الربيع مناخيا جغرافيا
الربيع مناخيًّا جغرافيًّا
مجيد ملوك السامرائي[1]
الربيع مفهوم مناخي – جغرافي يقع بين الفصل البارد والفصل الحار، ويتميز بالتغير ما بين درجات الحرارة الشتوية ودرجات الحرارة الصيفية في نصف الكرة الأرضية الشمالي، وتوقيته بأشهر آذار/ مارس ونيسان/ أبريل ومايس/ مايو، ما بين 1 آذار و31 مايس. أما في نصف الكرة الأرضية الجنوبي فتوقيته من 1أيلول/ سبتمبر إلى 30 تشرين الثاني/ نوفمبر، وفلكيًّا يبدأ مع الاعتدال الربيعي الذي يكون عادةً في 21 آذار في نصف الكرة الأرضية الشمالي، وفي 22 أيلول في نصف الكرة الأرضية الجنوبي، ويستمر حتى وقت الانقلاب الصيفي، حيث يكون محور الأرض في فصل الربيع مائلًا نحوَ الشمس؛ لذلك يزدادُ طول النهار ويقلُّ خلال فترة الليل.
تحدث ظاهرة الاعتدال مرتين في السنة؛ حيث تصطف الأرض مع مدارها حول الشمس مرة في 20 آذار، ويسمى الاعتدال الربيعي، ومرة أخرى في 23 أيلول ويطلق عليه الاعتدال الخريفي، وتكون الشمس مباشرة فوق خط الاستواء، ويتساوى نصفا الكرة الشمالي والجنوبي في ساعات النهار والليل، وكل كواكب النظام الشمسي لديها هذه الاعتدالات عندما يؤدي مدار الكوكب وميله بالنسبة للشمس إلى تلقي كلا نصفي الكوكب كميات متساوية تقريبًا من الضوء.
والاعتدال ظاهرة فريدة يكون خلالها نهار وليل الأرض متساويين في الطول؛ مما ينتج عنه 12 ساعة من ضوء النهار و12 ساعة من الليل في كل جزء من أجزاء الأرض، وهذا ليس بحال الأيام الأخرى من السنة؛ إذ يتسبب ميل محور دوران الأرض حول الشمس بزاوية 23.5 درجة في اختلاف طول النهار والليل، وذلك حسب فصول السنة، والموقع الجغرافي – الفلكي لأقسام الأرض.
في الوقت الذي يبدأ فيه الربيع وبفعل الدفء الناتج عن ميل محور الأرض نحو الشمس؛ يتأثر الطقس في كثير من مناطق العالم بظواهر غير مستقرة، ويرتبط ذلك بمجموعة من الاتجاهات المتعلقة بدورات وظواهر جوية طويلة المدى تُحدِثها التيارات القادمة عبر المحيطات والمرتبطة بتغير درجة حرارة المحيطات ذاتها؛ كظاهرتي (النينو، والتذبذب الجنوبي) اللتين تم بصددهما إجراء العديد من الأبحاث العلمية الجغرافية والجيوفيزيائية، ويشهد الطقس خلال فصل الربيع حالة من عدم الاستقرار، وذلك عندما يبدأ الهواء الدافئ في الهبوب من وقت لآخر من المناطق القريبة من خط الاستواء بينما لا يزال الهواء البارد يهب أيضًا من المنطقة القطبية، وهذا ما يؤدي إلى حدوث الفيضانات في المناطق الجبلية وبالقرب منها بفعل مياه الثلوج الذائبة، وفي الولايات المتحدة وتحديدًا في المنطقة التي يطلق عليها زقاق الأعاصير تكون أعاصير (التُّرنادو) أكثر نشاطًا في هذا الوقت من السنة؛ لأن سلسلة جبال روكي في الغرب تمنع الكتل الهوائية المتدفقة سواء الباردة أم الدافئة من التدفق شرقًا، وتدفعها بدلًا من ذلك إلى التصادم المباشر مع بعضها البعض، كما تهب رياح عاتية للغاية وعواصف رعدية عملاقة[2].
الربيع تجديد لحياة المخلوقات:
يرتبط مفهوم فصل الربيع مناخيًّا بمجموعة من الظواهر؛ مثل تفتح زهور العديد من الفصائل النباتية، وتزايد الأنشطة الحيوانية؛ كالهجرة والتزاوج، ويُنْظر للربيع على أنه وقت النمو والتجديد والنشاط والحيوية لكافة المخلوقات بما في ذلك النباتات والحيوانات، وهنالك ارتباط وثيق بين جميع الكائنات الحية في هذا الفصل؛ كالتكاثر وأزهار النباتات، كما أن خروج الإنسان من الظروف التي يواجهها في الشتاء، واستقباله للربيع يمنحه الكثير من الراحة النفسية؛ لتعرضه لأشعة الشمس في الربيع التي تؤثر إيجابيًّا في الدماغ من خلال تحفيز إفراز هرمونات السعادة والشعور بالراحة النفسية؛ لذلك ارتبط الربيع بالحب عبر التاريخ من خلال الأدب والرسم والموسيقى، وكانت أسباب هذا الارتباط مجهولة، فهل لما يحدث علاقة بتفتُّح الأزهار وانتشارها أم بسبب أشعة الشمس الساطعة؟ وهل يدعو الربيع الإنسان للحُب فعلًا أم أن ذلك وهم؟ أم أن هناك علاقة سحرية تربط بينهما، إن مشاهد تفتُّح أزهار الأشجار وعودة الطيور المهاجرة وزيادة ساعات النهار وزرقة السماء وغروب الشمس الرائع مع انعكاس أشعتها تبعث الأمل والطاقة والحيوية في النفس البشرية؛ ولهذا يصبح الربيع بطبيعته الخلابة بمثابة أرض خصبة للمحبة بمعناها الواسع، ويعد فصل الربيع فصلَ الراحة والجمال والحياة حيثُ تكثر فيه الرحلات والنزهات والسفر؛ لكونه معتدلًا بين الحرارة والبرودة.
الربيع والحضارات الإنسانية:
نظرًا لانتشار ما يقرب من ثلاثة أرباع سكان العالم في النصف الشمالي لكوكب الأرض بسبب سعة اليابسة لتعدد القارات؛ فإن ابتهاجهم بقدوم الربيع اكتسب أهمية عظمى لخروجهم من قسوة الشتاء نحو الحياة المتجددة؛ لذلك فإن سكان العالم القديم لم تكن أحاسيسهم وعواطفهم وأفراحهم تختلف عما لدينا اليوم من مشاعر حين قدوم الربيع وانتشار الخضرة والزروع والورود والثمار والنسيم المُعطر بروائح الزهور البرية التي تملأ الوديان والجبال والسهول والمراعي الخضراء التي ستطعم كل الكائنات الحية؛ لذلك فإن كل شعوب العالم قد احتفلت بقدوم الربيع بشكل من الأشكال، وهذا ما كان معروفًا منذ الأزمنة القديمة لبلاد ما بين النهرين، فقد احتفل السومريون بأعياد الربيع منذ عصر (أريدو-5300 ق.م) باسم (زاكموك) وكان يُحتفل به مرتين خلال العام الواحد في الربيع والخريف، أما الساميون الذين سكنوا العراق القديم فقد اختاروا له تسمية (أكيتو) وتعني (الحياة) في اللغة السريانية الآرامية، كما احتفل بالربيع في مدن (أريدو، أور، لكش، كيش، أوروك)، لقد كان (زاكموك وأكيتو) عيدين رئيسيين؛ فالأول هو عيد الاحتفال بحصاد الشعير، وكان الثاني في جذوره القديمة الأولى عيدًا شعبيًّا لجز صوف الماشية والأغنام كما كان يُمثل رأس السنة الجديدة (الاعتدال الربيعي)، وهكذا راح البابليون يحتفلون بعيد الأكيتو في اليوم الأول من شهر نيسان (نيسانو) الذي يعني بالعربية (نيشان) بمعنى الإشارة/العلامة على حلول فصل الربيع والإعلان عن ولادة الحياة، ويعد رمزًا للخصب.
ربط الإنسان تاريخيًّا فصل الربيع بمناسبات احتفالية محلية وعامة قد تمتد لأكثر من يوم، ولكل بلد طريقته الفريدة في الترحيب بالموسم الجديد سواء كان ذلك من خلال مهرجان أو موكب أو وجبة جماعية، ومن مناسبات الربيع: يوم الأمِّ الذي يأتي في أول يوم من أيام فصل الربيع من كلِّ عام أي يوم 21 آذار، وعيد الربيع، وعيد النوروز، واليوم العالمي للمياه يوم 22 آذار، ويوم العمَّال الذي اختيرَ بأنْ يكون في اليوم الأول من مايس لاعتبار هذا اليوم بمثابة مرحلة انتقالية بين فصول السنة، وعيد الفصح الذي يعتبرُ من أهمِّ الأعياد الدينية المسيحية.
عيد شم النسيم: يرجع الاحتفال بعيد شم النسيم المصري إلى (2700 ق.م) وبالتحديد إلى أواخر حكم الأسرة الفرعونية الثالثة، ويرمز إلى بعث الحياة لاعتقادهم بأنه أول الزمان وبداية خلق العالم، وترجع تسمية (شم النسيم) إلى لفظة شمو الفرعونية، وقد أجمع المصريون باختلاف معتقداتهم على تعظيم شم النسيم، ولا يزال الجميع في مصر يحتفل به حتى يومنا هذا، كما ارتبطت تسمية شم النسيم بالتقويم الزراعي المصري.
