وداعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه (10)
صفحات مضيئة من حياة الفاروق رضي الله عنه
وداعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه (10)
وها نحن نصل إلى ختام رحلتنا، فقد عِشْنا مع الفاروق مقتطفاتٍ يسيرةً من سِيرته العَطِرة، وكما هو حال الدنيا، فالأيام تمضي والأعمار تنتقص، والمؤمن الصادق يُختَم له بحسن الخاتمة، فكم تمنَّاها سيدنا عمر بن الخطاب ودعا ربه أن ينال الشهادة وحسن الخاتمة! فحجَّ في العام الذي قُتِلَ فيه، وسأل الله في حجَّتِه حسن الختام؛ فعن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: “أن عمر لما أفاض من مِنًى، أناخ بالأبْطَحِ، فكوَّم كومةً من بطحاء، وطرح عليها طرف ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم كبِرَت سِنِّي، وضعُفت قوتي، وانتشرت رعيتي؛ فاقبضني إليك غير مُضيِّعٍ ولا مُفرِّطٍ، قال سعيد: فما انسلخ ذو الحجة حتى طُعِن”؛ [حلية الأولياء (1/ 54)].
فلما كان فجر يوم الأربعاء، قبل نهاية شهر ذي الحجة بأربعة أيام كَمَنَ أبو لؤلؤة المجوسي في المسجد، ومعه سكين ذات طرفين مسمومة، فوقف عمر يعدل الصفوف للصلاة، فلما كبَّر يصلي بالناس، طعنه العبد في كتفه وفي خاصرته؛ فقال عمر: ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ [الأحزاب: 38]؛ [الطبقات (3/ 265)، والفتح (7/ 78)].
بكاء الصحابة وهم ينعَون عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
توقفتُ عند هذه الكارثة وأنا أقرأ في سيرته، فتألمت بشدة، فلقد كان مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاجعةً ليست ككل الفواجع؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان حصن الإسلام، ودرع الأمة، وبابًا وسدًّا منيعًا ضد الفتن، لكنه كُسِر بقتله؛ فخرجت الفتن على أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هكذا كنت أبكي وأنا أقرأ كلمات الصحابة وهي تَنْعَى عمر بن الخطاب ببكاء مرير، وكيف لا نبكي على صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف لا نبكي على رجل اتصف بالعدل والرحمة واللين والشدة؟ كيف لا نبكي على من سار مهتديًا ومقتديًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبصاحبه؟
لقد بكى سعيد بن زيد رضي الله عنه وقال: “على الإسلام أبكي، إن موت عمر ثَلَمَ الإسلام ثُلْمَةً لا تُرْتَقُ إلى يوم القيامة”.
وقالت أم أيمن رضي الله عنها يوم أُصيب عمر: “اليوم وَهَى الإسلام”.
وقال زيد بن وهب رحمه الله تعالى: “أتينا ابن مسعود، فذكر عمر، فبكى حتى ابتلَّ الحصى من دموعه، وقال: إن كان عمر حصنًا حصينًا للإسلام، يدخلون فيه ولا يخرجون منه، فلما مات عمر انْثَلَم الحصن؛ فالناس يخرجون من الإسلام”.
وقال حذيفة رضي الله عنه أمينُ سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما كان مَثَلُ الإسلام أيام عمر مثل امرئ مُقْبِل، لم يَزَلْ في إقبال، فلما قُتِلَ أدْبَرَ، فلم يَزَلْ في إدبار”.
وقال أنس رضي الله عنه: “ما من أهل بيت من العرب حاضر وبادٍ، إلا قد دخل عليهم بقتل عمر نقص”.
يستأذن عمر بن الخطاب عائشة رضي الله عنها أن يُدفَنَ مع صاحبيه:
أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه عبدالله إلى عائشة رضي الله عنها، قال: “انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليكِ عمرُ السلامَ، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدفَن مع صاحبيه”.
ما أعظم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم! فإنما قال ذلك لئلا تفهم عائشة أنه أمر، وهو الإمام وخليفة المسلمين، والإمام طاعته تكون واجبة، فترك لها الخيار، وطلب منها على سبيل الرجاء، وليس على سبيل الأمر.
فسلَّم عبدالله بن عمر واستأذن على عائشة، فوجدها قاعدةً تبكي، فقال: “يقرأ عليكِ عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يُدفَن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأُوثِرَنَّه به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبدالله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده ابن عباس إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذِنَتْ، قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهم إليَّ من ذلك، فإذا أنا قضيتُ فاحملوني، ثم سلِّم فقُل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذِنت لي فأدخلوني، وإن ردَّتني ردُّوني إلى مقابر المسلمين”.
هكذا كانت لحظاته الأخيرة التي تمنَّى فيها أن يجمعه الله بصاحبيه في الآخرة، كما كانوا معًا في الدنيا.
الآن بعد أن قرأنا قبسًا يسيرًا من سيرة الفاروق رضي الله عنه، أعتقد أن كلنا لدينا نفس السؤال، ماذا لو كان بيننا اليوم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ كيف ستكون حال الدولة الإسلامية الآن وهو خليفة المسلمين؟!
فهل عجزت الأمة أن تُنجب لنا رجلًا على شاكلته؟!
إن الحديث عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ماتعٌ شيِّق كالمطر الذي نزل على أرض جدباء، فأصبحت جنة خضراء، ولو طال بنا الحديث أكثر عن الفاروق ما شعرنا بملل أبدًا، فالحديث عنه يزيدنا رغبة في معرفته أكثر، يزيدنا رغبة أن ننعم بقربه.
فوالله كلما قرأنا سيرته، تمنَّينا أن يكون لكل أم وأب ابن بطل ورجل مثل عمر؛ فاللهم أعزَّ الإسلام بمن هم مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.