ملف خاص فى محبة “كريم العين” وصانع الضوء طه حسين بذكرى رحيله الـ 50
ثقافة أول اثنين:
الدكتور طه حسين.. حرمته الطبيعة من نور العين فابتكر أنواره وإشراقاته الخاصة اللامعة.. وإحياء ذكراه رسالة لأنفسنا قبل “العميد” وإثبات لأننا نصون العهد ونعرف القيمة ولا نجهل الرموز الحقيقيين.. لم يكن عابرًا، ولا غادرنا رغم الرحيل. كانت الأمة المصرية، والثقافة العربية من ورائها، فى احتياج قاهر إلى من يُجدّد الشباب ويُعيد الاعتبار للعقل؛ فجاء طه حسين. على هذا المعنى كانت العميد تلبية لنداء الزمن واشتراطات اللحظة الحضارية، وتحت تلك الصيغة لا يُنتظر أن يخفُت بريقه أو يتجاوزه السياق المعرفى فى مصر والمنطقة.
قصة الأعمى المُعمّم، الآتى من جوف الصعيد إلى المركز ثم إلى عاصمة النور، فيها من آيات الرمز والإشارة ما يفتح قوسيها على دلالات عدّة؛ إلا أن أثمن ما تنطوى عليه، أننا قادرون على أن نُعيد تخليق أسطورتنا على وجه عصرى، ونبتكر من مادتنا القديمة ما يصلح للاشتباك مع العالم والسير إلى جواره على التوازى. وعلى امتداد رحلته كان “طه” مُخلصًا لتلك الغاية أيّما إخلاص؛ إذ تبدّت روحه المشرقية المستعصمة بالعروبة والثقافة الإسلامية، مُتجاورة مع عقل تنويرى يُجل المنطق ويُقدس الأسئلة الجارحة؛ ولعل أحدا ممن سبقوه أو تلوه لم يطبع بصمةً ثابتة على السياق المعرفى والثقافى، كما فعل البصير الذى حرمته الطبيعة من النور؛ فابتكر أنواره وإشراقاته الخاصة.
مرّت خمسون سنة على غياب العميد بالمعنى الفيزيقى؛ لكنه فى تلك العقود شفّ والتمع وتحلل من عبء الجسد وخصوماته ومُعاركه، وصار خفيفا مُضيئا بأفكاره القادرة على أن تصون وجودها فى بيئتها، وتكتسب مناصرين ودعاةً جددا فى كل يوم. ما تزال تساؤلاته صالحة لإثارة الدهشة، وإعادة التجدد، وبحث المُعضلات التى تطوّقنا فيما يخص علاقة الشرق بالغرب، والعقل بالروح، والأصالة بالحداثة ومسابقة العالم على الإيقاع الذى يُناسب اللحظة. وما يزال من الصعب أن تبحث فى هويّة مصر من دون أن تشتبك مع “مستقبل الثقافة”، ولا أن تُقارب الإبداع بمعزل عن “أدبنا الحديث ما له وما عليه”، أو تفض مغاليق التاريخ الإسلامى وامتحاناته القاسية ما لم تستعن بـ”الفتنة الكبرى”، وعلى الدرب: فى الأدب الجاهلى، والأيام، ودعاء الكروان، وحديث الأربعاء، وصوت باريس، وعلى هامش السيرة، وفصول فى الأدب والنقد، ومرآة الإسلام، ونقد وإصلاح. وغيرها من العناوين المُلفتة فى ظاهرها، والغنية بإفراطٍ فى جوهرها ومحتواها.
الذخيرة الحضارية للمصريين شوّافة ورقيقة إلى حدّ أنها لا تكسر خاطرًا ولا تخدش وردة. يقول الأقدمون عن المبتلى فى بصره إنه “كريم العين”، وبموازاة الدلالة الأصلية فإن طه حسين كان كريمًا فى صناعة الضوء؛ حتى وإن ظل عاجزًا عن مُعاينته والتحمّم به. غزل الرجل شعاعا إلى جوار شعاع، وكلمة بعد كلمة، فصنع ما يُشبه الشمس التى تفجّرت من غُرفته المظلمة، لتشهد على كرم عينيه بالحقيقة لا المجاز، وعلى كرم عقله الذى أسبغ فائضه من النباهة والحساسية على كل ما فكّر وأنتج؛ فما عاد بالإمكان أن تُلخّص حدّة البصر التى ترقى إلى شفافية البصيرة، من دون أن تستعير سيرة العميد وتقتبس شيئًا من نورانيّته.
طه حسين 1
إن الاحتفال بذكرى طه حسين، وإحياء كل أيامه ومناسباته ومحطّات حضوره؛ إنما هى طقوس واجبة علينا تجاه أنفسنا أولا، بأكثر مما هى تقدير وعرفان لعميد الأدب العربى وما تركه فى وعى الأمة المصرية وروحها. الاحتفاء رسالة بأننا نعرف حاضرنا وماضينا، ونُفرّق رموزنا الحقيقيين عن فقاعات الرجعية والأصولية، وأننا قادرون على أن نُنعش الذاكرة ونُجدد السردية، ولا يتطلب الأمر إلا ابتعاثًا لمثل “العميد” من رُقاده الطويل، وأن نستنهض من قيامته المعنوية أثرًا ماديًّا فاعلاً فى العقل.. لقد أنجز البصير و”غازل النور” فى الغرف المظلمة، ما يستعصى إحصاؤه فى ملف أو كتاب؛ إنما نزرع صبّارة خضراء على قبره فى ذكرى الرحيل، ونرفع وردته التى أهدانا إيّاها عالية فى السماء؛ فليتقبل المحبّة الصادقة فى عليائه وإن لم تأت على قدر القيمة والإجلال.
طه حسين 2
“
اليوم السابع” تحاور الحفيد فى خمسينية رحيل الجد.. هدّد باريس وانتصر فى تونس.. قصة معركة طه حسين مع الحكومة الفرنسية من أجل إنشاء مراكز ثقافية مصرية بالخارج.. وكيف أدار المواجهة حتى فاز فى النهاية
حاوره أحمد منصور
التقينا المهندس حسن الزيات، حفيد العميد من ابنته “أمينة”، الذى تحدث عن علاقته بجده هو وأخواته وأولاد خاله “مؤنس”، ابن العميد الأصغر، وكيف كان يراه من منظور الطفل، كما أمدّنا بباقة من الصور النادرة، التى ربما تُنشر لأول مرة.
طه حسين 3
أيام فى صالون صاحب الأيام.. حكايات من فيلا رامتان الشاهدة على رحيله والمُخلّدة لذكراه.. انتقل من المنيا للسكاكينى والزمالك واستقر فى الهرم وصار البيت متحفا.. وثيقة وزارة الثقافة المطالبة بشراء فيلا العميد وخطابات نجوم الثقافة والمجتمع.. تفاصيل البيت والمقتنيات وغرف الأطفال والموسيقى.. المكتبة تضم 7859 كتابا أكثر من نصفها باللغات الأجنبية
كتبت بسنت جميل
غادر طه حسين العالم، وتحول بيته فى منطقة الهرم إلى متحف، وما يزال شاهدا على جانب كبير من يوميّاته وطقوسه وشكل الحياة فى “رامتان”، الاسم الذى أطلقه على الفيلا الصغيرة التى انتقل إليها من حى الزمالك، بعدما صار الأخير مزدحما ولا يُشبه الريف الذى عرفه فى “عزبة الكيلو” بالمنيا وظل فى حنين دائم إليه.
