التنمية الاجتماعية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية
التنمية الاجتماعيَّة في مواجهة التَّحديات الداخلية والخارجية[1]
التمهيد:
يرتبط العمل الخيري على أنواعه بالعبادة والقربى إلى الله تعالى؛ طمعًا في الجزاء الأوفى من الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهو سلوك يتماشى مع الفطرة البشرية، وتنهجه كثيرٌ من المجتمعات المتدينة وغير المتدينة، مع اختلاف في الدوافع والبواعث والأهداف والتطويع، وإنما يقوم به المسلم لغايات أسمى وأرقى من الغايات الدنيوية السريعة والزائلة، كالثناء والشهرة والخصم من الضرائب والوجاهة الاجتماعيَّة، ونحوها، فيقوم به من أجل تحقيق الإحسان والفلاح منهجًا للحياة الدنيا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77]، ولهذا يعد العمل الخيري من مقاصد الشريعة، ويدخل في الضرورة الأولى من الضرورات الخمس، التي منها الدين، ومن الدين حب الخير وفعله[2].
تنطلق تغطية العمل الخيري من منطلق الخفية المنضبطة في الأصل، هروبًا من هاجس الرياء والسمعة، دون الإخلال بالأبعاد المحاسبية والتدقيقية التي لا بد منها في كل زمان من خلال نظام محاسبي منضبط؛ فإن مِن السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِماله ما تنفق يمينه))[3]، ومع هذا فلا بأس من الإعلان إذا كانت النية ضرب المثل في البذل؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271].
كما تنطلق التغطية في العمل الخيري من منطلق إحساني يقوم على الرحمة؛ فهي ذات شمولية للإنسان والحيوان والبيئة، و((في كل كبد رطبة أجر))[4]، و((لا يرحم الله من لا يرحم الناس))[5]، ومِن الرحمة بذل الخير وتفريج الكربات وتنفيس الهموم، والتوسيع على من ضاقت عليه الدنيا، إلى درجات الإيثار مع الخصاصة؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
قال تعالى: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، وهي سنَّة كونية؛ حيث يرفع الله بعض الناس على بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا؛ قال تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32].
كما يدرك المسلم أن ما ينفقه من حلال ماله إنما هو تطهير وتزكية ورفعة لهذا المال مما يشوبه من درن، مع حرصه وتصميمه ألا يصيبه شيء من ذلك، بالإضافة إلى يقينه أن الإنفاق يزيد من ماله ولا ينقصه، وهو تطهير لنفس المنفِق من أن تطغى أنِ استغنَتْ؛ قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾ [العلق: 6 – 8]، وتطهير للمنفَق عليه الفقير والمحتاج من أن ينتابَه الحنَق والغَيرة من الغني.
ومن هنا تأتي عناية الأغنياء بالفقراء والمساكين وذوي الحاجة، من خلال عدد من المصارف التي تأتي الزكاة من أهمها؛ حيث تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء، كما في حديث معاذ بن جبل[6]، وهي لا تقل عن ربع العشر (2،5%) من المال بالضوابط الشرعية المعروفة لدى أهل الاختصاص، وتتمثل هذه العناية بهذه الفئة باتباع وسائل يفرضها الزمان والمكان.
مسؤولية الدولة:
تقع مسؤولية القيام بالعمل الخيري بالدرجة الأولى على الدولة المسلمة، ولا يهنأ بال المسؤول الأول فيها ومعاونوه حتى يطمئنوا إلى أنهم قد أعطوا هذا البُعد العناية الكافية وزيادة، وتنشئ الدولة من أجل تحقيق هذه المسؤولية الأجهزة التي تضطلع بها، ويرحم الله الأمة بضعفائها، ويعم الأمن والأمان والرخاء والاستقرار، ويُكفَى الناس – ومنهم الأغنياء – الشرور بما ينفقونه على المحتاجين، وإنما ترحمون بضعفائكم[7]، هذا عدا عن البركة والزيادة، ومن ثم ثواب الآخرة، والزكاة ليست منَّةً، بل هي فرضٌ، وركنٌ من أركان هذا الدين، التي بني الإسلام عليها[8].
يقول أبو محمد علي بن حزم الظاهري: “وفرضٌ على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكواتُ بهم، ولا فيءُ سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنُّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة”[9].
يعاضد القطاع الثالث (الهيئات والجمعيات والمؤسسات الخيرية والجمعيات التعاونية) الدولة في أداء هذه المهمة، وتستظل مؤسسات القطاع الثالث في أدائها بما تسنه الدولة من تنظيمات وضوابط تكفل تدفق العمل الخيري على مستحقيه، دونما عوائق إداريَّة أو كل ما يسبِّب إعاقة انسيابية العمل الخيري، وتنشأ علاقة تكاملية بين الدولة والقطاع الثالث، وعلاقة تكاملية أخرى بين رجال الأعمال “التجار” والقطاع الثالث، وعلاقة تكاملية ثالثة في هذا المجال بين الدولة والقطاع الأهلي، بحيث يمارس القطاع الثالث فيها كلها الوسيط أو الوكيل بين الدولة والتجار من جهة والمحتاجين والمستفيدين من جهة أخرى، وينظم ذلك كله ويراقبه القطاع الحكومي.
