ألف ليلة وليلة.. ما جرى في حكاية الملك قمر الزمان بن الملك شهرمان (الجزء الأول)
ثقافة أول اثنين:
يظل كتاب ألف ليلة وليلة نافذة للخيال لا تنضب، ويواصل الكتاب وصناع الأعمال الإبداعية والفنية النقل منه والتأثر به، ومن ذلك مسلسل جودر الذي أنتجته الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، ومن أشهر قصص ألف ليلة وليلة والتي لها شهرة واسعة قصة “الملك قمر الزمان بن الملك شهرمان” والتي سنقرأها معا:
فى الليلة الأولى بعد المائتين قالت:
بلغنى أيها الملك السعيد أنه كان فى قديم الزمان ملك يسمى شهرمان صاحب عسكر وخدم وأعوان إلا أنه كبر سنه ورق عظمه ولم يرزق بولد فتفكر فى نفسه وحزن وقلق، وشكا ذلك لبعض وزرائه وقال: إنى أخاف إذا مت أن يضيع الملك لأنه ليس لى ولد يتولاه بعدى، فقال له الوزير: لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً فتوكل على الله أيها الملك وتوضأ وصل ركعتين ثم جامع زوجتك لعلك تبلغ مطلوبك، فجامع زوجته فحملت فى تلك الساعة ولما كملت أشهرها وضعت ولداً ذكراً كأنه البدر السافر فى الليل العاكر فسماه قمر الزمان وفرح غاية الفرح وزينوا المدينة سبعة أيام ودقت الطبول وأقبلت العشائر وحملته المراضع والدايات وتربى فى العز والدلال حتى صار له من العمر خمس عشر سنة وكان فائقاً فى الحسن والجمال والقد والاعتدال.
وكان أبوه يحبه ولا يقدر أن يفارقه ليلاً ولا نهاراً فشكا الملك شهرمان لأحد وزرائه فرط محبته لولده وقال: أيها الوزير لأنى خائف على ولدى قمر الزمان من طوارق الدهر والحدثان وأريد أن أزوجه فى حياتى.
فقال له الوزير: اعلم أيها الملك إن الزواج من مكارم الأخلاق ولا بأس إن تزوج ولدك فى حياتك فعند ذلك قال الملك شهرمان: على بولدى قمر الزمان فحضر وأطرق رأسه إلى الأرض حياء من أبيه فقال له أبوه: يا قمر الزمان اعلم أنى أريد أن أزوجك وأفرح بك فى حياتى، فقال له: اعلم يا أبى أننى ليس لى فى الزواج وليست نفسى تميل إلى النساء لأنى وجدت فى مكرهن كتباً بالروايات وبكيدهن وردت الآيات وقال الشاعر:
فإن تسألونى بالنساء فإنـنـى خبير بأحوال النسـاء طبـيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله فليس له فى ودهن نصـيب
ولما فرغ من شعره قال: يا أبى إن الزواج شىء لا أفعله أبداً، فلما سمع السلطان شهرمان من ولده هذا الكلام اغتم غماً شديداً إلى عدم مطاوعة ولده قمر الزمان له، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
2
فى الليلة الثانية بعد المائتين قالت: بلغنى أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان لما سمع من ولده هذا الكلام صار الضياء فى وجهه ظلاماً واغتم على عدم مطاوعة ولده قمر الزمان له ومن محبته له، ولم يكرر عليه الكلام فى ذلك ولم يغضبه، بل أقبل عليه وأكرمه ولاطفه بكل ما يجلب المحبة إلى القلب، كل ذلك وقمر الزمان يزداد فى كل يوم حسناً وجمالاً وظرفاً ودلالاً فصبر الملك شهرمان على ولده سنة كاملة حتى صار كامل الفصاحة والملاحة وتهتكت فى حسنه الورى وصار فتنة للعشاق وروضة للمشتاق عذب الكلام يخجل فى وجهه بدر التمام صاحب قد واعتدال وظرف ودلال كأنه غصن بان أو قضيب خيزران ينوب خده عن شقائق النعمان وقده عن غصن البان ظريف الشمائل كما قال فيه القائل:
فلما تكاملت سنة أخرى لقمر الزمان ابن الملك شهرمان دعاه والده إليه وقال له: يا ولدى أما تسمع مني؟ فوقع قمر الزمان على الأرض بين يدى أبيه هيبة واستحى منه وقال له: يا أبى كيف لا أسمع منك وقد أمرنى الله بطاعتك وعدم مخالفتك، فقال له الملك شهرمان: اعلم يا ولدى إنى أريد أن أزوجك وأفرح بك فى حياتى وأسلطنك فى مملكتى قبل مماتى فلما سمع قمر الزمان من أبيه هذا الكلام أطرق رأسه وقال: يا أبى هذا شيء لا أفعله أبداً ولو سقيت كأس الردى وأنا أعلم أن الله فرض على طاعتك فبحق الله عليك لا تكلفنى أمر الزواج ولا تظن أنى أتزوج طول عمرى لأننى قرأت فى كتب المتقدمين والمتأخرين وعرفت ما جرى لهم من المصائب والآفات بسبب فتن النساء ومكرهن غير المتناهى وما يحدث عنهن من الدواهي.
فلما سمع شهرمان من ولده قمر الزمان هذا الكلام، لم يرد عليه جواباً من فرط محبته وزاد فى إنعامه وإكرامه وانفض ذلك المجلس من تلك الساعة، وبعد انفضاض المجلس طلب شهرمان وزيره واختلى به وقال له: أيها الوزير. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
3
فى الليلة الثالثة بعد المائتين قالت: بلغنى أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قال لوزيره: قل لى ما الذى أفعله فى قضية ولدى قمر الزمان؟ فإنى استشرتك فى زواجه قبل أن أسلطنه فأشرت على بذلك وأشرت على أيضاً أن أذكر له أمر الزواج فذكرته له فخالفنى فأشر على الآن بما تراه حسناً؟ فقال الوزير: الذى أشير به عليك الآن أيها الملك أن تصبر عليه سنة أخرى فإذا أردت أن تكلمه بعدها فى أمر الزواج فلا تكلمه سراً ولكن حدثه فى يوم حكومة يكون جميع الأمراء والوزراء حاضرين وجميع العساكر واقفين فإذا اجتمع هؤلاء فأرسل إلى ولدك قمر الزمان فى تلك الساعة وأحضره فإذا حضر فخاطبه فى أمر الزواج بحضرة جميع الأمراء والوزراء والحجاب والنواب وأرباب الدولة والعساكر وأصحاب الصولة فإنه يستحى منهم وما يقدر أن يخالفك بحضرتهم.
فلما سمع الملك شهرمان من وزيره هذا الكلام فرح فرحاً شديداً واستصوب رأى الوزير فى ذلك وخلع عليه خلعة سنية فصبر الملك شهرمان على ولده قمر الزمان سنة كاملة وكلما مضى عليه يوماً من الأيام يزداد حسناً وجمالاً وبهجةً وكمالاً حتى بلغ من العمر قريباً عشرين عاماً وألبسه الله حلل الجمال.
ثم إن الملك شهرمان سمع كلام الوزير وصبر سنة أخرى حتى حصل يوم موسم، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
4
وفي الليلة الرابعة بعد المائتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان دعى الأمراء والوزراء والحجاب وأرباب الدولة والعساكر وأصحاب الصولة، ثم أرسل خلف ولده قمر الزمان فلما حضر قبل الأرض بين يديه ثلاث مرات ووقف مكتفاً يديه وراء ظهره قدام أبيه فقال له أبوه: يا ولدي إنني ما أحضرتك هذه المرة قدام هذا المجلس وجميع العساكر حاضرون بين أيدينا إلا لأجل أن أمرتك بأمر فلا تخالفني فيه وذلك أن تتزوج لأنني أشتهي أن أزوجك بنت ملك الملوك وأفرح بك قبل موتي.
فلما سمع قمر الزمان من أبيه هذا الكلام أطرق برأسه إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلى أبيه ولحقه في تلك الساعة جنون الصبا وجهل الشبيبة فقال له: أما أنا فلا أتزوج أبداً ولو سقيت كأس الردى واما أنت فرجل كبير السن صغير العقل، إنك سألتني قبل هذا اليوم مرتين غير هذه المرة في شأن الزواج وأنا لا أجيبك إلى ذلك، ثم إن قمر الزمان فك كتاف يديه وشمر عن زراعيه قدام أبيه وهو في غيظه فخجل أبوه واستحى حيث حصل ذلك قدام أرباب دولته والعساكر الحاضرين في الموسم، ثم إن الملك شهرمان لحقته شهامة الملك فصرخ على ولده فأرعبه وصرخ على المماليك وأمرهم بإمساكه فأمسكوه وأمرهم أن يكتفوه فكتفوه وقدموه بين يدي الملك وهو مطرق في رأسه من الخوف والوجل وتكلل وجهه وجبينه بالعرق واشتد به الحياء والخجل، فعند ذلك شتمه أبوه وسبه وقال له: ويلك … كيف يكون هذا جوابك لي بين عساكري وجيوشي؟ ولكن إلى الآن ما أدبك أحد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
5
وفي الليلة الخامسة بعد المائتين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شهرمان قال لولده قمر الزمان: أما تعلم أن هذا الأمر الذي صدر منك لو صدر عن عامي من العوام لكان ذلك قبيحاً منه، ثم إن الملك أمر المماليك أن يحلوا أكتافه ويحبسوه في برج من أبراج القلعة، فعند ذلك دخل الفراشون القاعة التي فيها البرج فكنسوها ومسحوا بلاطها ونصبوا فيها سرير قمر الزمان وفرشوا له على السرير طراحة ونطعاً ووضعوا له مخدة وفانوساً كبيراً وشمعة لأن ذلك المكان كان مظلماً في النهار، ثم إن المماليك أدخلوا قمر الزمان في تلك القاعة وجعلوا على باب القاعة خادماً، فعند ذلك طلع قمر الزمان فوق ذلك السرير وهو منكسر الخاطر حزين الفؤاد وقد عاتب نفسه وندم على ما جرى منه في حق أبيه حيث لا ينفعه الندم وقال: خيب الله الزواج والبنات والنساء الخائنات، فيا ليتني سمعت من والدي وتزوجت فلو فعلت ذلك كان أحسن لي من هذا السجن. هذا ما كان من أمر قمر الزمان.
أما ما كان من أمر أبيه فإنه أقام على كرسي مملكته بقية اليوم إلى وقت الغروب، ثم خلا بالوزير وقال له: اعلم أيها الوزير أنك كنت السبب في الذي جرى بيني وبين ولدي كله حيث أشرت علي بما أشرت فما الذي تشير به علي الآن؟ فقال له الوزير: أيها الملك دع ولدك في السجن مدة خمسة عشر يوماً ثم احضره بين يديك وأمره بالزواج فإنه لا يخالفك أبداً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
ونكمل ما جرى في القصة غدا…