“الأدب الشعبى الأفريقى”.. كتاب خالد أبو الليل عن الثقافة المشتركة بين الأفارقة
ثقافة أول اثنين:
غيَّب الدرسُ المقارنُ العربى الأدبَ الأفريقى من مجالات اهتماماته ودراساته؛ إذ لم يلتفت إليه إلا مؤخرا، وهو التفات قليل يعكس إهمالا واضحا من الباحثين العرب. وفيما يبدو أن الدراسات العربية لم تتخلص فى مجال المقارنة من “عقدة الخواجة” الثقافية، تلك العقدة التى تسيطر على الجوانب الفكرية والاجتماعية العربية تجاه الغرب؛ حيث الانبهار به. لقد سيطرت مقارنة الأدب العربى بالغربى على اتجاهات الباحثين العرب دهرا طويلا، هذا بالرغم من البدايات التى ركزت على مقارنة الأدب العربى بالأدب الشرقي، وتحديدا الفارسى والتركي. وفى وسط هذا الاتجاه الأحادى من قبل الباحثين العرب، فإنه قلما نحت- إن لم يكن نادرا- المقارنة ناحية الأدب الأفريقي.
لقد توجه الباحثون العرب الأفارقة- خاصة مصر- صوب أدب الشمال، وأهملوا- وإن شئت تجاهلوا- أدب الجنوب/ الأفريقي، وهو إهمال يعكس نظرة فيها قدر من التعالي. ولم يشفع- لرفع هذا الغبن أو الإهمال- هذا التقارب الجغرافى أو المشترك الثقافى أو الجذور التاريخية، بل ربما تكون هذه التقاربات سببا من أسباب التباعد والنفور من مقارنة الأفريقى بالعربي. ولم يختلف الأمر كثيرا- بحسب ما يوضح حلمى شعراوي- فى الترجمة عن أو من أفريقيا. فحصيلة المشروع القومى للترجمة خلال عشر سنوات لم تزد عن 20 كتابا. ومما يؤكد ما أشرنا إليه، أن حضور الإنتاج العلمى أو الثقافى عن أفريقيا هزيل، على نحوما يؤكده دليل المطبوعات المصرية، أو الفهرس الصادر عن الجامعة العربية، أو ببليوجرافيا المكتبة العربية الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، أو من خلال الببليوجرافيا الشارحة للترجمة العربية فى علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، الصادرة عن مركز البحوث والدراسات الاجتماعية بآداب القاهرة عام 1997.
ولعل الملفت للنظر أن العرب القدماء كانوا أكثر اهتماما بأفريقيا أدبا وتأريخا، على نحو ما نجد فى كتابات المؤرخين، ابن خلدون والبكرى والمسعودي، والرحالة من أمثال ابن بطوطة. فلقد كان المصدر الأهم الذى اعتمد عليه الغرب فى الكتابة عن أفريقيا- أثناء توسعاته الاستعمارية بهدف بناء “أنثروبولوجيا أفريقيا”- متمثلا فى كتب الرحلة العربية إلى أفريقيا، بل مثلت هذه الرحلات دليلا لهم، مما ساهم فى أن تكون هناك ثروة من الترجمات الأوربية للتراث المعرفى العربي، تم توظيفه فى خدمة أهداف الغرب وتوسعاته الاستعمارية.
ولم يكن الأدب الشعبى الأفريقى بأحسن حظا من نظيره الرسمي، فالدرس الشعبى المقارن لم يلتفت لمقارنة الأفريقى بالعربي، ولم يشفع لهذا- إضافة لكل ما سبق- وحدة اللون، فاللون الأسود، لون منتجى الأدب الشعبى الأفريقي، لون يعد هو السائد بين منتجى الأدب الشعبى العربى وأحيانا على أبطاله، بل يعد دالا على الأصول العربية لحامله، بحسب ما ينتهى صاحب مقال “إنما الأسود عربي” ولهذا فليس غريبا أن نجد بعض أبطال السير الشعبية العربية تحمل بشرتهم هذا اللون الأسود، الدال على تأصل اللون وتجذره فى العقلية الشعبية العربية، وبالرغم من ذلك فقد طالتهم مشاكل اجتماعية طوال حياتهم بسبب هذا اللون الأسود. وهو اللون الذى يتشابه حاملوه مع بطل الماندينج “سونجاتا كيتا”، الذى ربما ورث سواد بشرته من جده العربى المسلم “بلال بن رباح”. وبقدر ما يعود الفضل إلى الغرب/ المستعمر فى إزالة القناع عن قيمة الأدب الأفريقي، الرسمى منه والشعبي، ووضعه فى مكانة تجعله مؤهلا للدرس والتحليل، فإن الفضل يعود للغرب- أيضا- فى فتح مجال الدرس المقارنى أمام مقارنة الآداب الغربية بالآداب الأفريقية.