تنقل العميد فى حياته بين بيوت عدّة. الولادة فى الصعيد، ثم عام 1902 إلى حى السكاكينى بالقاهرة فى رعاية أخيه الأكبر أحمد حسين ليتلحق بالأزهر، وكانت شقة بسيطة مكث بها عقب عودته من فرنسا، وبعدها انتقل إلى حى الزمالك فى شارع يحمل اسمه الآن بجوار “مدرسة الفنون الجميلة”، وبعدها كانت فيلا الهرم.
عينان اسمهما “سوزان”
.. قصة حب غيرت حياة عميد الأدب العربى.. طه حسين نظر إلى المرأة والتحرر والثورة والحياة بعين زوجته الفرنسية.. قرأت له كثيرا من المراجع وساعدته فى اللغتين الفرنسية واللاتينية.. وقال لها: “بدونك أشعر أننى أعمى حقا“
عادل السنهورى
“منذ سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم”.. هكذا قال عميد الأدب العربى طه حسين عن زوجته الفرنسية السيدة سوزان، وهى جملة تختزل معانى وأمورا كثيرة فى حياته ورؤيته للحياة وقضاياها، فقد كانت عينه التى يرى بها كل شيء، ويحدد من خلالها مواقفه من صنوان القيم والعادات والتقاليد، وقضايا المجتمع الذى تركه وراءه فى طريقه للدراسة فى مونبلييه وباريس، وصدق بالفعل عندما قال ذات مرة لحبيبته وزوجته: “بدونك أشعر أننى أعمى”.
طه حسين 4
طه يُناصر “ناصر”
.. قصة محبة الزعيم والعميد من الثورة إلى الرحيل.. نجمان من الصعيد يُصالحان السياسة على الفكر والأدب
عادل السنهورى
علاقة وثيقة ربطت الزعيم جمال عبد الناصر بالعميد طه حسين، رغم محاولات بعض الكتابات الإشارة إلى مضايقات تعرض لها الأخير، إلا أنه رثى الرئيس بعد رحيله وأشاد به فى مواقف ومناسبات عديدة.
عندما اندلعت ثورة يوليو كان طه حسين فى الثالثة والستين، و”ناصر” قائد الثورة 34 عاما فقط، لكنهما التقيا سريعا وربطت بينهما روابط نفسية واجتماعية، وأحلام وشعارات أطلقها حسين وآمن بها ناصر وجاهد لتنفيذها.
بين الزعيم والعميد سمات وظروف اجتماعية متشابهة.. الاثنان من بيئة صعيدية فقيرة، عانت كما عانى باقى الجنوب من رباعية الجوع والفقر والمرض والجهل؛ فلا تختلف “عزبة الكيلو” بالمنيا عن “بنى مر” فى أسيوط. وقد حارب “طه” بأفكاره وكتبه مظاهر التخلف والجهل والماضى المعطل عن التنوير والتقدم والمدنية، وقاد “ناصر” ثورة للنهضة والتنمية والعلم والحضارة. فكان التعليم قضية الرجلين؛ قال الأول إنه “كالماء والهواء”، وقرر الثانى مجانيته فى كل مراحله.
طه حسين مع أولاده
عمامة مُستنيرة فى رحاب السوربون.. رحلة العميد من المنيا إلى أرقى جامعات فرنسا.. وسيرة العلم والتنوير فى حكاية طه حسين مع الغرب
فريق قسم الثقافة
خرج من المنيا مُعمّمًا، ثم صار أمره فى الحياة إلى أن تفجّر من عمامته النور. لم يتخلّ عن ظهيره الثقافى والمعرفى لحظة واحدة، ولم يتقيّد به على خلاف العقل والمنطق. لذا سيظل طه حسين علامة فارقة؛ لأنه كان مُفتتحًا لعقلنة النظر إلى التراث، وحيوية تجديد الهويّة من زاوية اتصالها بالعالم مادّة وروحًا.
خاض طه حسين رحلة طويلة من أجل العلم، وسعيًا لبناء نفسه، فانطلق من إحدى قرى مغاغة إلى القاهرة، ومنها إلى باريس، ليعود إنسانا مختلفًا بصيغة أكثر عُمقا ونضجًا وقدرة على إثارة الأسئلة العميقة واجتراح الأجوبة غير التقليدية.
