الغلو في نظرية المؤامرة
الغلو في نظرية المؤامرة
الحمد لله خالقِ السماوات والأرضين وما بينهما، مُدبِّر الأمر كله، صغيره وكبيره، تفرَّد بالخلق والأمر والتدبير: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ [الرعد: 2]، ثم الصلاة والسلام الأتمَّان على خير مبعوث بالحق، نبينا محمد القائل: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء، قد كتبه الله عليك))، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فتُهرع الغالبية الساحقة من الناس إلى نظرية المؤامرة كحلٍّ سطحي وسريع لتفسير كثير من القضايا الصحية، والسياسية، والاجتماعية، والدينية، وغيرها، فالوباء صنعته أيادٍ خفية من أجل القضاء على أكبر عدد من البشرية، والزلازل التي حلَّت في المغرب وتركيا وسوريا كان سببها تفاعلاتٍ كيميائية من ورائها أيادٍ خفية، والفيضانات في ليبيا أيضًا كان سببها أياديَ خفية، وفشل الطالب في المدرسة كان سببه أيادي خفية، وإقصاء فريق معين في الدوري النهائي سببه أيادٍ خفية، وموت شخص مشهور في حادث سير وراءه أيادٍ خفية، وكل شخص يحمل تصورًا معينًا عن هذه الأيادي الخفية، وأيًّا كان ذلك التصور، فإنه يكمُن في طيَّاته تهديد عقدي قد يصل إلى الشرك الأكبر، إن المسلم العالِمَ بأسماء الله تعالى وصفاته يعلم أن الكون وما فيه تحت حكم الله وتدبيره، فالمدبر “هو العالم بأدبار الأمور وعواقبها، ومقدر المقادير ومجاريها إلى غاياتها، يدبر الأمور بحكمته، ويصرفها على مشيئته”[1]، فمن استقر في قلبه معنى هذه الصفة، تحاشى أن ينسُبَ التدبير لغير الله، ولَعَلِمَ أن أقصى ما تنفذه الأيادي المزعومة قضاءُ الله؛ خيرُه وشرُّه.
يَرُوج الكلام ويكثُر عن نظرية المؤامرة أثناء الأزمات أو التغيرات المفاجئة، خاصة عندما يقف الإنسان حائرًا أو عاجزًا عن معرفة السبب الرئيسي للمشكلة، فيلجأ لنظرية المؤامرة كجواب سريع يُطفئ به حُرقة الفُضول والخوف؛ جاء في بحث نشرته مجلة Sage كلامًا يوضح ما سبق: “تُقدِّم نظريات المؤامرة للناس إجاباتٍ مبسطة، وتحديدًا كيفية نشوء الأزمة وأي من الفاعلين في المجتمع يمكن الثقة فيهم، هذه الإجابات ذات أهمية قصوى في كيفية تعامل الناس مع الأزمات، من المحتمل أن يكون للأزمة تأثير نفسي على الناس بحيث يصبحون غير متأكدين، أو يشعرون بأنهم ليسوا قادرين على التحكم في بيئتهم”[2].
لا يجدر بشخص عاقل إنكار نظرية المؤامرة أو التهوين من شأنها؛ لأن أصحابها اليوم لا يكتفون بتخطيطها والتدبير لها، بل ينشرونها في المواقع، ويتكلمون عنها في المحافل، ويكتبونها في الكتب مرفوقة بجداول التنفيذ؛ وبالتالي فليس الحل في إنكار وجودها، وإنما النجاة في إخراجها من القلب كمدبر وفاعل مستقلٍّ، إلى سبب من الأسباب، إن شاءَ الله تعالى أنْفَذَها، وإن شاء عز وجل عطَّلها بحَوله وقوته، فها هم المشركون تكالبوا وتآمروا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه رضوان الله عليهم، فما زادهم ذلك إلا إيمانًا وطمأنينة راسخة رسوخَ الجبال الرواسي: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، والمؤامرة في حد ذاتها ليست نظرية، بل واقع منذ أمد بعيد، والذي يقرأ القرآن يجد آيات تتحدث عن ذلك؛ مثل قوله تعالى: ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20]، ثم جاء كشف حال موسى عليه السلام؛ ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ [القصص: 21]، وهي حالة خوفٍ طبيعية جُبِلَ الإنسان على الشعور بها أثناء الخطر، إلا أن الخوف لم يجعل كليم الله عليه السلام يزداد إيمانًا بالمؤامرة؛ بل بالله عز وجل: ﴿ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 21]، المهم أن المؤامرة ليست شيئًا جديدًا، وبالتالي ليست شيئًا يُنكَر.
