Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

زكريا ويحيى عليهما السلام (1)


زكريا ويحيى عليهما السلام (1)

 

نتحدَّث إليكم عن رسولين كريمين من رسل الله المسارعين في الخيرات، الداعين إلى الله رغبًا ورهبًا، الخاشعين لله؛ وهُمَا زكريا ويحيى عليهما السلام، وقد أورد الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم ذكر زكريا ويحيى بعد سنين قليلة من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث صدَّر بهما سورة مريم، وقد نَزَلَتْ قبل هجرةِ جعفر بن أبي طالب ومن معه إلى الحبشة، كما أوردَ اللهُ تبارك وتعالى ذكرَ زكريا ويحيى في سورة الأنبياء، وهي مكيَّة أيضًا، كما ذكرهما في سورة الأنعام في جملة المرسلين، وسورة الأنعام من السور المكيَّة كذلك، كما ذكرهما الله تعالى في سورة آل عمران وهي مدنيَّة؛ وقد دار ذكرُهما في سورة مريم والأنبياء وآل عمران لإظهار قدرة الله تعالى على كل شيء، وأنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، وأن نواميسَ الكون تجري بإرادته لا بطبائعها؛ إذ هو ربُّ كل شيء وسيده ومليكه والمهيمن على شؤون عباده، يؤيِّد أولياءه، ويستجيب دعاءهم، وينصرُهم على أعدائهم، ويجعل العاقبةَ الحسنى لهم؛ ليثبت بذلك فؤاد رسول الله ومن معه من المؤمنين؛ إذ إنَّه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من غير أم، وخلق عيسى من غير أب، وأعطى إبراهيم ولدًا وهو شيخ كبير من زوجته العجوز التي تجاوزت سنَّ اليأس، ولا تحمل امرأة مثلها في العادة، كما أنه منح عبدَه الصالح زكريا ولدَه يحيى، وكان زكريا قد بلغ من الكبر عتيًّا، أي: قطع في الشيخوخة شوطًا كبيرًا، وقد وَهَنَ العظمُ منه واشتعل رأسه شيبًا، وهو مظهر من مظاهر تحوُّل الإنسان من القوة إلى الضعف؛ على حد قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾ [الروم: 54]، وعلى حد قول ابن دريد في مقصورته:

إمَّا ترَي رأسي حاكَى لونهُ
طرَّة صبحٍ تحتَ أذيالِ الدُّجى
واشتعلَ المبيضُّ في مسودِّهِ
مثلَ اشتعالِ النَّارِ في جمرِ الغَضَى

 

ومع أنَّ زكريا قد صار إلى هذه الحال من الكبر، فإنَّ زوجته كانت عاقرًا في شبابها، فلم تحمل أيام شبابها، وقد صارت عجوزًا تجمع بين السببين المنافيين للحمل عادة، والظاهر من سياق القرآن العظيم يشعر أن زكريا عليه السلام كان مشتغل القلب بذكر صلاح بني إسرائيل، وأنه كان يرى تعنُّتَهم كشأنهم مع الأنبياء والمرسلين، وأنه كان يخشى أن يشتدَّ انحرافُهم عن الصراط المستقيم بعد وفاته، وقد وَهَنَ عظمُه، وبلغ من الكبر عتيًّا، ولم يرَ في قومه من هو أهل لحمل الرسالة بعده، ونظرًا إلى أن زوجته كانت عاقرًا فمِن غير المعتاد أن تلدَ مثلها، فاهتمَّ بذلك اهتمامًا شديدًا، وقد كانت زوجته أخت مريم ابنة عمران والدة عيسى ابن مريم أو كانت خالتها، وقد مات والد مريم، وتخاصم بنو إسرائيل فيمن يكفلها بعد أبيها، واقترعوا على ذلك فوقعت لزكريا عليه السلام، فكفَّلها زكريا، ووضعها في قصره، وقد لاحظ عليه السلام أنه كلَّما دخل على مريم في مكانها من قصره ﴿ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]، وسرعان ما تداعت معاني هذه الحقيقة في نفسِه مع ما يتمناه من أن يمُنَّ الله عليه بولد صالح يسوس بني إسرائيل، وإن كانت أسباب ولادة ولد له من زوجته الصالحة هذه مفقودة؛ فهو شيخ كبير وامرأته عاقر، غير أن الرزق الذي منحه الله لمريم حرَّك في نفسه الأمل أن يرزقه الله ولدًا مع انقطاع الأسباب، فدعا ربه بصوت خافت، وقام يصلِّي في قصره، وقال في دعائه: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38]، وقال: ﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4]، وقد عوَّدتني أن تجيب دعائي ولم أكن بدعائك رب شقيًّا، وإني خِفْتُ وأشفقت على بني إسرائيل أن يفسدهم من يتولَّى أمرهم من بعدي، وكانت امرأتي في شبابها عاقرًا وأنت على كلِّ شيء قدير، فهب لي من عندك وامنحني ولدًا يرث النبوَّةَ والحكم من بعدي، كما يرث ذلك من آل يعقوب، واجعله رب رضيًّا، فنادته الملائكة وهو قائم يصلِّي في المحراب أن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى لم يجعل الله له من قبل سميًّا، يكون مصدقًا بكلمة من الله وسيدًا وحصورًا ونبيًّا من الصالحين، قال: كيف يجيئني الولد وأنا وزوجتي بهذه الحال؟! قال: كذلك الله يخلق ما يشاء، وقد خلقك الله من قبل ولم تك شيئًا، قد جئت إلى بطن أمك نطفة لا أثر فيها لصورة الإنسان.

 

فسأل الله عز وجل آيةً يعرف بها أن الولدَ قريبُ الحصول، قال: آيتُك أن تَعْجز عن النطق مدَّةَ ثلاثة أيام وأنت صحيحٌ سويٌّ، فخرج على قومه من المحراب؛ فأشار إليهم أن سبِّحوا اللهَ بكرة وعشيًّا، ومنحه الله يحيى، وسرعان ما شَبَّ يحيى عليه السلام وأعطاه الله الحكمَ صبيًّا، وتفضَّل الله عليه بمنح كثيرة، ومنحه السلام عند ولادته وعند موته وعند بعثه، وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة مريم:

﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 1 – 15].

 

وقال تعالى في سورة الأنبياء: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 89، 90].

 

وقال في سورة الأنعام: ﴿ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 85].

 

وقال في سورة آل عمران: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 37 – 40].

 

وقد ذكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن زكريا كان يَحترفُ النِّجارة؛ فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان زكريَّا نجارًا)).

 

وقد وَصَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى وعيسى بأنهما ابنا خالة؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم حدَّثهم عن ليلة أُسري به قال: ((ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، ولنعم المجيء جاء، قال: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال: هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت، فردَّا السلام، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح)).

 

هذا، وما ذكر عن يحيى عليه السلام بأنه كان لا قدرةَ له على المباشرةِ أخذًا من قوله تعالى: ﴿ وَحَصُورًا ﴾ [آل عمران: 39] فهو قولٌ لا دليل عليه، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريقٍ صحيح، وهو نقص في الرجولة ينزه الله أنبياءَه عنه، مع أن الحَصور يطلق على معانٍ كثيرة؛ إذ يستعمل في الذي لا يقوى على قربان النساء، وعلى الضيِّقِ الصدر، وعلى الذي يصونُ نفسه من الخطايا والدنس، وهذا الأخير هو اللائق بيحيى عليه السلام.

 

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى