المعرفة التاريخية صممت للحاضر…
المعرفة التاريخية صُمِّمت للحاضر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فالمرتكز الأساس في حياتنا هو الواقع الذي نعيشه على كافة أصْعِدَتِهِ ومساراته، واختلاف أحداثه المليء بها، وقضاياه الشائكة التي يعِجُّ بها، من الصعب اعتزال هذا الواقع أو عدم الالتفات إليه، بيد أنه يُحتَّم علينا التعامل معه، بل التفاعل بشكل إيجابي، وتحليل أحداثه، واستشفاف ما وراءها، والوصول إلى رسم ملامح الخطوات اللاحقة، والتصور للمواقف القادمة في مسيرتنا العملية والبنائية الفكرية، وإلى جانب هذا وذاك يمثِّل الماضي عنصرًا أساسيًّا لفهم الواقع، وما صحِبه من أحداث جَلَل، وما تخلَّله من مشاهدَ وتحولات كبرى لا يمكن التغافل عنها، باعتبارها سببًا للوصول لكثير مما نعيشه ونشاهده في واقعنا وأحداثنا اليوم؛ وهنا يكمن الامتداد للمثلث الزمني (الحاضر والمستقبل والماضي)، وهذه الامتدادات الزمنية تشكل حلقات مترابطة، وسلسلة متشابكة، لا يمكن انفكاكها، أو فصل بعضها عن بعض في مسار الوعي وصناعته، وفي مضمار الإنجازات والنجاحات المراد تحققها على الصعيد الفردي والجماعي.
ومن هنا، فالواقع يمثل نقطة انطلاق نحو المستقبل، وركيزة أساسية في بنائه، ولا يمكن أن ينأى عن الماضي وإدراك تحولاته لمن يريد إصلاح الدنيا والدين؛ ولهذا قال ابن خلدون: “وقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سِيَرِهم، والملوك في دولهم وسياساتهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في الدين والدنيا”.
وبناء عليه، فالتفاعل الإيجابي مع الواقع ينطلق من تحدِّيين:
• الوعي الإيجابي بتاريخنا، والتحرر من رواسب التاريخ السلبية.
• امتلاك الوعي المعرفي لبناء الرؤية المستقبلية الإستراتيجية.
ولهذا يقولون: “المعرفة التاريخية صُمِّمت وظيفيًّا في فن التاريخ؛ لخدمة الحاضر تفسيرًا وتغييرًا، ومدخل لبناء المستقبل ورؤيته”.
فالوعي بالتاريخ يشكل الشرط اللازم لفقه الواقع وإشكالاته، والتفاعل الإيجابي مع هذا الواقع من حيث الوعي بتحدياته، وإدراك حاجياته ومتطلباته، والإسهام في ورش بنائه وإصلاحه، وهذا متوقف على امتلاك رؤية إستراتيجية مستقبلية، تتجاوز إحباط الراهن وتُعانِق المستقبل للأمة.
ومع أهمية المعرفة التاريخية فإن ثمة إشكالًا منهجيًّا يواجه هذه المعرفة، وتتمثل في إشكالين:
الأول: المنهج المادي الغربي بشقَّيه: الليبرالي والماركسي، وما يعتريه من التناقضات والمخالفات المنهجية العلمية، والإسقاط التأويلي التعسفي للأحداث التاريخية، والوصول من خلال هذا الإسقاط إلى التحيز في كتابة التاريخ، ووضع مصالحهم ومنافعهم فحسب نُصْبَ أعينهم، بل التجني والتشويه على تاريخ الآخرين سيما التاريخ الإسلامي، وكذلك إسقاط الدراسة المصدرية للوثائق، واعتماد الروايات التاريخية قبل توثيقها وعرضها ودراستها على موازين الجرح والتعديل، منها قضية تولي أبي بكر رضي الله عنه الخلافة، وأنها كانت بنوع من الاستقواء والضغط القَبَلي، وتجاوز الحوار وتبادل الآراء، واعتماد هذه الرواية دون دراسة التأكُّد من مصدريتها وتوثيقها، وعرضها على المنهج العلمي في النقد والقبول والرد، لبيان زَيفها وبطلانها.
