للآمال المتواصلة التي يعلقها أغلب البشر في أغلب الدول على الأمم المتحدة.
هذا، وحده، يجعل محاولة تفهم الأمم المتحدة بكل تعقيدها مهمة تستحق العناء.