التَّحديات:
تنطلق هذه الوقفات حول التَّحديات التي تواجه العمل الخيري، سواء من داخل العمل الخيري أم من خارجه، منطلقًا تفاؤليًّا لا يغفل واقع العمل الخيري الإسلامي اليوم، كما لا يغفل ما يمكن أن يكون مستقبلًا غير واعد في أذهان بعض الناس، إلا أن التمحيص في غايات العمل الخيري العليا والسامية تفرض قدرًا عاليًا من التفاؤل؛ ذلك أن من يريد وجه الله تعالى والدار الآخرة ويحسن النية لا بد أن تخضع له العقبات، وتتلاشى أمام تصميمه المعوقات، كما لا بد في الوقت ذاته من أن يعمل هو على مواجهتها بحكمة وتؤدة بعد أن يوطن النفس على احتمال وقوعها، لا مجابهتها بما يزيد من تعقيداتها، ولا يحكم على قطاع مثل هذا بموجب ظروف آنية ليست موضوعية ولا معقولة؛ ولذا فلا تنتظر لها الديمومة، وإنما تتغير بتغير المؤثر الذي لا يدوم.
قال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53]؛ لذلك ومع السعي إلى الإحكام في الأنظمة والضوابط إلا أن الواقع التطبيقي قد يواجه عددًا من التَّحديات ذات القبول للمعالجة في الغالب، وربما تكون هذه التَّحديات – على قلتها – ملازمة للفعل نفسه، ويتوجب التعامل معها بإيجابية.
يمكن تقسيم هذه التَّحديات إلى نوعين رئيسين: فهناك تحديات داخل العمل الخيري نفسه، ثم داخل المجتمع المسلم، وأخرى خارجة عن العمل الخيري وخارجة عن المجتمع المسلم – كذلك – ولكنها موجهة إليه، والتَّحديات داخل العمل الخيري أعقد من التَّحديات الخارجة عنه؛ ذلك أن الذهن لا يتوقع حدوث عقبات في طريق بذل الخير، لا سيَّما من داخل المؤسسات الخيرية نفسها، وهو في الوقت نفسه يتوقع قيام تحديات خارجية، من دون أن يقبلها أو يتجاهل التعامل معها، تفرضها الطبيعة التنافسية والسباق نحو تحقيق غايات وراء العمل الخيري.
التَّحديات الخارجية:
التَّحديات الخارجة عن العمل الخيري متوقعة – كذلك – في ضوء الاستمرار في الحروب غير المسوغة، وما تخلفه من آثار بعيدة المدى، من حيث الضرر المباشر؛ كالفقر واليُتم والعجز والأمراض الظاهرة والباطنة، ووجود ما لا يقل عن مائة وعشرة ملايين (110،000،000) لغم يتربص بالأبرياء، ويقتل أكثر من ثمانمائة (800) شخص شهريًّا، في أربع وستين (64) دولة، 80% منها في المناطق الإسلاميَّة، ووجود ستة وثلاثين مليون (36،000،000) لغم مزروعة على أرض العراق مثلًا، ويدخل فيها انتشار المقذوفات غير المنفلقة، التي يعود بعضها إلى الحرب العالمية الثانية (1358 – 1364هـ الموافق 1939 – 1945م)، ووجود أكثر من تسعين ألف (90،000) لغم أرسلت للعراق منذ نشوب الغزو الأميركي الأخير فيها سنة 1424هـ/ 2003م وأكثر منها في أفغانستان؛ حيث بلغت الألغام المزروعة على هذه الأرض المنكوبة عددًا لا يقل عن مائتي ألف (200،000) لغم لا تزال تحصد الأرواح، دونما تفريق بين كبير وصغير وذكر وأنثى وإنسان وحيوان[10].
هذا بالإضافة إلى تنامي الكوارث “الطبيعة” والنوازل؛ كالجفاف والفيضانات والزلازل والأعاصير، ووجود ما لا يقل عن خُمُس العالم (واحد من خمسة أو 20%) يجوعون يوميًّا، ولا يزيد دخل الواحد منهم عن دولار واحد (حوالي 3،75 ريال) باليوم الواحد، ويقدر عدد هؤلاء بثمانمائة مليون (800،0000،000) نسمة[11].
الخوف من الإسلام:
والتَّحديات الخارجية الموجهة إلى العمل الخيري الإسلامي متوقعة – أيضًا – في ضوء تنامي الإسلام واستمرار انتشاره، ووجود حال من التصدي الأجنبي لهذا التنامي؛ بدافع الخوف من الإسلام Islamphobia، وأنه أضحى الخطر الأول بعد أفول الشيوعية وتفتيت الاتحاد السوفييتي راعي الشيوعية الأول، وخُلو الساحة العالمية من عدو مصطنع[12].
وموضوع الخوف من الإسلام – أو خطر الإسلام – موضوع مصطنع ولادته في الغرب، وأسهمت الصِّهْيَونية العالمية بقسط كبير من صناعته[13]، وسعت إلى تصديره للعالم الإسلامي، بحيث أصبح بعض المسلمين يخافون من الإسلام، ومن ثم يسعون إلى طمس هويتهم الإسلاميَّة ويبتعدون عن أي نشاط يرتبط بالإسلام[14].
يأتي مفهوم الخوف من الإسلام هنا من منظور أنه أحد التَّحديات التي تواجه العمل الاجتماعي الخيري، ضمن منظومة السعي إلى الحد من انتشاره، بما يصل إلى اتهام الجهود الخيرية بتمويل الإرهاب، بحيث أضحت الهيئات والجمعيات والمؤسسات الخيرية الموجهة إلى الخارج في عيون أولئك منظمات إرهابية أو ممولة لتنظيمات إرهابية[15]، وبحيث أضحى هناك أبرياء يتنامَون في العدد هم ضحايا الحرب المزعومة على الإرهاب[16].
يؤكِّد هذا القولُ أن العمل الخيري الإغاثي يفضي إلى عمل دعوي، وأن هناك ارتباطًا قويًّا بين الإغاثة والدعوة، كما الارتباط بين الإغاثة والتنصير، فكان من المتوقع العمل على ربط العمل الخيري الإسلامي بالإرهاب، ومن ثم شن الحروب على العمل الخيري الإسلامي، الذي بدأ ينافس على الساحة الخيرية الإنسانية، بتهمة تمويل الإرهاب، فيذهب الضعفاء والمساكين والفقراء ضحايا حقيقيين لهذه الحروب[17].
