المسيح ابن مريم عليه السلام (8)
المسيح ابن مريم عليه السلام (8)
ذكرْتُ في الفصل السابق أن طائفة من بني إسرائيل آمنت بعيسى عليه السلام، وعلى رأس هؤلاء الحواريون رضي الله عنهم كما تقدَّمَ، وقد كفرت طائفة من بني إسرائيل بعيسى عليه السلام، ووصفوه بأنه ساحر، وتعاونوا مع الرومان الوثنيين الذين كانوا يحكمون فلسطين وقتئذٍ ضد عيسى عليه السلام، فَلَقِيَ من عنتهم وأذاهم ومكرهم هو والذين آمنوا معه ما لا يعلمه إلا الله؛ مثل ما لقي إخوانُه من أولي العزم من المرسلين، وقد عدَّه الله تبارك وتعالى في شيوخ المرسلين الخمسة الكبار؛ وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ حيث يقول عز وجل في كتابه الكريم: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ [الشورى: 13].
وكما قال عز وجل: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7].
وقد اندهش بعض الناس من الآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام؛ من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وجعل الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيطير، فحسبوا أن ذلك يُشعر أن عيسى فوق البشر وليس منهم، مع أنه كان ينبِّه عند هذه الآيات إلى أنها بإذن الله، وأنها معجزات من الله تعالى لتأييده، وقد أشار إلى ذلك برنابا في إنجيله الذي ألَّفه للرد على مَن حرَّف دين المسيح عليه السلام بعد رفع المسيح ابن مريم؛ إذ يقول برنابا في الإصحاح الثالث والتسعين من إنجيله: “أجاب الكاهن: إن اليهوديَّة قد اضطربت لآياتك وتعليمك، حتى إنهم يجاهرون بأنك أنت الله، فاضطررت بسبب الشعب إلى أن آتي إلى هنا مع الوالي الروماني والملك هيرودس فنرجوك من كلِّ قلبنا أن ترضى بإزالة الفتنة التي ثارت بسببك؛ لأن فريقًا يقول: إنك الله، وآخر يقول: إنك ابن الله، ويقول فريق: إنك نبي، أجاب يسوع: وأنت يا رئيس الكهنة، لماذا لم تُخمد الفتن؟ وهل جُننت أنت أيضًا؟ وهل أمست النبوَّات وشريعة الله نسيًا منسيًّا، أيتها اليهوديَّة الشقيَّة التي ضللها الشيطان؟ ولما قال يسوع هذا عاد فقال: إني أشهد أمام السماء وأُشهد كل ساكن على الأرض أني بريء من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر؛ لأني بشر مولود من امرأة، وعُرضة لحكم الله أعيش كسائر البشر”.
وبرنابا مؤلف هذا الإنجيل وصف في الإصحاح الرابع عشر منه بأنه أحد الحواريين الاثني عشر، كما وصف في رسالة منسوبة إلى لوقا أحد مؤلفي الأناجيل المسماة بأعمال الرسل بأنه من الرسل؛ أي: من المبعوثين الذين كان يبعثهم عيسى عليه السلام للدعوة في نواحي الجليل وغيرها، فـ”لوقا” يقول في هذه الرسالة: “يوسف الذي دُعي من الرسل برنابا الذي يترجم بابن الوعظ، وهو لاوي قبرصي الجنس؛ إذ كان له حقل باعه وأتى بالدراهم ووضعها عند أرجل الرسل”.
وقد كان عيسى عليه السلام صبورًا على الأذى، حريصًا على هداية قومه، بشوشًا، شديد التعظيم لأمر الله عز وجل؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رأى عيسى ابن مريم رجلًا يسرق فقال له: أسرقتَ؟ قال: كلا، والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنتُ بالله وكذبتُ عيني))، وقد ضاق به اليهود والرومان الوثنيون ذرعًا، وتمالؤوا عليه، فلما أحسَّ عيسى منهم الكفرَ واستشعر منهم التصميم على العناد والاستمرار على الضلال ﴿ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 52، 53]، وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14].
وقد همَّ اليهود والرومان بالفَتْكِ بالمسيح ابن مريم عليه السلام وعزموا على قتله، فلما أحاطوا بمنزلِه، وظنوا أنهم قد ظفروا به، نجَّاه الله تبارك وتعالى من شرِّهم وكيدِهم، فألقى شبهه على شخص من مُبْغضِيه، فحسبوه عيسى عليه السلام، فأخذُوه وقتلوه وصلبوه، أما عيسى عليه السلام فقد رفعه الله إليه وخيَّب مكرَ الماكرين، وردَّ كيد الكافرين، وفي ذلك يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 54 – 57].
وهكذا قضى الله عز وجل أن ينصرَ رسله والمؤمنين، وأن يُخزي أعداءَه الكافرين، وقد نصَّ الله عز وجل على أن عيسى عليه السلام لم يُقتل ولم يُصلب، وإنما شُبِّه لليهود، وفي ذلك يقول: ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 156 – 158].
وإن تعجب فعجبٌ أن يصدق النصارى اليهودَ في أنهم قتلوا المسيح وصلبوه، وبخاصة من انحرف عن الحقِّ، وزعم أن عيسى إله أو ابن إله، كيف يخطر على بال مَن به أدنى مسكة من عقل أن يعتقد أن الإله يصلبُ أو يقتلُ.
وقد جاء في إنجيلِ متَّى وإنجيل مرقص النصُّ على أن الذين أرادوا قتلَ المسيح وصلبه لم يكونوا يعرفونه؛ ففي الإصحاح السادس والعشرين من سفر متَّى في الفقرة السابعة والأربعين من هذا الإصحاح: “وفيما هو يتكلم إذ يهوذا واحدٌ من الاثني عشر قد جاء ومعه جمعٌ كثيرٌ بسيوفٍ وعصيٍّ من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب”، وفي الفقرة الثامنة والأربعين: “والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلًا الذي أقبله هو هو”، وفي إنجيل مرقص في الإصحاح الرابع عشر في الفقرة الثالثة والأربعين منه: “وللوقت فيما يتكلم أقبل يهوذا واحد من الاثني عشر ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ”، وفي الفقرة الرابعة والأربعين: وكان مُسلِّمه قد أعطاهم علامة قائلًا: الذي أقبله هو هو أمسكوه وامضوا به بحرصٍ”.
وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.