تنمية العمل الاجتماعي: الإصلاح والمعاملة الإصلاحية
تنمية العمل الاجتماعي: الإصلاح والمعاملة الإصلاحية[1]
التمهيد:
هذه وقفات تعبر عن وجهة نظر صاحبها، ولا تدعي أنها تقوم على أسس علمية اختصاصية، أسهم بها تلبية لدعوة كريمة مشكورة من المسؤولين في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية بدولة المقر المملكة العربية السعودية، كما لا يفوتني أن أشكر القائمين على الغرفة التجارية الصناعية بمحافظة جدة التي احتضنت هذه الندوة حول الإصلاح الاجتماعي.
ويتركز النقاش في هذا الفصل على العاملين والعاملات في مجال الإصلاح الاجتماعي من الفنيين والفنيات والاختصاصيين والاختصاصيات وغيرهم من العاملين المتعاملين مباشرة مع نزلاء هذه الدور، لا سيَّما في دور الملاحظة ورعاية الفتيات ودور التوجيه، من دون التعرض المباشر لمن يراد إصلاحهم، إلا ما يقتضيه الطرح في كونهم هم المستهدفين من الإصلاح؛ ذلك أن الباحث يشعر بأن هذه الفئة المهمة تفتقر إلى التركيز بالاعتراف بما تقوم به من جهود، وما تمر به من معاناة يومية مع المستهدفين، تتفطر لها القلوب في معظم الحالات، ومع هذا يراد من هذه الفئة من المصلحين والمصلحات أن يكونوا دائمًا في أحسن الأحوال، وألا يبدر عنهم أي رد فعل طبيعي تجاه المخدومين والمخدومات، وأن يقللوا من التشكِّي وكثرة الطلبات.
التنظير:
إن الحديث عن الإصلاح من الجانب التنظيري أيسرُ مِن أن ينبري لها ذوو العلم والاختصاص، وكل يملك زمام هذا التوجه، حتى أولئك الذين يقضون عقوبة لجنحة ما يملكون القدرة على التنظير، بعد قضائهم المدة العقابية وعودتهم إلى المجتمع ليبدؤوا رحلة إصلاحية، يسعون فيها إلى ألا يقع أحدٌ في مثل ما وقعوا فيه، فيكون فيه شيء من الاندفاع رغبةً في الإقناع، وربما المبالغة في ذلك، مدفوعين بضخ عاطفي قوي، يبرز عندما يعودون إلى الصواب ويعملون في سلك الإصلاح، على اعتبار أنهم أو أنهن أصحاب تجرِبة مريرة يسعون إلى تجنيب المجتمع منها.
ورغم ما لهذا البُعد من أهمية من حيث التأثير حين يتحدثون للجانحين أو المقبلين على الجنح بلغة يفهمونها، فإنه لا ينبغي المبالغة في هذا البعد، بحيث – ودون إدراك مباشر – نصنع من هذه الفئة أعلامًا تدفع بعض اليافعين إلى التهوين من الولوج في هذا الطريق، ما دام سينتهي بهم إلى الشهرة والوجاهة الاجتماعيَّة.
يتضح هذا جليًّا لدى بعض أولئك المشاهير من أهل الأعمال سريعة الشهرة كالفن والطرب والرياضة، الذين يقعون في وحل الفساد الأخلاقي بأنواعه، ثم يتوبون ويعودون، فتتلقفهم المنتديات والإعلام والفضائيات، وتتيح لهم المجال واسعًا للخوض في قضايا اجتماعيَّة والتنظير فيها، وربما يخوضون في قضايا شرعية ويتولون التنظير فيها، وربما الخروج بآراء أو فتاوى غير مؤصلة، مِن دون أن يكون لديهم السلاح العلمي والفقه في الأمور، الذي يقابلون به المشكلات، وهم بهذا يزيدون من المشكلة في الوقت الذي يظنون أنهم يسهمون في حلها.