ومعظم ضحايا الحروب الحديثة هم من الضعفاء الأبرياء الذين لا يوافقون على أن تكون ديارهم ميادين للصراعات الدولية وتحقيق النفوذ وفرض الهيمنة، بل وتسويق السلاح وتنمية صناعاته وتقنياته، وذلك في ضوء التجاوزات غير الإنسانية لآداب الحروب، والمخالفات الصريحة للقوانين الدولية الإنسانية، مع تقصيرها عن بلوغ البُعد الإنساني في أخلاقيات الحروب بالمقارنة بالمفهوم الإسلامي للحرب والجهاد[18].
الخوف من الجهاد:
ولو علم الآخرون الخائفون من الجهاد المعنى المقصود الشامل والواسع والشرعي المؤصل للجهاد الذي أوصله ابن قيم الجوزية إلى ثلاثة عشر نوعًا للجهاد، في أربع مراتب هي: جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد الكفار وجهاد المنافقين، وتحت كل مرتبة منها عدد من المراتب الفرعية التي تبين المفهوم الأشمل لمصطلح الجهاد في الإسلام[19]، لو علم الآخرون بهذا المفهوم الشامل لطالبوا به بديلًا لما يتردد الآن من ضرورة المقاومة، التي لا تضمن بالضرورة آداب الجهاد وأخلاقياته[20].
وقد تدخل فيها عناصر تقوم في أدائها على الانتقام، وربما المعاملة بالمثل أو أقسى من ذلك، مع احتمال دخول حظوظ النفس في مجالات لا ينبغي أن يكون للنفس فيها حظوظ.
فهل تتحقق أهداف الحرب على العمل الخيري الإسلامي، أم أن السحر بدأ ينقلب على الساحر؟ لا يتصور أن أحدًا ما، أو جهة ما، تملك القدرة على الوقوف في مد العمل الخيري المراد به وجه الله تعالى والدار الآخرة؛ ولذلك تظهر لنا الأخبار بين الفينة والأخرى التي تنبئ عن انتصار الحق وظهور الصدق وتبرئة من سبق اتهامهم بأنهم محرضون على الإرهاب وداعمون له، بتمويلهم الهيئات والمؤسسات والجمعيات الخيرية بحسن نية وسلامة قصد.
ربما قيل: إن التَّحديات الخارجية أمام العمل الخيري الإسلامي المتمثل في الجمعيات والهيئات والمؤسسات الخيرية قد زادت وتفاقمت بعد أحداث يوم الثلاثاء 22/ 6/ 1422هـ الموافق 11/ 9/ 2001م في كل من نيويورك وواشنطون، والذي يظهر أن هذه التَّحديات قد بانت على السطح مع تلك الأحداث، وجرى التركيز عليها على اعتبار أنها هدف واضح لتقليص التأثير الإسلامي على الناس.
وقد كان هذا الموقف من الجمعيات والهيئات والمؤسسات الخيرية موجودًا قبل الأحداث، من خلال مزاحمة الجمعيات التنصيرية للجمعيات الإسلاميَّة في المجتمع المسلم، ونجاح الجمعيات الخيرية الإسلاميَّة، رغم تواضع مداخيلها وأعمالها وإمكاناتها وأفرادها، وتذمر القائمين على الجمعيات التنصيرية من أن نتائج جهودها لا ترقى إلى إمكاناتها وأعمالها[21]، وإنما جاء هذا الحدث ليكون مسوغًا قويًّا للإعلان عن الوقوف في مسيرة المد الخيري الإسلامي الذي بدا منه أنه ينافس العمل التنصيري.
يقول محمد عبدالعظيم الجمل: “فمنذ نهاية حرب أفغانستان وهناك منظومة عالمية جديدة تدفع إلى إقصاء العمل الخيري الإسلامي من المحافل الدولية، فأصبحت كثيرٌ من الدول الإسلاميَّة تخشى من تنمية وتطوير مؤسساتها التطوعية الإسلاميَّة العالمية”[22].
يؤيد هذا الموقف من الجمعيات التنصيرية القول بأن لها دخلًا مباشرًا بالسياسة، وأنها ربما تكون مؤثرًا من مؤثرات الحروب؛ إذ كلما زادت الحروب والكوارث والنوازل أمكن لهذه الجمعيات والهيئات الانطلاق في الأماكن المنكوبة، وهي تريد هذا الانطلاق وتسعى إليه من دون أن يكون لها منافس، مهما قيل من توزيع الأدوار جغرافيًّا بين الجمعيات والمؤسسات والهيئات الخيرية، دون النظر إلى انتماءاتها الثقافية[23].
أوجَد هذا بدوره تنبُّهًا ووعيًا داخل المجتمع المسلم إلى أهمية العمل الخيري الإسلامي ووضوح تأثيره وضرورة انتشاره، وقطع الطريق على تلك الجهات المشبوهة، وساعد على ترسيخ مفهوم العراقة فيه، كما أوجد حالًا من التساؤل في المجتمعات غير المسلمة حول جدوى الوقوف في وجه العمل الخيري أيًّا كانت وجهته.
يشهد على هذا الوعي زيادة التبرعات للعمل الخيري المحلي 60% عن السنة التي أعقبت تلك الأحداث؛ فقد كانت التبرعات للجمعيات الخيرية المحلية قد وصلت إلى مليار (1،000،000،000) ريال سنة 1421هـ/ 2000م، وزادت إلى مليار وستمائة مليون (1،600،000،000) ريال للسنة التي تلت تلك الأحداث[24].
وبدليل الزيادة المطردة في أعداد الهيئات والجمعيات والمؤسسات الخيرية في المنطقة العربية، بحيث وصلت في حال المملكة العربية السعودية حتى تحرير هذه الخواطر إلى (760) جمعية ومؤسسة خيرية حتى تحرير هذا الكتاب[25]، هذا عدا عن الجمعيات المهنية التخصصية وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم ومكاتب توعية الجاليات، وهي بهذا تزيد عن 1300 جمعية، والعدد في تزايد في ضوء إدراك المسؤولين المعنيين لأهمية هذا المرفق في الإسهام في تنمية المجتمع ومساندة الدولة في جهودها لتحقيق الرفاه الاجتماعي.
وبدليل زيادة إعانات الدولة في حال المملكة العربية السعودية للجمعيات الخيرية (200%)، بحيث وصلت إلى ثلاثمائة مليون (300،000،000) ريال سنويًّا، بعد أن كانت ولمدة طويلة خلت مائة مليون (100،000،000) ريال سنويًّا، وكذا زيادة إرساليات الإغاثة السعودية للمناطق المنكوبة.
ويشهد على ذلك أن المملكة العربية السعودية – بوصفها نموذجًا لحالنا هذه – تنفق ما معدله 3،5 – 4% من الناتج المحلي العام على الإغاثة الخارجية سنويًّا، والمعدل الدولي في حدود 1%، وقد احتلت المملكة العربية السعودية المرتبة التاسعة بين الدول المانحة لعام 1428هـ/ 2007م، وكانت قد احتلت المرتبة الحادية عشرة لعام 1427هـ/ 2006م، وبلغ الإنفاق لعام 1428هـ/ 2007م ما يزيد عن مليار (1،000،000،000) دولار، ليضاف إلى ثمانية وثمانين مليار (88،000،000،000) دولار، يمثل مجموع المنح السعودية التراكمي[26].
وضوح هذه الرؤية وهذا التحدي في أذهان المسلمين يؤدي إلى المزيد من دعم العمل الخيري الإسلامي الموجه إلى الداخل والخارج، مع توخي الحذر والفطنة والكياسة، والتوكيد على إبعاد أي مؤثر للاتهام، ويتطلب هذا التطور المزيد من إجراءات الضبط التي تزيد من اطمئنان المتبرعين وتحافظ في الوقت ذاته على سيادة الدولة، وتحميها من الاستهداف الخارجي؛ بحجة تمويل الإرهاب، الأمر الذي لم تثبت صحته لا واقعًا ولا قانونًا، وهكذا هي طبيعة التَّحديات، حين ينقلب السحر على الساحر.
التَّحديات الداخلية:
إلا أن التَّحديات داخل العمل الخيري على ضعفها، بالمقارنة بالتَّحديات الخارجة عنه، فإن لها في النفس وقعًا أقوى، قال الشاعر:
وظُلْمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً
على النفس مِن وَقْع الحُسَام المُهنَّدِ
|
يقول الشيخ عبدالحميد كشك – رحمه الله تعالى – في أكثرَ مِن خطبة مِن خطب يوم الجمعة: “إنني لا أخافُ على الإسلام مِن أعدائه، إنني أخاف على الإسلام مِن أدعيائِه”.
وليست هذه التَّحديات بالضرورة من هذا النوع من الظلم والسيئات والادعاءات، فلا تهويل في ذلك ولا لجوء للتهوين من الذات “جلد الذات” في النظرة للعمل الخيري، ولا استسلام لعقد المؤامرة في هذا الشـأن[27]، والصورة الخيرية في المجتمع المسلم لا تزال فعلًا تنمو وتترعرع وتنافس، رغم العجز والتقصير، فلا تصادر الجهود المباركة التي تبتغي من ذلك كله وجهَ الله تعالى والدار الآخرة، وتسعى إلى تحقيق مفهوم عمارة الأرض والاستخلاف عليها.
من هذا المنطلق تأتي هذه الخواطر حول التَّحديات داخل العمل الخيري، التي ينبغي مواجهتها بحكمة ووضوح وشفافية في ضوء الأوضاع الدولية الراهنة، بالإضافة إلى الصبر وطول النفس والمضي في الأداء دونما إحباط، وهذه نماذج من التَّحديات الداخلية التي يواجهها العمل الاجتماعي عمومًا، والعمل الخيري خصوصًا:
1- ترسيخ العراقة:
من التَّحديات داخل العمل الخيري ما يدخل في مفهوم ترسيخ العراقة والأصالة في العمل الخيري، من حيث التركيز على مفهوم العمل المؤسسي في التراث الخيري الإسلامي، الذي لا يلقي بالًا للجهود الفردية القائمة على الاجتهادات الشخصية، بل يعتمد التَّنظيم في الأداء والإجراءات، ويعتمد كذلك على عمل الفريق من خلال مجالس الإدارات والفرق الاستشارية، وتوزيع الصلاحيات وتفويضها على الأقسام المعنية بوجوه نشاط العمل الخيري، ولنلتفت إلى تراث الأمة الخيري وما فيه من نماذج مضيئة تحتذى.
أوضح مثال على ذلك – مع كثرة الأمثلة والنماذج – ما حل بالمسلمين في السنة الثامنة عشرة من الهجرة زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذلك العام الذي سُمِّي بعام الرمادة ودامت الحال فيه تسعة أشهر انتشر فيها – لا سيَّما في الأرياف والبراري – الجدب والقحط والجوع والمرض، ولو لم يرفع الله تعالى بمنِّه وكرمه المَحْلَ عن المسلمين لظن الناس أن يموت عمر هَمًّا بأمر المسلمين، كما يقول أسلم في طبقات ابن سعد[28].
2- تنمية الموارد المالية:
من التَّحديات داخل العمل الخيري ما يدخل في مفهوم تنمية الموارد المالية، فلا يزال هذا الموضوع يشغل همَّ العاملين في المجال الخيري[29]، ويذكر أن موارد العمل الخيري الإسلامي الموجه للخارج لا تكاد تزيد عن عشرة مليارات (10،000،000،000) دولار في العام الواحد، بينما تتخطى التبرعات للكنيسة للسنة 1434هـ/ 2012م أربعمائة مليار (400،000،000،000) دولار، حسب النشرة الدولية للتنصير، وسيصل دخل الإرساليات الأجنبية العالمية (العاملة في الخارج) ثلاثمائة وعشرين مليار (320،000،000،000) دولار[30]، ولولا الله تعالى ثم ما يطرحه من بركة غير محسوبة بالأرقام في الصدقات، لكان المسلمون على حال هي أشد مما هي عليه الآن من الفقر والعَوَز والحاجة.
3- البُعد الإداري:
من التَّحديات داخل العمل الخيري ما يندرج في البُعد الإداري، من حيث التعامل مع المستفيدين والمستفيدات من منطلق ضعف الثقة وكثرة التحايل من قِبل بعض المستفيدين والمستفيدات، ما أدى إلى جعل الإجراءات الإداريَّة غايات لا وسائل[31]، فتكثر النماذج الورقية التي تحتاج إلى التعبئة، وتحتاج إلى المرفقات والطلبات الثبوتية، ويكثر تردد المستفيدين والمستفيدات على المنشأة الخيرية، ويحصل من ذلك عَنَت ونَصَب، فيما له معالجة واضحة في كتاب الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 262].
الواقع أنه يحصل لبعض المستفيدين مَنٌّ وأذًى، ولا بد من معالجة هذا الوضع في ضوء هذه الآية الكريمة، وتبدأ معالجته بمواجهته والاعتراف بوجوده، ويستدعي هذا الموقف الاعتراف بوجود تجاوزات مِن بعض المستفيدين، يصل إلى حد التحايل على الضوابط، مما يزيد هذا الموقف تعقيدًا.
4- غير المستحقين:
من التَّحديات داخل العمل الخيري دخول غير المستحقين للعون بين المستحقين له، واختلاط الأمر على المنفذين، بل ربما شغل غير المستحقين مكان المستحقين، يثبت هذا توفير مئة وستة وثلاثين مليون (136،000،000) ريال خلال شهر صفر 1429هـ، من خلال إسقاط غير المستحقين، الذين بلغ عددهم تسعة آلاف وسبعمائة وثلاثًا وخمسين (9،753) حالًا، تم استبعادها من الضمان الاجتماعي في حال المملكة العربية السعودية في ذلك العام، وعادت هذه المبالغ لمستحقيها، كما صرح بذلك الأستاذ محمد بن عبدالله العقلا وكيل الضمان الاجتماعي بوزارة الشؤون الاجتماعيَّة بالمملكة العربية السعودية[32]، ومن ذلك مقاضاة من يثبت عليهم أنهم يتسلمون مخصصات لا يستحقونها، وذلك تطبيقًا لنظام الضمان الاجتماعي المحدث[33].
يمكن مواجهة هذا الخلل بتفعيل بعض مواد نظام الضمان الاجتماعي بشأن من يتسللون ليأكلوا ما هو مخصصٌ لذوي الحاجة، والنظام يفرض استرداد المبالغ المصروفة من دون وجه حق، كما يفرض غرامات على مَن أخذ ذلك بعلم[34].
كما يستدعي هذا – في سبيل المواجهة – وجوب الحذر في الإسهام في تقديم خدمات العمل الخيري، دون منٍّ ولا أذى، وفي التثبت من المستحقين وممن يعنى بهم من ذويهم ممن نصبوا أنفسهم وكلاء عنهم، ربما أحيانًا من دون علمهم ودون تفويض منهم، بل ربما من دون وجودهم.
وهذا على وجوده فلا مبالغة أو تضخيم فيه – ولله الحمد، لكن دون تجاهل له في الوقت نفسه؛ فهو محدود في السيطرة عليه مقدور على ذلك، بوعي المواطنين ومتابعة الجهات الرسمية وحزمها في المتابعة من جهتها، ومن جهة ثانية حزم الجمعيات والمؤسسات والهيئات الخيرية أيضًا، وكشفها لبعض الحالات التي تسيء للعمل الخيري، ووضع اللوائح والضوابط التي تحكم ذلك؛ تطمينًا للباذلين وتوطينًا لهم على المضي في بذل الخير، وضمانًا لعدم دخول عناصر تسيء للعمل الخيري.
5- زيادة أعداد المستحقين:
من التَّحديات – داخل العمل الخيري – زيادة أعداد المستحقين للمساعدات والإغاثة، في ضوء الموجة العالمية لغلاء السلع، لا سيَّما مع الهزة الاقتصادية التي مرت بالعالم في شهر رمضان المبارك من سنة 1429هـ/ سبتمبر 2008م، وما ينتج عنها من إفلاس شركات ومؤسسات مالية وخدمية وتسريح العمال، وفي الوقت نفسه تحول بعض السلع من الكمالية إلى الضرورية، وفي ضوء كثرة الأطروحات الفكرية التي تنزع إلى القياس المادي والركون إليه والتعلق به، بحيث أضحى له أثر على العقيدة والإيمان الصافي، الموقن بأن البركة في القليل، وأن الرازق هو الله تعالى وحده، من دون تواكل أو اتكال على غيره – سبحانه وتعالى – ولذلك فهو المستحق وحده للإفراد بالعبادة والدعاء والاستسقاء والشكر الذي تزيد به النعم.
6 – زيادة السكان:
يدخل في تحدي الزيادة في أعداد المستحقين الزيادة في أعداد السكان المسلمين، ففي حين يصل عدد المسلمين اليوم إلى أكثر من مليار وستمائة مليون (1،600،000،000) نسمة لهذه السنة 1434هـ/ 2013م، يتوقع أن يزيد العدد إلى ما يفوق المليار وثمانمائة وواحدًا وستين مليون (1،861،186،000) نسمة بحلول سنة 1445هـ/ 2025م – بحول الله تعالى – وهذا مؤشر جيد لتكاثر المسلمين وتضاؤل غيرهم[35]، إلا أنه يقتضي – من الآن وفي سبيل المواجهة – العمل على التصدي لما قد يصحبه من الحاجة الظاهرة، دون تعارض مع التوكل على الله تعالى في كل شيء بما فيه الرزق، فلا تنافي بين اتخاذ الأسباب بالتخطيط بعيد المدى والتوكل على الله تعالى.
7- تعفف المستحقين:
من التَّحديات داخل العمل الخيري – مع زيادة عدد المستحقين لوجوه العمل الخيري – ما يدخل في تعفف كثير من المستحقين عن السؤال المباشر؛ قال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273]، وفي المقابل ضعف التنبه إلى شعار: “لا تصل إلينا، نحن نصل إليك” من قِبل الباذلين للخير والعاملين عليه، على غرار ما قام به الخلفاء الراشدون أنفسهم في الصدر الأول للإسلام؛ إذ تذكر سيرة الصِّدِّيق والفاروق – رضي الله عنهما – أنهما كانا يحملان القوت إلى المستحقين في جُنْح الليل، فلا يعلم بهما أحد، وعلى غرار التجرِبة الحديثة الرائدة التي يقوم بها المستودع الخيري بالمدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية وغيره من الجمعيات الخيرية في المنطقة، وعليه لا بد من الوصول إلى المستحقين في مواقعهم.
8- ضعف مفهوم التطوع:
من التَّحديات – داخل العمل الخيري – ضعف تفعيل مفهوم التطوع الفردي، ومن ثم ضعف العمل التطوعي المؤسسي، ومن يتطوع قد لا يلتزم بالمهمات التي تطوع من أجلها والتزام بالوقت في أدائها، وربما يأتي هذا من ضعف ثقافة التطوع في المجتمع وسلوكياته من جهة[36]، وضعف تمكن المتطوع نفسه من معرفة هذه الخدمة ومهاراتها من جهة أخرى، فتؤدي هذه المعرفة والمهارة القاصرة إلى مفاسد ظاهرة، وإن خلصت النية[37]؛ إذ لا بد من التذكير بما سبقت الإشارة إليه من توافر عنصرين في أي عمل يراد به وجه الله والدار الآخرة: الإخلاص والصواب، ويدخل هذا التحدي في حيز تنمية الموارد البشرية[38].
9- ضعف مفهوم الاستثمار:
من التَّحديات – داخل العمل الخيري – ضعف مفهوم الاستثمار في أملاك جهات العمل الخيري التي تحصل عليها من الصدقات والتبرعات والهبات والأوقاف، وذلك دون استثمار أموال الزكاة، لتوكيد بعض علماء الأمة على أن أموال الزكاة، وهي المورد المالي الأول للأعمال الخيرية في المجتمع المسلم، تصرف مباشرة ونقدًا، ولا تجوز فيها عند بعض العلماء مشروعات استثمارية، يصرف ريعها على الفقراء؛ لِما في ذلك من تأخير صرف الزكاة عن وقتها[39].
وهذا هو الأصل في الزكاة، ومع هذا فقد أجاز بعض العلماء صرفها في مشروعات “تعود على المستحقين بالنفع الأكثر والمستمر، كإنشاء مؤسسات تسد حاجات الفقراء والمساكين أو الطعام والشراب أو التعليم أو العلاج أو التأهيل النتاجي”[40]، وذلك بالتدريب والتأهيل والدخول في الأسواق بمشروعات صغيرة مدعومة مؤقتًا.
ليس هذا الموقف من الزكاة على أي حال معوقًا للعمل الخيري؛ إذ تظل الحاجة الآنية قائمة، وتغطيها أموال الزكاة.
10- التردُّد في دفع الزكاة:
يدخل في هذا المجال من التَّحديات ضعف تعاون بعض المواطنين مع المَعْنيين بجباية الزكاة، وربما التدليس في إعطاء أرقام حقيقية عن رؤوس الأموال والأرباح والعُروض والأملاك التي تجب فيها الزكاة، لا هروبًا من ركن من أركان الإسلام، ولكن خوفًا غير واقعي من عدم صرف الزكاة على أهلها، وهذا انطباع خاطئ يؤثر في تنمية الموارد المالية التي تصرف مباشرة على الأعمال الخيرية المباشرة عن طريق الضمان الاجتماعي في حال المملكة العربية السعودية، ولا بد من توضيح الصورة من قِبل المَعْنيين بهذا المرفق للخروج من هذا الانطباع الخاطئ.
ويمكن مواجهة هذا التحدي بزرع الثقة – عمليًّا – بالجهود الرسمية للدولة في جباية الزكاة وصرفها، وبالتكثيف من توعية المواطنين، لا سيَّما التجار منهم، والتوكيد على أن ما يجبى من الزكاة يصرف على المستحقين لها من أصنافها دون غيرهم، من خلال صندوق الضمان الاجتماعي بمؤسسة النقد العربي السعودي بالمملكة العربية السعودية، ويقتضي هذا التأكد من قبل الجمعيات الخيرية – دونما محاباة لأحد – من حاجة المستفيد، وأنه من أهل الزكاة، واستبعاد أي حالة غير داخلة في هذا الإطار؛ لئلا تسيء هذه الفئة غير المستحقة، بأخذها من أموال الزكاة دون استحقاق، لجهود الدولة في جباية الزكاة.