إنه من المهم أن نعلم أن الغلو في نظرية المؤامرة يؤدي إلى مفاسدَ كثيرة، أقلُّها: غلق السُّبُل أمام تفسيرات أخرى أقرب للحقيقة، وأعظمها: السقوط في الشرك، إن كلماتٍ يقولها الإنسان في ثوانٍ لا يُلقِي لها بالًا تهوي به في قعر جهنم، فكيف بالاعتقاد أن الجمعية الفلانية هي المتحكمة في العالم، وأن الأمر أمرها، وكل ما يحدث من شرٍّ فهو تحت تدبيرها؟!
إن مما تُورِثه نظرية المؤامرة في نفس الإنسان الهزيمةَ والاستسلام؛ فتنتج لنا إنسانًا مهزومًا يؤمن بنجاح غيره، وفشل نفسه؛ لأنه أغرقها في الأوهام والوساوس القهرية، فيصبح سقف طموحاته أن يعرف تفاصيل الأخبار التي تؤكد اعتقاده في نظرية المؤامرة، لقد ساهمت شبكات النت، ووسائل “الانقطاع” الاجتماعي في تكثير عُبَّادِ نظرية المؤامرة، وذلك بخلق مجموعات تنشر وتنقُل أخبارًا عن الأيادي الخفية، إنها نفس عاجزة، كلما فكرت في الخلاص، تذكرت أن أمرها بقبضة أيادٍ خفية تخطط للإيقاع بها وبمن شابهها، تخالج النفس الغالية في نظرية المؤامرة أوهامٌ وشكوك عند كل حادثة، فأثناء السَّلم، تتوقع الأسوأ، وعند حدوث السوء، تؤكد ما ظننته من سوء، وهكذا تنقضي أيامها في دوامة متسلسلة مغمورة بالخوف، والشك، والشرك.
إن من أراد أن يفُكَّ قيود المؤامرة في عقله، ويقرأ أحداث العالم دون الغلوِّ في أي عامل قدَّره الله تعالى أن يكون سببًا في تدبير أو تقدير شيء، فليعتقد أن تدبير الله فوق كل تدبير، مهما عظُم وكبُر، وأن أقصى ما يخطط له الخلق تنفيذ قدر الله الكوني الذي كتبه في كتابه، قبل أن يخلق السماوات والأرض، ولم أجد نصًّا بشريًّا يؤكد ما سبق بقلم راقٍ، وأسلوب جذاب؛ مثل ما كتبه ابن القيم في كتابه (طريق الهجرتين)، وهو يؤكد أن السائر إلى الله يسلخ نفسه من التدبير المخالف لتدبير الله تعالى: “ومن شأن القوم أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذي يخالف تدبير ربهم تعالى واختياره، بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله، فلم يزاحم تدبيرُهم تدبيرَه، ولا اختيارهم اختياره، لتيقُّنهم أنه الْمَلِكُ القاهر القابض على نواصي الخلق، المتولي لتدبير أمر العالم كله، وتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم في أفعاله الذي لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة، فلم يُدخِلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفه أمور عباده بـ”لو كان كذا وكذا”، ولا بـ”عسى ولعل”، ولا بـ”ليت”، بل ربهم تعالى أجَلُّ وأعظم في قلوبهم من أن يعترضوا عليه، أو يسخطوا تدبيره، أو يتمنَّوا سواه، وهم أعلم به وأعرف بأسمائه وصفاته من أن يتهموه في تدبيره، أو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله، بل هو ناظر بعين قلبه إلى بارئ الأشياء وفاطرها، ناظرًا إلى إتقان صنعه، مشاهدًا لحكمته فيه، وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر وعوائدهم ومألوفاتهم.”
هذا، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
[1] كتاب شأن الدعاء، تفسير هذه الأسماء، ص104.
[2] Douglas, K. M., Sutton, R. M., & Cichocka, A. (2017). ‘The Psychology of Conspiracy Theories’. Current Directions in Psychological Science, 26(6), 538-542.