وتكمن أهم المشكلات الجوهرية التى تعوق إعادة ترميم العلاقات العربية الأفريقية عامة، والمصرية الأفريقية خاصة، فى مشكلتين، أولاهما تتعلق بتجاهل التاريخ الثقافى المشترك بين الشعوب العربية والأفريقية، هذا التاريخ الذى يعد بمثابة جذور للعلاقات التاريخية المشتركة (دينية وسياسية وتجارية وشعبية)، يمكن البناء عليها بسهولة ويسر، بدلا من البحث عن سبل جديدة لبناء هذه العلاقات. ثانيتهما: تتمثل فى تلك النظرة الفوقية التى تتعامل بها بعض الشعوب العربية مع شعوب أفريقيا، وهى نظرة تقوم على تابع/ أفريقيا، ومتبوع/ العرب أو مصر.
وهى نظرة رسخت لها الصورة الذهنية للأسود فى المخيلة العربية، التى ربطته- ولا تزال تصر على هذا الربط- بالوحشية والهمجية والرعونة والتبعية والفحولة الجنسية الهائجة، وهو تعكسه كثير من أعمالنا الفنية، هذا بالرغم من أن أفريقيا قد تجاوزت مثل هذه التصورات الذهنية، وصار بعضها فى مواقع متقدمة تفوق بها من يتصورون هذه النظرة العنصرية. وقد كان الأحرى أن تحل محل الصورة الذهنية السائدة عن الأسود/ أفريقيا نظرة قوامها التكامل وتبادل المصالح بين العرب وأفريقيا، والتاريخ المشترك، والمصير الواحد. من هنا جاءت ضرورة تخضيص الفصل الأخير من هذا الكتاب لدراسة الصورة الذهنية للأسود فى الثقافة العربية، والذى خلص إلى أن السواد عنصر لونى مشترك بين العرب الأُصَّل وأفريقيا، ومن ثم فإن الصورة الذهنية السيئة- التى روَّج لها الاستعمار- عن الأفريقى الأسود، ما هى إلا ربط مباشر- أو غير مباشر- بينها وبين العربى الذى يرتبط بهذا الأصل الأسود. من هنا جاء الوعى الشعبى العربى ليقف حائط صد مواجها هذه الصورة الذهنية، عندما جعل أبطال سيره الشعبية من ذوى اللون الأسود (عنترة والأمير عبد الوهاب ابن الأميرة ذات الهمة وأبو زيد الهلالى وسيف بن ذى يزن) الذين يتخذ منهم الوجدان الشعبى العربى نماذج وقدوة وأبطالا مخْلِصين، ومخَلّصيت لهم مما يعانون منه. وكان ذلك بمثابة رد يؤكد وحدة اللون، ووحدة الجذور والتاريخ المشترك، بحثا عن مصير واحد، من هنا جاء هذا الإعلاء من شأن الأسود، بغض النظر عن كونه أفريقيا أو عربيا، ليتجاوز صورته الذهنية التى ربطته بالتبعية والعبودية؛ ليندمج فى المجتمع العربى بعدما تم إقصاؤه وإخصاؤه.
ويأتى الكتاب فى فصول أربعة، على النحو التالي:
– الفصل الأول: ملحمة سونجاتاكيتا والسيرة الهلالية، دراسة مقارنة، وهو يستهدف دراسة مقارنة بين ملحمة سونجاتاكيتا، التى تحكى تاريخ إمبراطورية مالي، وبين السير الشعبية العربية، وتحديدا السيرة الهلالية، من خلال تلك التشابهات الشكلية، والمضمونية، مع دراسة الدلالات الثقافية والتاريخية لأوجه التشابه والاختلاف.
– الفصل الثاني: رحلة الأسطورة فى أفريقيا، مملكة وجدو بين التاريخ والأسطورة، وهو يهدف إلى تتبع رحلة أسطورة القربان البديل فى عدد من الأساطير العربية والأفريقية والإنسانية؛ للكشف عن هذه الامتدادات الثقافية والحضارية لهذه الأسطورة، التى تحكى تاريخ إمبراطورية وجدو (غانا).
– الفصل الثالث: تاريخية الشفاهى فى أفريقيا، دور الراوى وتوارث مهنة الرواية الشفاهية. ويستهدف دراسة الدور التاريخى الذى تلعبه السير والملاحم الشعبية العربية والأفريقية فى إعادة سرد التاريخ الشعبى لأفريقيا، خاصة فى ظل غياب التاريخ الرسمى لهذه المناطق.
– الفصل الرابع: الأسود مهمشا، قراءة ثقافية فى ثلاث سير شعبية. وهو يستهدف تناول صورة الأسود وتجلياتها المختلفة من خلال ثلاث سير شعبية (السيرة الهلالية، وسيرة عنترة، وسيرة الأميرة ذات الهمة).