11- ضعف مفهوم الوقف:
مِن التَّحديات – داخل العمل الخيري – ضعف مفهوم الوقف العام أو الخيري في المجتمع المسلم الراهن إلى الآن، والأوقاف مورِد مهم من موارد العمل الخيري، ويشهد التراث العلمي والخيري الإسلامي بخاصة على قوة تفعيله، حتى شمل غيرَ المتخيَّل الآن من أعمال الخير[41].
ومع هذا، وفي سبل مواجهة هذا التحدي، فالوعي بأثر الوقف الخيري في تنامٍ مطرد – ولله الحمد والمنة – يتضح ذلك من خلال حملات التوعية بفوائد الوقف في الدنيا والآخرة، وذلك عن طريق وسائل التوعية مختلف، والتشجيع على تسجيل الأوقاف في الجهات المعنية بحفظها وتنميتها والإفادة من غلالها في أعمال الخير، وإعادة النظر في مسارها وتكوين مجالس عليا للأوقاف، وإعطاء محفزات لمن يدل عليها، واضطلاع الجامعات ودور العلم ومراكز البحوث والدراسات بإعادة هذه السنَّة الحسنة – التي لم تندثر كما يزعم البعض – من خلال الإكثار من الندوات والبحوث والدراسات العلمية الهادفة إلى تأصيل سنَّة الوقف الخيري العام[42].
12- ضعف مفهوم الاعتماد على النفس:
من التَّحديات – داخل العمل الخيري – ضعف مفهوم: “اذهَبْ واحتطِبْ وبِعْ”[43]، والاقتصار في تقديم الخدمة على البذل المباشر، مما رسخ – في ضوء ضعف هذا المفهوم – مفهوم ثقافة العطايا أو الأعطيات المباشرة من نقد وعين، فأوجد هذا الأسلوب في البذل قدرًا من الاتكالية، كما زاد من العزوف عن بذل الجهد في الكسب الحلال، من خلال العمل والكسب باليد، بمساعدة من مؤسسات الدولة المعنية بالتهيئة لسوق العمل، ومن مؤسسات العمل الخيري بالتدريب والقرض الحسن والمتابعة ودراسات الجدوى للمشروعات الصغيرة، لا سيَّما في الانطلاقة لدخول سوق العمل، وهذا خيرٌ للمرء من أن تجيء المسألة نكتةً في وجهه يوم القيامة، كما هو مضمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجه أبو داود في سننه وابن ماجه[44].
يدخل هذا الإجراء في الامتداد الرأسي للعمل الخيري من قِبل الجمعيات والمؤسسات الخيرية والضمان الاجتماعي، بحيث يشمل مصارف مختلفة وبرامج متنوعة ومشروعات مبتكرة، تهدف إلى اعتماد المرء على نفسه – بعد اعتماده على الله تعالى – ليصبح منفِقًا بعد أن كان ينفق عليه، كل ذلك من هذا المنطلق النبوي الشريف: “اذهب واحتطب وبِعْ”[45].
[1] أصل هذه الوقفة محاضرة ألقيت في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مساء يوم الثلاثاء 17/ 3/1 429هـ الموافق /3 / 2008م.
[2] انظر: أصول العمل الخيري في الإسلام في ضوء النصوص والمقاصد الشرعية، ص 25.
[3] من حديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله))؛رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد وابن حبان والطبراني والبيهقي.
[4] حديث شريف؛ أخرجه البخاري في صحيحه (2234)، ومسلم في صحيحه (2244).
[5] رواه البخاري،وعند مسلم: ((مَن لا يرحم الناس، لا يرحَمْه الله)).
[6] انظر: حديث صنعاء اليمن.
[8] من حديث: ((بُنِيَ الإسلام على خمس)).
[9] نقلًا عن: عبدالسلام الخرشي،فقه الفقراء والمساكين في الكتاب والسنة،بيروت: مؤسسة الرسالة، 1423هـ/ 2002م –ص 6،والنص من المحلى.
[10] يعود تاريخ زرع الألغام في العراق إلى الستينيات الهجرية – الأربعينيات الميلادية، مرورًا بالمناوشات العراقية الإيرانية سنة 1389هـ/ 1969م، ثم الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنين من سنة 1400هـ/ 1980م، ثم غزو حزب البعث في العراق للكويت سنة 1411هـ/ 1990م، ثم احتلال العراق من سنة 1424هـ/ 2003م.
[11] انظر: جيسيكا ويليامز، خمسون حقيقة ينبغي أن تغير العالم، بيروت: الدار العربية للعلوم، 1426هـ/ 2005م، ص 66 – 73 و 166 – 173).
[12] انظر: مصطفى الدباغ، الإسلام فوبيا lslamophopia عقدة الخوف من الإسلام، ط 2، عمان: دار الفرقان، 2001م/ 1422هـ، ص 11 – 12).
[13] انظر: التجاني بولعوالي، الإسلام – فوبيا صناعة صِهْيَونية تسوق في الغرب، القاهرة: مركز الحضارة العربية، 2008م، 112ص.
[14] انظر: فنسان جيسير، الإسلاموفوبيا: المخاوف الجديدة من الإسلام في فرنسا/ ترجمة محمد صالح ناحي الغامدي وقسم السيد آدم بله، الرياض: المجلة العربية، 1430هـ/ 2009م، 192ص،(سلسلة كتاب المجلة العربية/ الترجمة؛ 1).
[15] انظر: محمد بن عبدالله السلومي، القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب/ تقديم صالح بن عبدالرحمن الحصين، الرياض: مجلة البيان، 1424هـ، 618ص، (سلسلة كتاب البيان؛ 1).
