Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التاريخ الإسلامي

موسى عليه السلام (3)


موسى عليه السلام (3)

 

ذكرتُ في ختام الفصل السابق أن القبطيَّ أخبرَ آل فرعون أن موسى عليه السلام هو الذي قتل القبطيَّ، وأنهم تآمروا عليه، وقد أحسَّ موسى عليه السلام بغمٍّ شديدٍ، وامتحان عسير وفتنة شديدة، وقد سخَّر الله تعالى لموسى عليه السلام رجلًا قريبَ المنزل من آل فرعون يسكن معهم في أقصى المدينة كالعادة في القديم والحديث أن الأشرافَ يسكنون الأطرافَ، ويعرف أخبارهم، ويُكنُّ لموسى عليه السلام محبة قوية، فسارع يبحث عن موسى عليه السلام حتى وجدَه في داخل المدينة، وأخبره أن آل فرعون يأتمرون بموسى ليقتلوه، وأمره أن يسارع بالفرار من مصر ليَسْلَمَ من شرِّهم، وينجو من مكرهم، وبيَّن له أن الحامل له على ذلك هو حُبُّه ونصحه له، فخرج موسى عليه السلام مسرعًا متجهًا إلى سيناء وهو يدعو ربَّه أن ينجِّيه من القوم الظالمين الذين يقررون قتل من لا يستحق القتل، وقد عزم عليه السلام أن يتجه تلقاء مدين، غير أنه غيرُ خَبيرٍ بالطريق إليها، فتضرَّع إلى الله تعالى أن يهديه إلى طريقها، وأن يوفِّقه إلى سلوك طريق قصد، وأن يرشده إلى سواء السبيل.

 

واستمرَّ في سيره عليه السلام حتى ﴿ وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ﴾ ووجد عليه جماعة من الناس يسقون مواشيهم، ووجد أمامه قبل هؤلاء الجماعة الذي يسقون مواشيهم امرأتين تدفعان غنمهما حتى لا تردَ الماء مع رؤية موسى عليه السلام للغنم في حاجة إلى الماء، فقال موسى عليه السلام للمرأتين: ما شأنكما؟ لماذا تدفعان غنمكما عن الماء وهي في حاجة إليه؟ قالتا: نحن لا نحب أن نختلط مع الرجال الرعاء، ولنا أب شيخ كبير لا يستطيع أن يتولَّى سقي أغنامنا، فتقدَّم موسى عليه السلام وسقى لهما دون أن يطلب منهما أجرًا على ذلك، ولما سقى لهما أغنامهما تولَّى إلى ظلِّ شجرة قريبة وجلس تحتها وناجى ربه قال: ﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]، فجاءته إحدى المرأتين والحياء بادٍ على محياها ومشيتها ﴿ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ [القصص: 25]، ويكافئك على هذا الإحسان بالإحسان، فلما وصل موسى عليه السلام إلى الشيخ الكبير وقصَّ عليه قصته مع آل فرعون قال له الشيخ الكبير: ﴿ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25]، فطلبت إحدى المرأتين من أبيها أن يستأجر موسى عليه السلام ليرعى الغنم، وأشعرت أباها أنه خير من يُستأجر؛ لأنه قويٌّ أمين، يجمع أهمَّ وأحسن وأوفى صفات الأجير، وكأنها عرفت ذلك من مراقبتها له، وهو يسقي الغنم مع غضِّ بصره وحسن سمته عليه السلام، فقال الشيخ الكبير: إني أحب أن أزوجك إحدى ابنتيَّ هاتين، على أن تشتغل عندي أجيرًا ثماني سنوات، فإن أتممتَ في الخدمة عشر سنوات فهذا من عندك، ولا أشقُّ عليك ولا أجهدك، فوافق موسى عليه السلام على أن يتزوج إحدى المرأتين بمهرٍ هو خدمة ثمانية أعوام، وإن شاء أتمَّها عشرًا، ولا شك في أنه مهر مرتفع، لكن حكمة الله واصطناعه لموسى عليه السلام، حتى يكون هذا الأجل هو الباقي لموسى عليه السلام حتى يبعثه الله رسولًا، ويتم عليه نعمته ويجيء إلى الطور على قَدَر.

 

وإلى ذلك كله يشير الله عز وجل؛ حيث يقول في سورة طه مبينًا ما أصاب موسى من الهمِّ والغمِّ بعد مقتل القبطي واستصراخ الإسرائيلي به في اليوم الثاني وهروبه إلى أرض مَدْين ومكثه بها ما شاء الله أن يمكث فيقول: ﴿ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ [طه: 40، 41].

 

ويقول الله عز وجل في سورة القصص: ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ * فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 15 – 28].

 

وقد ذكرت في قصة شعيب عليه السلام أنَّه لم يكن صِهْر موسى عليه السلام، وأن الشيخ الكبير الذي زوَّج موسى عليه السلام ابنته في مَدْين هو رجل صالح من بقايا من آمَن بشعيب عليه السلام، وذكرت ما يدلُّ على ذلك من كتاب الله تبارك وتعالى في هذا المقام.

 

هذا، وأما ما اشتهر عند الناس من حديث الفتون الذي ذكره النسائي في كتاب التفسير من سننه المتضمِّن قصة موسى مبسوطة مِن أولها إلى آخرها الذي رواه النسائي، فقال: حدثنا عبدالله بن محمد، حدَّثنا يزيد بن هارون، حدثنا أصبغ بن زيد، حدثنا القاسم بن أبي أيوب، أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبدالله بن عباس عن قول الله تعالى لموسى: ﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ﴾ فسألته عن الفتون: ما هي؟ فقال: استأنِف النَّهار يا ابن جبير فإن لها حديثًا طويلًا، فلما أصبحتُ غدوتُ إلى ابن عباس لأتنجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فساق الحديث، قال ابن كثير في تاريخه بعد أن ساقه: هكذا ساق هذا الحديث الإمام النسائي وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث يزيد بن هارون، والأشبه والله أعلم أنه موقوف، وكونه مرفوعًا فيه نظر، وغالبه متلقًى من الإسرائيليات، ثم قال: وفي بعض ما فيه نظر ونكارة، والأغلب أنه من كلام كعب الأحبار، وقد سمعتُ شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك، والله أعلم.

 

وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى