ذكرى رحيل كوكب الشرق.. نص المكالمة الغامضة بين يوسف إدريس وأم كلثوم
ثقافة أول اثنين:
تحل اليوم ذكرى ميلاد كوكب الشرق أم كلثوم التي لا يأتي ذكرها دون لقبها “كوكب الشرق” لشدة ما أثرت ولكثير ما أضافت إلى فن الطرب فيما عرفه الكاتب الراحل كامل الشناوى بفن الانفعال وبما ابتكره يوسف إدريس من وحي غنائها مبتكرا مفهوم “الإقطاع الفني” معتبرا إياها النوع الوحيد من الإقطاع الذى حظى بالقبول في ظل ثورة يوليو وبروز المفاهيم الاشتراكية.
يقول يوسف إدريس في كتاب شاهد عصره عن أم كلثوم:
حين رأيتها تغني تذكرت قول شوقي في وصفها وهي تغنِّي:
حمامة الأيك مَنْ بالشدو صارحها ومَن وراء الدُّجى في الروض ناداها
ألقتْ إلى الليل جِيدًا نافرًا ورَنَت إليه أُذْنًا وحارت فيه عيناها
واستعدت قول كامل الشناوي عقب حفلتها الأخيرة التي أُذِيعت بالتليفزيون:
إنها لم تكن تغني؛ فالمغني هو الذي يؤدي اللحن كما أراده الملحن. لقد كانت منفعلة بالكلمات كأعظم ما يكون الانفعال. إن الملايين معها كانت تقشعر أجسادها وتنتفض كلما قالت: ثوار، ثوار، ولآخر المدى ثوار، لكأنها كانت تُعلن بقولها ثورةً، أو لكأنَّ ثورةً كانت تُعلِن عن نفسها من خلالها. كانت تقف ووراءها تراثنا الموسيقي تحميه وتذود عنه؛ القصبجي بالعود وسبعين عامًا، القصبجي الذي علَّم عبد الوهاب العود، وعبده صالح الذي يحبو إلى الستين على القانون، وإبراهيم عفيفي على الرق وقد ناهز السبعين هو الآخر، وكلهم يردون بالعزف وانبثاقات الانفعال، ثوار، ثوار.
فينقلبون إلى شبان في العشرين وحتى إلى فتوَّات. ماذا هذا؟ إنه لشيء معجز. إنه لإقطاع غنائي. إنه الإقطاع الغنائي الوحيد الذي تحتِّم الاشتراكية أن نُبقي عليه ونُنميه. حتى الكاميرا، خشعت ووقفت من بعيد كأنها تستمع.
وحين وجدت أننا جميعًا في حاجة لمعرفة رأي أم كلثوم في القوانين الثورية الجديدة، رأي تلك المعجزة التي وُلِدَت في السنبلاوين دقهلية من الفلاحين وبين الفلاحين المعدمين، رأيها وقد بدأت دولة الفلاحين وأصبح المحل الأول فيها للعاملين، رأيها في فنها، في أهداف الفن، فيها، في إحساسها وقد خسرت بعض النقود وكسبت كل الأرواح.
حين فكرت في هذا كله قررت أن أتصل بها في رأس البر، وتحمَّس الصديق مأمون للفكرة ورفع السماعة.
مأمون : آلو، سنترال، اديني رأس البر، مكالمة مستعجلة للسيدة أم كلثوم.
دقائق انتظار «للحقِّ لم تزد عن دقائق، لا بد أن مصلحة التليفونات قد مسَّتها الثورة بشعلتها» ثم دق الجرس.
عاملة التليفون : آلو، رأس البر، كلم.
(وأمسكت بالسماعة، ومن الأذن المعدنية سمعت الصوت): أنا أم كلثوم.
كان الصوت مفاجأة؛ فقد كان لفتاة في العشرين، جميل، أنثوي، فيه كل شباب البر، وأحلام رأس البر.
أنا : أريد أن أعرف رأي أم كلثوم في الثورة الجديدة.