[16] انظر: محمد بن عبدالله السلومي، ضحايا بريئة للحرب على الإرهاب، [لندن: المنتدى الإسلامي]، 1426هـ/ 2005م، 304ص، (سلسلة كتاب البيان؛ 63).
[17] انظر: محمد بن عبدالله السلومي، ضحايا بريئة للحرب على الإرهاب، المرجع السابق، 304ص.
[18] انظر: أحمد أبو الوفا، أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية: دراسة مقارنة مع القواعد الحالية للقانون الدولي الإنساني، القاهرة: دار النهضة المصرية، 1430هـ/ 2009م، 422ص.
[19] انظر: ابن قيم الجوزية، الإمام المحدِّث شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي، زاد المعاد في هدي خير العباد/ حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرناؤوط وعبدالقادر الأرناؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1399هـ/ 1978م، 3: 9 – 11.
[20] يوصي أبو بكر الصديق قائده أسامة بن زيد وجيش المسلمين بقوله: “يا أيها الناس، قِفوا أُوصِكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغدِروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة،وسوف تمرون بأقوام فرَّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا له”،انظر: أبا جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك/ تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف، 1962م، 3: 226 – 227،وانظر أيضًا: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2: 227،(سلسلة ذخائر العرب؛ 30).
[21] انظر: علي بن إبراهيم النملة،التنصير، المفهوم – الأهداف – المواجهة، مرجع سابق، 270ص،حيث يرد تذمر المنصرين أمام السموءل “صومئيل” زويمر من أن نتائج عملهم في تنصير العرب والمسلمين لا ترقى إلى الجهود التي يقومون بها، ولا الإمكانات التي يبذلونها.
[22] انظر: أحمد محمد عبدالعظيم الجمل، العمل التطوعي في ميزان الإسلام، مرجع سابق،ص 129.
[23] انظر: محمد السماك،الحوار الإسلامي، المسيحي في الألفية الثالثة، ص 69 – 88،في: خالد الكركي/ مراجع ومقدم،حوار الحضارات والمشهد الثقافي العربي،عمان: مؤسسة عبدالحميد شومان، 2004م،268ص.
[24] صرح بهذا الأستاذ ضيف الله البلوي المشرف العام السابق على الجمعيات والمؤسسات الخيرية بوزارة الشؤون الاجتماعية).
[25] أفادني بهذا د.عبدالله بن ناصر السدحان، وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية للتنمية الاجتماعية، الثلاثاء 23/ 8/ 1434هـ الموافق 2/ 7/ 2013م).
[26] حسب تقارير إدارة التعاون الدولي بوزارة المالية بالمملكة العربية السعودية.
[27] انظر: علي بن إبراهيم النملة، هاجس المؤامرة بين التهوين والتهويل، ط 2،بيروت: مكتبة بيسان، 1435هـ/ 2014م، 228ص.
[28] انظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى.
[29] انظر: مؤسسة الوقف الإسلامي، منطلقات نحو التميز في تنمية موارد العمل الخيري الإسلامي، مرجع سابق، 40ص.
[30] نقلًا: عن: Conwell Theological Seminary Gordon،International Bulletin of Missionary Research 13/ 3/ 1429h-21/ 3/ 2008g،وستصل التبرعات للكنيسة في سنة 1445هـ/ 2025م (870) مليار دولار، كما سيصل دخل الإرساليات الأجنبية العالمية إلى (60) مليار دولار.
[31] انظر: أيمن بن إسماعيل يعقوب وعبدالله السلمي، إدارة العمل الخيري واستفادة المنظمات الخيرية التطوعية، مرجع سابق.
[32] انظر الصفحتين الأولى والثامنة من العدد 16397 من صحيفة المدينة السبت 7/ 3/ 1429هـ الموافق 15/ 3/ 2008م.
[33] انظر: نظام الضمان الاجتماعي.
[34] انظر: نظام الضمان الاجتماعي نص المادة.
[35] يبلغ عدد الكاثوليك لهذا العام 1429هـ/ 2008م (1،130،401،000) نسمة، والبروتستانت (386،644،000) نسمة، والأرثوذوكس (252،891،000) نسمة، والمستقلون (422،659،000) نسمة، والإنجيليون (82،708،000) نسمة، انظرlnternational Bulletin of Missionary Research نقلًا عن: Gordon – Conwell Theological Seminary 13/ 3/ 1429h – 21/ 3/ 2008g،وانظر أيضًا: باتريك ج.بوكانن، موت الغرب: أثر شيخوخة السكان وموتهم وغزوات المهاجرين على الغرب/ نقله إلى العربية: محمد محمود التوبة – راجعه: محمد بن حامد الأحمري، الرياض: مكتبة العبيكان، 1425هـ/ 2005م – 529ص.
[36] انظر: عبدالله أحمد اليوسف، ثقافة العمل التطوعي، دمشق: مركز الراية للتنمية الفكرية، 1426هـ.
[37] انظر: حامد سالم الحربي، ضوابط الخدمة التطوعية، مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 1418هـ.
[38] انظر: الفصل الثاني من الباب الأول.
[39] انظر: أصول العمل الخيري في الإسلام في ضوء النصوص والمقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص 156.
[40] انظر: عبدالسلام الخرشي، فقه الفقراء والمساكين في الكتاب والسنة، مرجع سابق، ص 234.
[41] انظر: عبدالعزيز بن إبراهيم العمري، الوقف في عهد الراشدين، مرجع سابق، 43ص.
[42] ومنها: ندوة مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية، المنعقدة في مكة المكرمة في 18 – 19 شوال من سنة 1420هـ،مرجع سابق.
[43] من منطوق حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
[44] من منطوق حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
[45] من منطوق حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.