عيد الربيع الصيني: يعدُّ من أشهر الأعياد التقليدية، ويطلق عليه أيضًا رأس السنة القمرية الجديدة، وعيد لمِّ الشمل، وتعود جذوره إلى ثلاثة آلاف سنة، كما يحتفل به في الكوريتين وتايلاند وميانمار ولاوس. أما عيد الربيع الياباني سيتسوبون فيكون أيام 2و3و4 شباط.
عيد الربيع في الدولة العربية الإسلامية العباسية:
اعتبرت الخلافة العباسية ببغداد يوم الربيع 4 نيسان بداية لسنة جديدة من النواحي المالية والإدارية وإسناد المناصب، وتعيين القادة، ومنح الأوسمة والخلع، والهدايا وعموم التكريم. وكانت المظاهر الجميلة لعيد الربيع في بغداد زمن العباسيين جلية للعيان وتمثلها زينة البيوت بمختلف أنواع الورد والرياحين وقد ملأت الأرجاء بعبق رائحتها الزكية، ومثل ذلك أعلى دلالة لمعاني الود ومشاعر الإخاء والمحبة، وكانت عادة التألق والتأنق في الأزياء ظاهرة ملموسة لدى الأسر البغدادية، كما كانت حدائق قصور الخلفاء مزهوة بالورود الجميلة.
إن عيد الربيع في بغداد خلال العهد العباسي كان أكثر الأعياد جاذبية ورونقًا؛ فقد غدا الاحتفال به كارنفالًا عظيمًا يمتد لأسبوعين تجلَّت مظاهره بأفراح الناس وتزيين بيوتهم بألوان مختلفة من الورد والأزاهير التي تملأ الأجواء بعطرها الفوَّاح، وهذا ما مثَّل باعثًا لإلهام الشعراء بمشاعر الخصب والخيال؛ ولذلك أنشد ابن الجهم صادحًا:
لم يضحك الورد إلا حين أعجبه
حسن الرياض وصوت الطائر الغرد
|
في العاصمة العباسية الثانية سر من رأى/ سامراء، وأثناء خلافة المتوكل على الله وولده المعتز(869-841م) أنشد البحتري قصيدة الربيع مبتهجًا ومسرورًا بحلول فصل الربيع في سر من رأى ومطلعها:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
|
عيد نوروز عند الفرس المجوس:
كان (نوروز) عند الفرس متجليًا طبقًا لتقاليدهم المتوارثة منذ القدم في الخروج إلى الغابات الكثيفة قبل يوم العيد لجمع الأحطاب ليشكلوا منها أهرامات عالية، وعندما تشتعل النيران تبدأ جماعات المجوس في هذا الجو الساخن والوهج الساطع بالرقص بملابس العيد الزاهية حول الكتل المشتعلة مغتبطين مبتهجين.
أما عيد (نيروز) الفارسي في 21 آذار فعد العيد القومي ويوم الاعتدال الربيعي ورأس السنة الفارسية في إيران، حيث تُعطل فيهِ كل الجهات الحكومية والأهلية اعتبارًا من 20 آذار ولمدة خمسة أيام، كما تُعطل لمدة أربعة عشر يومًا كافة المدارس والجامعات.
في مصر أطلقوا عليه تسمية نيروز القبطي، كما يحتفل به الأكراد يوم 21 آذار عيدًا قوميًّا، وفي سورية عيد الربيع الشامي، ويحتفل به اليزيديون في شمال العراق تحت تسمية سري صال في الأول من نيسان، ويحتفل بهذا العيد سريان العراق المسيحيون في الأول من نيسان، وكذلك الصابئة المندائيون في العراق. أما نوروز دول آسيا الوسطى؛ فيُحتفل به بالتزامن مع الاعتدال الربيعي 21 آذار، ويرمز هذا اليوم إلى حياة جديدة، وتختلف أساليب الاحتفال به من بلد إلى آخر.
في سنة 1935 تم تأسيس مهرجان الربيع السنوي (24 نيسان) بمدينة حماة/سوريا، كما أسس سنة 1969 بمدينة الموصل/العراق مهرجان الربيع السنوي (10 نيسان).
من الأمثال الشعبية المتداولة عالميًّا عن الاعتدال الربيعي؛ بالإنكليزية “تأتي الأمطار في نيسان لتجلب زهور مايس”، وبالألمانية “نيسان يفعل ما يريد”، وبالفرنسية “في نيسان لا تخلع خيطًا”، وبالإسبانية “حتى مايس لا تخلع ثوبك“،وبالبرتغالية “في أبريل آلاف المياه”، وبالإيطالية “الربيع هو موسم الحب”، وبالهولندية “ربيع جديد صوت جديد”، وباليابانية “نصف ساعة في مساء الربيع تساوي ألف قطعة ذهب”، وبالروسية “للحروف الحسنى صوت مثل يوم ربيعي”، وبالصينية “في الربيع يكون هناك أوركيد”، وبالكورية “البرد يحسد الزهرة”[3].