مُقاتل على جبهة النور.. معارك طه حسين الثقافية سيرة مفصلة لمشروع النهضة المصرية.. أزمة كتاب “فى الشعر الجاهلى” تنصّبه عميدًا للعقل ومساءلة الحاضر والتاريخ.. جولات اشتباك مع توفيق الحكيم.. وحضور دائم فى القضايا الجدلية وهوية مصر والانتصار للمنطق على الشعبوية والخرافة
كتب عبدالرحمن حبيب
أصابه الظلام قهرًا؛ لكنه اختار أن يكون مقاتلا فى جيش النور. خاض طه حسين كثيرا من المعارك طوال حياته، وبدأ بعضها مبكرا، وخاض أشرسها مع كتاب “فى الشعر الجاهلى” ولم يزل شابا، أما آخرها فكانت مع الأديب الراحل توفيق الحكيم، وانتهت بصداقة وطيدة.
أصدر طه حسين كتابه المثير للجدل “فى الشعر الجاهلى” سنة 1926، وجاء فيه أن الأدب العربى فى الخمسين سنة الأخيرة انحدر وأصابه المسخ والتشويه، بسبب مجموعة احتكرت اللغة العربية وآدابها بالقانون، وهذا أمر ليس خليقًا بأمة كالأمة المصرية، كانت منذ عرفها التاريخ ملجأ الأدب وموئل الحضارة، وعصمت الأدب اليونانى من الضياع، وحمت الأدب العربى من سطوة العجمة وبأس الترك والتتر.
الدكتور طه حسين
هنا سمع العميد “دعاء الكروان”
.. استراحة “تونا الجبل” بالمنيا خلوته المفضلة وتحفظ كثيرا من الذكريات.. وُلدت فيها فكرة أشهر رواياته واستقبل نجوم الفن والأدب والسياسة وتشد على عشقه لشهيدة الحب إيزادورا
المنيا – حسن عبد الغفار
سمع “دعاء الكروان” من شُرفته هنا، وتوثّقت محبته لشهيدة الحب “إيزادورا”، وصارت استراحة تونا الجبل قاسمًا مهمًا فى أية محاولة لتتبع مسيرة طه حسين، والجداول العديدة التى تتضافر لتشكّل نهر شخصيته ووعيه العارم.
طه حسين مع عائلته
مهد العميد.. جولة فى مسقط رأس طه حسين بصعيد مصر.. “عزبة الكيلو” بالمنيا شاهدة على ولادة ألمع العقول فى القرن العشرين.. محلات تجارية وبنايات عالية تحل بدلا من البيوت القديمة.. والسكان يتحدثون عن فضل “الشيخ غريب” على عميد الأدب العربى
المنيا – حسن عبد الغفار
تغيرت الملامح كثيرا، واختلطت المنازل ولم يبق منها حتى الأثر، فتبدلت الشوارع وتحولت البيوت القديمة إلى أبنية عالية، حتى لافتة “عزبة الكيلو” بمركز مغاغة شمال محافظة المنيا اختفت، وسكنت المنطقة أجيال سمعت عن طه حسين، لكنهم لا يعلمون أنه ابن الأرض نفسها.
إذا أردت الذهاب إلى مسقط رأس العميد، فعليك أن تسأل عشرات الأشخاص لتنجح فى الوصول. ورغم البُعد الذى قد يُوحى ببيئة ريفية فقيرة، ستُفاجأ بعدد كبير من المحلات التجارية، والمنازل الحديثة، وإذا أردت أن تسأل على المنزل طه حسين، فقد لا تجد جوابا سهلا، منهم من يقول إنه تحول إلى عيادات طبية، وآخر يشير إلى أنه هُدم، وثالث لا يعرف أصلاً.
طه حسين مع زوجته سوزان وأولاده أمينة ومؤنس