الإشكال الثاني: المنهج العاطفي:
فمن مشاكل البناء المعرفي التاريخي المنهجُ العاطفي الذي يتغاضى عن الأخطاء، ويبالغ في التمجيد والتقديس، ويستميت في الدفاع عن أخطاء الرجال، ويتكلف تأويل الأحداث، ويُروى أن الحديث عن الأخطاء خطأ، وبهذا يبقى المسلمون يجتمعون على أساس عاطفي بدل الفكرة والمبدأ، ويتخلون عن مشقة البناء إلى سهولة الشعارات والهتافات.
وإذا أتينا إلى المعرفة التاريخية، فسنجد أن أبرز قضايا بناء الوعي التاريخي تكمن في تَحَوِّلين حصلا في الأمة الإسلامية:
الأول: التحول السياسي المبكر للحكم الإسلامي، والانتقال من الخلافة إلى الملك العضوض، ثم الملك الجبري.
الثاني: التحول الحضاري التغريبي بعد إسقاط الدولة العثمانية، والانتقال من الملك العضوض إلى مرحلة الجبر، مع ما صحِبه من الهجوم على المجتمعات الإسلامية، والدخول لها واستعمارها باسم الانتداب والحماية والتدويل، إلى جانب الانبهار بالحضارة الغربية من قِبل كثير من المسلمين؛ مما أحدث شرخًا عميقًا في المجتمع الإسلامي وبنيته الفكرية.
ومن هنا؛ فمن الأهمية بمكان إدراك هذا التحول في تاريخ الأمة، ثم الانطلاق نحو المستقبل، وبناء على هذا التحول الذي حصل في الأمة الإسلامية والنظر فيه، لا يمكن تصحيح الواقع والانطلاق منه إلى بناء رؤية مستقبلية إستراتيجية، إلا بجملة من الأصول؛ تتمثل في مجالين:
الأول: الأصول النظرية: وهي جملة النصوص الشرعية من القرآن الكريم، والسُّنة النبوية الصحيحة، التي تشكل الإطار النظري المُحْكَم لبناء الرؤية المستقبلية الواضحة والمنشودة، سواء النصوص المقيدة والمشترطة للإيفاء بالشروط لتحقيق المشروط، التي تشترط الإيمان والتوبة، والتقوى والتوكل في تحقيق مراد العبد في الأمن الدنيوي والأخروي، والحياة الطبية في الدنيا والآخرة، أو النصوص الْمُطْلَقة التي جاء فيها الوعد بنصر النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين على عدوهم، أو النصوص التي وردت في التمكين الكلي للإسلام.
الثاني: الأصول العملية: وهي التي تتمثل في سلوك الإنسان في الاستخلاف والسعي لعمارة الأرض وفق مناهج النبوة، مع الصبر والنفس الطويل، وعدم استبطاء النصر والتمكين، وعدم اليأس من وعد الله تعالى لعباده المؤمنين في الدنيا، والتطلع لما وعد الله به عباده في الآخرة.
وبهذه الأصول تتحول الأمة نحو مستقبلها، وتشييده بمنهج واضح المعالم، بعيدًا عن المصادفة والارتجال، وبنوع من التوازن الدقيق، والربط الوثيق بين الامتدادات الزمنية الثلاثة.
وهذا الترابط بين الامتدادات الزمنية الثلاثة يجعلنا نستوعب مراحل بناء المستقبل ورؤيته الإستراتيجية، ونستحضر السنن الربانية، التي من أهمها في هذا الجانب: سُنَّة الإعداد، وسنة التغيير.
فالإعداد سنة كونية واجتماعية تحدَّث عنها القرآن الكريم؛ فقال سبحانه: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60]، والإعداد هو ثمرة الفهم الصحيح لهذه السنة، الإعداد الشامل بجميع جوانبه: العلمي، والفكري، والتربوي، والبدني، والاقتصادي، والإعلامي.
وكذلك سنة التغيير من السنن الربانية والمتمثلة بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، وهذه السنة تقوم على غرس العقيدة الإيمانية الصحيحة، فهي المرتكز الأساس في استمداد مقومات التغيير، والارتباط بخالق الكون والإنسان، إلى جانب بناء جيل ونخبة مصطفاة تحمل همَّ هذا التغيير، مع أخذ دورة الزمان في الحسبان وعدم الاستعجال، إلى جانب إدراك الواقع وفهمه، وفهم الخطاب الشرعي، وتأصيل منهج التعامل معه وكيفية تنزيله على الواقع، إضافة إلى فهم الواقع المحلي والإقليمي والدولي والتعامل وفق التصور الصحيح، مع الاستفادة من وسائل العصر وأدواته في تحقيق سنة التغيير.