خالد دومة يكتب: حديث الذاكرة
ثقافة أول اثنين:
تُملي علينا الذاكرة، من فيضها ما تُملي، ولكن هل للذاكرة قوانين تسير عليها؟ وتقتدي بها، إنها تطاردك بأشياء من التفاهة، ما تتعجب من تذكرها، وتنسيك الأحداث الجسام، التي قد تكون عوامل انقلاب في حياتك، تخونك في أشياء تريدها، وتحاول جاهدا أن تتذكرها، وتملي عليك حدثا معينا، بكل تفاصيله، دون أن تنسى منه لفتة، أو هفوة، تكون أحيانا مصدر شقاء المرء، وهي تحفر في ذهنه حدثا ينكأ جرحاً عميقاً، تحاول أن تداويه، فتأبى عليه، وإذا بها تلح عليه إحاحاً عجيباً في تكراره، وإعادته وتحليله، آلاف المرات ولا تمل من دراسته على أوجهه المختلفة، وإنها لتنسيك ما يحمل عنك بعض أعباء الحياة.
إنها ليست أحاديث نفس عابرة، بعد دقائق ينتهي تأثيرها، ولا تعود للوجود مرة أخرى، إنها محفورة في واقعنا، وفي خيالينا أيضا، ذلك لأنها مؤلمة، وليست مجرد أحداث هامشية، إذ كيف تكون هامشية، وهي التي تحدد خطواتنا، القريبة والبعيدة، وقد يظل تأثيرها إلى أعوام قادمة، قد يكون الموقف بسيط، لا قيمة له، ولكن أثره يكون ضارب في أعماق النفوس، فتغير بوصلتها، وتتحول أيام حياتك بناء على هذا الحدث، الذي كنت تراه بسيط، وربما تافه، وقد تكون الأقدار، هي التي تلقي به أمامك؛ لتوجهك نحو أهدافها الكبرى، التي لا تدرك، أنت بمفهومك وقدراتك حجم تبعتها ووقعها، وقد تكون في مصلحتك، أو لا تكون، ولكنها لن تخلو من تأثير وأثر سواء كان من الخارج، أو من الداخل.
قد يداوي الزمن أثره السيء، وقد يظل فترة طويلة تعاني منه أرقا وقلقا أسابيع أو أشهر، وقد يمتد لسنوات، ويعاود الذاكرة بين حين وأخر، وتدرك بعد سنوات، أن هذا الموقف قد كان قاعدة لحياتك فيما بعد، تحولت عدة مرات من مكان إلى مكان، أو من مسكن لمسكن، وفي كل مرة تترتب على ذلك أشياء، ومواقف لم أكن لأعرفها، لو أنني ظللت بمكاني.
تعرفت على أخرين ولعبوا دوراً في حياتي، وتأثرت بهم لمجرد صدفة قابلتني، فتنحيت عن طريق إلى طريق أخر، وأتساءل لو لم يعترضني هذا الطريق؟ أو هذا الموقف، كيف ستكون حياتي؟ لا بد أن تكون هناك خطوط كبرى، ترسم وتحدد، وإلا لما صارت حياتنا بهذا النهج، أو في هذا الطريق، أن يتم وضع الإنسان في مكان ما من الأرض، ومن الحياة، وأثناء كبره تختلط وتختلف الأمور؛ لتكون ذلك المنهج الذي يسير عليه. تقابلنا الظروف معتقدين إنها من عمل أيدينا، أو أن لنا فيها يد، ونكتشف في نهاية الأمر، أننا كنا دُمى، تقذف بنا الأقدار، حيث تريد، وحيث ترغب، وتوهمنا بأن أيدينا هي التي تصنع أقدارنا، وما نحن إلا كريشة في الهواء، تسير بها رياح الأيام كيف تشاء، وأنَّا تشاء لها الأقدار، قد تبدأ، وما تسير خطوات حتى تعود، أو تبدأ طريق أخر، ولا تدري لماذا؟ ولا أين كنت؟ ولا إلى أي شيء تسير، إن الحكمة تقول لنا يجب أن نتريث في أعمالنا، في جوهر حياتنا، وألا نتسرع، وألا نجاهر بكل ما يخطر بعقولنا من أفكار، أو خيالات، أننا قد نتوه، فإذا تُهنا تعلقنا بما ليس منطقي، أو بما يخالف العقل، ويودي بنا. إنه من الممكن أن يمحو سنوات تقدمنا فيها، وأنجزنا بما فيه الكفاية.
الحياة عريضة أمام أعيننا، فلا نبصر الضيق إلا عن قرب، فقد يكون البعد، هو سبب عدم رؤيتنا لها، أو ظننا بها الظن السيء، المبني على خطأ فادح، الحياة عميقة أيضا، بحيث من الممكن أن تخدعنا، وأن تلقي بنا خارج دائرتها، فلا حساب للصغار، لمن ليس لهم أثر فيها، إنهم لا يد لهم في تحريك، أو صنع شيء، إنهم تبع، يسيرون مع الجماهير الكبيرة، حيث تسير، تأخذهم أقدامهم الجماعية، حيث تسوقهم عصا الزعماء، ومن يديرون حركة التاريخ، ببصماتهم وعقولهم، فهم الأعلام الواضحة، لكل عين تراها، وتشير إليها، هؤلاء من يكتبون التاريخ الإنساني بأعمالهم النبيلة، وغير النبيلة، ذوي الطموح، وذوي المهارات والنفوذ، هم أصحاب الكلمة، في الحرائق والحروب، والسلام، والنزاعات والمعاهدات، ونحن الجماهير الغفيرة، نساق إلى إرادتهم وما يريدون، تتحكم قبضتهم القوية في مسار الأمم، في التوجه والحركة والمسير، وقيادتنا الى ما يرغبون.