أم كلثوم : وتريد أن تسمعه في التليفون؟ مش معقول، اللي حصل ده أعمق وأخطر من أن يبدي الإنسان فيه رأيه بالتليفون، أعظم تأييد وفرحة بهذه القرارات هو أن نفهمها بعمق عشان نمشي على هداها بعمق، مش معقول قرارات بتغير بناء المجتمع كله يصلح التليفون لمناقشتها.
ملحوظة: أدركت فعلًا أن الأمر غير معقول
أم كلثوم : إن شاء الله أنا جاية مصر ولازم نقعد قعدة طويلة أقدر أعبر لك فيها عن مش اللي انت عايزه وبس، إنما كمان عن كل اللي عايزة أنا أقوله، أنا عندي كلام كتير لازم أوصله للناس، أنا عايزة أشترك في تغيير بلدي مش بصوتي بس، وإنما كل واحد أو واحدة فينا لازم يجند نفسه، بكل ما يملك لإسعاد غيره.
أصوات تتداخل في الخط وكأنما دخل فيه وابور حرث، عاملات التليفون يتخاطبن خلال الضجة، كيف؟ لا أدري، خط آخر دخل علينا كالزوبعة وخرج تاركًا زوبعته، طنين هائل وكأن بركانًا تفجَّر في رأس البر، أيوه يا دمياط، آلوه، مائة آلوه قيلت، بعضها مني، وبعضها بأصوات غليظة، وبعضها يشبه حفيف الثياب على الثياب، وأنا ألعن هذا كله فقد أضاع مني أم كلثوم، كالراديو حين يفسد فجأة وسط حفلتها؛ لذلك ما كان أسعدني حين قلت آلوه مرة، فسمعت من الطرف الآخر أجمل آلوه
الطرف الآخر : آلوه، أيوه، أنا كنت بتكلم مع مصر دلوقتي.
أنا : آلوه واحنا كنا بنتكلم مع رأس البر، السيدة أم كلثوم؟
الطرف الآخر : أيوه، أنا، مش انتم …
(أنا ومأمون في نفس واحد، أنا إلى السماعة وهو إلى هواء الحجرة): أيوه احنا.
العاملة (متدخلة) : المدة انتهت.
نحن (في نفس واحد أيضًا) : ادينا مدة ثانية، وثالثة ورابعة، ادينا وصلة بحالها.
أنا : آلوه، كنا نريد أن نسألك بشأن الحفلة، هل رأيتها في التليفزيون؟
أم كلثوم : للأسف، رجعت ثاني يوم الحفلة، ولم أرَها.
أنا : لقد كانت ناجحة جدًّا، ولا بد أن تكرريها ولا تحرمي جمهور التليفزيون الذي يُعَدُّ بالملايين منك.
أم كلثوم : ألا يكفيهم الصوت؟
أنا : إن طريقة غناء أم كلثوم جزء لا يتجزأ من فن أم كلثوم، وحرمانهم منها جزء لا يتجزأ من حرمانهم من صوتها. لماذا لم ترضي عن الأغاني التي عُرِضَت عليك؟
أم كلثوم : لأن التصوير لم يكن كما يجب، لا بد أن تقف الكاميرا حيث يقف المستمع، أما في الأشرطة التي تُلتقط فالمصور كان كأنه يريد أن يصور أفكاري.
أنا : إذا رأيت الحفلة الأخيرة، وقطعًا سيسرُّك رؤيتها، هل توافقين على إذاعة الحفلات بعد هذا؟
أم كلثوم : بالتأكيد.
أنا : أزعجناك في مصيفك بالأسئلة.
أم كلثوم (بطيبة شرقاوية دقهلاوية؛ فالسنبلاوين تقع على الحدود الفاصلة بين الشرقية والدقهلية) : أبدًا.
العاملة (قبل أن نقول متشكرين) : المدة انتهت.
أنا : متشكرين.
أم كلثوم : إلى اللقاء في القاهرة حين أعود، أعدك بجلسة طويلة إن شاء الله.
أصوات مذكرة ومؤنثة وإنسانية وآلية كثيرة، مدافع وأزيز طائرات، سكون، طلقة أخيرة.
صوت العاملة : خلاص المكالمة يا جمهورية؟
أنا (وكلي أسف) : خلاص يا تليفونات.