الدراية:
الذي يظهر أن العاملين والعاملات في مجال الإصلاح الاجتماعي من المشرفات الاجتماعيات والمراقبات والفنيات الميدانيات على دراية بهذا المسلك التنظيري، بل يعانون ويعانين من معاناة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولولا عنصر الاحتساب والهاجس الوطني والرغبة الذاتية في الإصلاح لدى كثير منهن، لَمَا بقيت واحدة منهن تعمل في هذا المجال من منطلق إصلاحي، ولخلا الجو إلى فئة من المتسلطات اللائي يشبعن نزعة في ذواتهن تصل إلى مستوى السادية، دونما النظر بالضرورة إلى عنصر الإصلاح، وهذه الفئة هي التي تزيد الطين بِلَّة، وتخرج عناصر قابلة للعود مباشرة، ومن لا تعود مباشرة تستمر في الغَواية والإفساد في المجتمع، بعد أن تعلمت في الدار “تكنيكات” و”تكتيكات” جديدة عليها، فتصبح الدار مركز تدريب على الغَواية والفساد.
ومن هنا تأتي الدعوة إلى العزل بين النزيلات، بوضعهن في عنابر مفصول بعضها عن بعض، وإن احتواها سور واحد ودار واحدة، ويكون العزل إما بحسَب الجُنحة وهذا سهل، أو بحسب الفئات العمرية، وهذا سهلٌ أيضًا، أو بحسب القابلية للعلاج وتوفُّر الإرادة له لدى النزيلة، وهذا أصعب من ذاك وذاك، أما دمج النزيلات في الدار على أي حال من دون تفريق فلا ينتظر منه أن يسهِّل من مهمات العاملات الإصلاحية، ولا ينتظر منه أن ينتج نزيلات يخرجن إلى المجتمع ليعشن حياةً أسريةً سويةً.
المعاناة:
يعاني العاملون والعاملات في الدور الإصلاحية على مختلف مستويات العمل، من سوء أخلاقيات بعض النزلاء والنزيلات، وتعمُّدهم الإساءة باللفظ، وأحيانًا باليد للعاملين، وربما كانت الإساءة باللفظ أشدَّ وأنكى من الإساءة باليد، وكأن هؤلاء العاملين هم الذين جلبوهم إلى الدار، بينما واقع الحال أن العاملين هم الذين يتمنَّون ويدعون الله تعالى ألا يبقى في الدار نزيلٌ واحد، لا من أجل التخفُّف من أعباء العمل والتهرُّب من المسؤوليات، ولكن لأبعدَ من ذلك وأعمقَ؛ ذلك أن العامل في هذا المجال يتحرق على مستقبل النزلاء الذين يراد منهم أن يكونوا مواطنين صالحين يسهمون في بناء جيل صالح، ويشاركون في التنمية الاجتماعيَّة والإنسانية وعمارة الأرض، لا السعي في فسادها.
وعزاء العاملين في هذا كله أن إرادة الله تعالى اقتضت أن يستمر الصراع بين الخير والشر وبين الحق والباطل، وإن انتصر الخير والحق في الأخير، وأن يكون في المجتمع صالحون وصالحات ومصلحون ومصلحات، كما يكون فيه فاسدون وفاسداتٌ ومفسدون ومفسداتٌ.
وكل من الإصلاح والإفساد والصلاح والفساد، من حيث بداياتهما لا يتطلبان مزيد عناء، وإن كان الانطلاق في الفساد في بداياته أهونَ من الانطلاق في الصلاح، وقد يقتصر الصلاح أو الفساد على صاحبه فلا يتعداه إلى غيره، وهذا أهون وأخف الضررين؛ إذ إن في المسارين – على أي حال – ضررًا، وإنما يأتي العناء في اكتساب المهارات للإصلاح أو للإفساد.
والمعلوم لدى بني البشر أن الإفساد أيسر بكثير من الإصلاح، فما يبنى في وقت طويل يمكن أن يهدم في زمن يسير، ويصدق هذا على الواقع المادي المشاهد، وقد حققت تقنيات البناء الذي يدوم سنين أن يتم هدمه في دقائق؛ ولذلك قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: ((حُفَّتِ النارُ بالشهوات، وحُفَّتِ الجنةُ بالمكارهِ))[2].
