التأقلم مع العولمة
التأقلم مع العولمة
ظهرت محاولاتٌ عدَّة من منطلق ثقافي للتأقلمِ مع العولمة، تقوم على تلمُّسِ الموقف الشرعي من العولمة، وأُورِدت الآياتُ والأحاديث النبوية التي تدعم هذا التوجه نحو العولمة بالتعاون وترسيخ مفهوم التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية[1]، على اعتبار أنَّ العولمة “مصطلحٌ فَضفاض، ظاهرُه فيه الرحمة وباطنه من قِبَلِه العذاب”[2].
أدَّى هذا بدوره إلى اعتبار العولمة “أيديولوجية” جديدة، جاءت لتحلَّ محلَّ بقية الأيديولوجيات القائمة، مما يشكِّل خطرًا على هذه الأيديولوجيات القائمة، ومن ثَمَّ واجهت العولمةُ نفسُها أخطارًا، عدَّها بعض المهتمين على نوعين: أخطار داخلية، وأخطار خارجية؛ فالأخطارُ الداخلية كامنة في الخلافات بين أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، وتنبعث الأخطار الخارجية من الدول النامية[3].
في هذا تصنيف للعالم من حيث انبعاثُ العولمة وتلقِّيها، وكونها تُرسِّخ فكرةَ الصدام بين الحضارات، وأنه لتلافي هذا الصدام لا بد أن تطغى الحضارةُ الغربية فقط، ولقد وصل الأمر هنا إلى إطلاقِ تركيباتٍ قياسًا على تركيبات سابقة، فإذا قيل: صدام الحضارات، قال قائلون: صدام الهمجيات[4]، وإذا قيل: نهاية التاريخ قال القائلون: نهاية الأيديولوجيات، وهكذا.
يعلِّق (السيد ولد أباه) على هذا المَنحى بقوله: “إن الحاجة إلى الأيديولوجيا حاجةٌ حيوية لا انفكاكَ منها، ولا سبيل للتنكُّر لها أو التهوين من شأنها؛ ولذا فإن مقولة (نهاية الأيديولوجيات) تمثِّل مرتكزًا رئيسيًّا من مرتكزات الأيديولوجيا الليبرالية المتطرِّفة من حيث مضمون الخطاب الرائج حول العولمة”[5].
هذه النظراتُ مختلفةُ الأبعاد للعولمة تُظهِر النظرَ إليها من بُعدٍ واحد دون الأبعاد الأخرى، وهنا يرِدُ تشبيهٌ دقيق للنظر إلى العولمة من بُعدٍ واحد، يقول جلال أمين: “نحن إزاء العولمة كالعُميان إزاء الفيل في تلك القصة الشهيرة التي يلمس فيها كلٌّ من العميان جانبًا من الفيل، فيصفه على أنه الفيلُ بأكمله، دون أن يعرف أن للفيل جوانبَ أخرى كثيرة، كلٌّ منا في وصفه للعولمة على صواب تمامًا، لولا أن معظمَنا لا يريد أن يعترفَ أن بقية العميان على صواب أيضًا”[6].
منهجُنا في مثل هذه المواقف – ومنها الموقف من العولمة – أن كلامَنا (موقفنا) صوابٌ يحتمل الخطأَ، وكلامَ غيرِنا (موقف غيرنا) خطأٌ يحتمل الصواب، توظَّف هذه المقولة/ المنهج في مجال قَبول العولمة أو رفضها؛ ذلك أنه يتبين لها جوانب لم تكن بائنةً عند الخروج بحكم قطعي، والأحكام القطعية لا تتأتَّى في مثل هذه الموجة التي لمَّا تستقرَّ في أذهان متلقِّيها.
التأقلم مع العولمة يأتي من هذا المنطلق، من حيث تغليب الإيجابيات منها على السلبيات، وهذا يعني أن للعولمة إيجابياتِها كما لها سلبياتها؛ فالإيجابيات يُؤخذ بها، والسلبيات تُتلافى، فلم يقُل أحدٌ في شأن العولمة: إنها إما أن تُقبل كلُّها أو تُرفض كلها، ومنظمة التجارة العالمية – وهي رمز العولمة – تركت – في سبيل الانضمام إليها – هامشًا للاستثناءات المعقولة ثقافيًّا أو حتى سياسيًّا، ولا تملِك أن “تُصهر” العالمَ في وجهةٍ بعينها على حساب مكنونات ثقافية راسخة.
[1] انظر: بهاء شاهين، العولمة والتجارة الإلكترونية: رؤية إسلامية، القاهرة: المؤلف، 1421هـ/ 2000م، ص 41 – 46.
[2] انظر: عبدالجواد محمد المحص، العولمة: ظاهرة العصر وموقف الإسلام منها، ص 59 – 67، في: العولمة وموقف الفكر الإسلامي منها، أعمال مؤتمر كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالإسكندرية، جامعة الأزهر 29 – 30 نوفمبر 1999م، الإسكندرية: الدار المصرية، 2000م، ص 273.
[3] انظر: وداد أحمد كسيكو، العولمة والتنمية الاقتصادية: نشأتها، تأثيرها، تطورها، بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 2002م، ص 149 – 159.
[4] انظر: جلبير الأشقر، صدام الهمجيات: الإرهاب، الإرهاب المقابل والفوضى العالمية قبل 11 أيلول وبعده، بيروت: دار الطليعة، 2002م، ص 157.
[5] انظر: السيد ولد أباه، اتجاهات العولمة: إشكالات الألفية الجديدة – مرجع سابق – ص 105 – 130، (الفصل الخامس: المرتكزات الأيديولوجية لخطاب العولمة).
[6] انظر: جلال أمين، العولمة والهوية الثقافية والمجتمع التكنولوجي الحديث، ص 211 – 229، في: مركز دراسات الوحدة العربية، العولمة وتداعياتها على الوطن العربي، بيروت: المركز، 2003م، ص 258.