المعالجة:
الإفساد والجُنوح وغيرهما أمراضٌ اجتماعيَّة موجودةٌ في كل عصر وأوان، ويقتضي ذلك عدمَ قبول هذه الأمراض أو السكوت عنها، دون السعي إلى معالجتها بأساليب تكفل الحد منها، وليس بالضرورة القضاء عليها؛ إذ إنها من حيث وجودها ملازمة للوجود الإنساني، وكم حلم الفلاسفة بوجود مجتمع فاضل نقي خالٍ من هذ المنغصات، إلا أن هذا المطلب يظل حُلمًا، والحياة لا تقوم على الأحلام والأمانيِّ والمثاليات غير القابلة للتحقيق على أرض الواقع، دون إغفال أنه يؤمَّل من هذه الدور أن تُنشَأَ لتقدم أفضل مستوى ممكن من العلاج، مع الأخذ في الحسبان التَّحديات المادية والإداريَّة والبشرية التي تواجه علاجًا مثاليًّا مطلوبًا من هذه الدور، والأمل هو عزاء مطلوب في هذه الحالات وغيرها، على حد قول الشاعر[3]:
أُعلِّلُ النفسَ بالآمالِ أرقُبُها
ما أضيَقَ العيشَ لولا فُسْحةُ الأملِ
|
مِن هنا تأتي الدعوة في هذه المعالجة إلى التذرع بالعلم والصبر والتحمل والرفق في المعاملة من قِبل العاملين والعاملات على مختلف مستويات العمل في الدار، وهذ مقومات ثلاثة مهمة جدًّا في أي عمل له علاقة مباشرة بالجمهور، ناهيك أن تكون الفئة “المخدومة” من هذا الطراز غير العادي، ويصحب هذا عوامل تعاملية مهمة؛ كالنزوع إلى التغاضي والتغافل والتجاهل والتسامح، وربما التغابي أحيانًا، ونحوها.
يتوج ذلك كله بتنمية المهارات في التعامل مع النزلاء والنزيلات من خلال التخصص الدقيق في العلم المراد؛ كعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعيَّة وعلم النفس والتربية، وربما قسط من علم الجريمة، ومن خلال المتابعة والإحاطة بتقنيات التعامل الإنساني مع الجانحين والجانحات، واستحضار الصور الشرعية المعنية بالتعامل مع هذه الفئة من النصوص والأفعال، وذلك من خلال التدريب المستمر والانخراط في اللقاءات وورش العمل والدورات، والقراءات والنقاشات مع المعنيين والمعنيات بهذا الشأن، وغيرها من وسائل تطوير الذات، بما في ذلك الخبرة والتجرِبة الميدانية.
سيتحقق ناتج هذه المقومات البنائية كلها مع هذه الفئة بصورة أوضح – بحول الله تعالى – لحاجة النزلاء والنزيلات إلى ما افتقدوه من رعاية واهتمام وحنان موزون لا يزيد ولا ينقص، ذلك الحنان القائم على ميزان: “لا إفراط ولا تفريط”.
التلفظ:
ربما تقتصر المعالجة أحيانًا على عبارات يطلقها العامل ينادي بها النزيل، وهذا نوع من أنواع العلاج، مثل “يا بني” “يا أخي” “يا بن الحلال” “يا حبيب” أو مجرد السماع وإعطاء الحالة قدرًا من الانتباه والإصغاء والتعاطف، قد لا يحسُبُ العامل في هذا المجال الإنساني الحساس لها حسابًا، وتكون سببًا – بإذن الله – في استقامته، ربما لأنه لم يسمعها بهذا الطرح وهذه النبرة من قبل، وإنما كان يسمع عبارات التهزئة والإهانات والتهميش والإساءات اللفظية والتقريع والشتائم، وربما الضرب والعنف والنظرات التي يتطاير منها الشرر، لا سيَّما في البيوت المتصدعة، أو البيوت التي يكون أحد أطرافها المؤثِّرين – كالأب أو الأم – على قدر من القسوة غير المرشدة، أو يكون الأب في الغالب أو الأم في النادر ممن ابتُلِي بتعاطي الخمور أو المخدِّرات، والمصيبة الكبرى إذا اجتمع الأب والأم على ذلك، وليس هذا من الإصلاح في شيء.
لا يتعارض هذا الطرح المهني مع إعطاء قيمة إنسانية وشخصية وإداريَّة لهذا العمل النبيل، يتوافق مع طموحات العاملين والعاملات في تحقيق الذات الوظيفية والاجتماعيَّة، من حيث السعي إلى الارتقاء الوظيفي والمكانة الاجتماعيَّة، بل إنه محفزٌ إلى الارتقاء الوظيفي، وليس بالنظر فقط إلى الاستحقاق للترقية بمجرد مضي المدة المرسومة نظامًا، ويتوافق هذا مع الطموحات المطلوبة في الشخص، على حد قول المتنبي:
إذا غامَرْتَ في شرَفٍ مَرُومِ
فلا تقنَعْ بما دونَ النُّجومِ
|
ويحكم هذا الجانبَ بالنسبة للعاملين والعاملات تقويمُ الأداء الوظيفي الذي يتوقع منه أن يكون موضوعيًّا بقدر الإمكان.
البُعد الإنساني:
ليس هناك في هذه الدنيا عمل أدقُّ مِن العمل مع الإنسان؛ أي التعامل الإنساني بين البشر في الأحوال العادية، فما بالك بهذا التعامل وهو يتعاطى مع فئة من البشر تحتاج إلى معاملة متميزة، وقد تكون غير عادية في التعامل الذي لا يقوم بالضرورة على “الحِنِّية” الزائدة أو الشفقة المبالغ بها، وإن كانت الشفقة من الدِّين، بل يقوم عليها الدِّين، كما هو مضمون كلام الإمام الرازي في قوله: “مجامع الطاعات: تعظيم أمر الله، والشفقة على خَلْق الله”، والإمام ابن تيمية في قوله: إن هذا الدِّين يقوم على “لزوم الحق، والرحمة بالخَلْق”، أو: “يعملون الحق، ويرحمون الخَلْق”[4].
أو يقوم بالمقابل على القسوة الزائدة أو الشماتة كذلك، وإذا كانت “الحنية” والشفقة مطلبًا في مواقف، فإن القسوة المعتدلة مطلب في مواقف أخرى، وربما للحالة الواحدة نفسها تتمثل الشفقة حينًا، وتبرز القسوة المعتدلة أحيانًا، على حد قول الشاعر، ولعله أبو العتاهية:
فقَسَا لِيَزدجروا، ومَن يَكُ حازمًا
فَلْيَقْسُ أحيانًا على مَن يرحَمُ
|
ناهيك عن أن تختص بـ: “الحنية” حالات، وبالقسوة حالات أخرى.
وأدعو القائمين على هذا الصرح العلمي العربي إلى تكرارها في البلاد العربية الأخرى، وإلى الإكثار من هذه الحلقات التي تهدف إلى تحقيق بعض أهداف مؤسسات المجتمع المدني الأكاديمية، مثل جامعة نايف للعلوم الأمنية، في مجال خدمة المجتمع العربي، وتحقيق بعض أهداف الغرفة التجارية الصناعية في مجال المسؤولية الاجتماعيَّة.
[1] خواطر مقدمة في الحلقة العلمية عن تنمية مهارات الأخصائيات والمراقبات بدور الرعاية الاجتماعية التي أقامتها جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية بجدة في المدة من 6 – 8/ 11/ 1429هـ الموافق 4 – 6/ 11/ 2008م.
[2] من حديث أنس بن مالك: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حُفَّتِ الجنةُ بالمكارِهِ، وحُفَّتِ النارُ بالشهوات))؛رواه مسلم وأحمدُ وغيرهما.
[3] البيت للطغرائي مؤيد الدين الحسين بن علي بن عبدالصمد (453 – 515).