السعي وراء الحقائق دأب كل عاقل
السعي وراء الحقائق دأب كل عاقل
ليس شيء كالانتقاد مظهرًا للعيوب كي تجتذب، ومبينًا للخطأ ليصلح، ومميزًا للصواب من الخطأ ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد: 17].
فالانتقاد يمحص الحقائق، ويثير الأذهان، ويُوسِّع نطاق العقول، ويبرز الحقيقة من خفايا الوجود بأبهى حُللها وأجمل بُرودها، تتجلَّى للرائين كالغزالة عند الطلوع، فتعشو عند ذلك عيونُ المكابرين، فيرتد بصَرُهم خاسئًا وهو حسير.
وليس من أمة حطَّت عنها أعباء الكسل، ورمت بإهمالها إلى أقصى مكان، إلا كان الانتقاد هو الداعي الأكبر، والسبب الأقوى في تقدمها؛ ولذلك نرى أن مقدار ارتقائها إلى أوج السعادة في المعرفة والمدنية، بكثرة عدد المنتقدين فيها، واقتدارهم على معرفة مواضع النقد ليظهروها، وحذقهم بمحال العلة فيخرجوها، وما المنتقدون إلا كالأطباء، يرون العِلَل وأسبابها، فيعملون على تطهير البدن منها، ويصفون لها من العلاجات والأدوية ما يكون عاملًا على إخراجها، وإراحة الجسم من أذاها، هذا إذا كان الطبيب نطاسيًّا حاذقًا، يقيس الأشباه بالأشباه والنظائر بالنظائر؛ وليس فهمه قاصرًا على درسه، وإلا فيكون ضرره أكبر، وخطبه أعظم.
إن السعي وراء الحقائق دأبُ كل عاقل يربأ بنفسه أن يرد موارد الأوهام والظنون، وشنشنة المرء الذي لا يهمه إلا التنقيب عما هو حقيقة راهنة لا تقبل الإبهام، فمعرفة الحقيقة واستطلاع شؤونها غاية ما يتطلبه العقلاء، ومنتهى ما يسعى لأجله الأدباء.
وقد زعم قوم أن لا حقيقة في الوجود، وهذا قول صادر عمَّن لا رؤية له ولا تعقُّل، إن قصد به نفي الحقيقة، وقد يكون له وجه من الصحة، إن قصد بذلك أن الحقيقة مستورة بأباطيل المبطلين، وأستار المموِّهين، الذين يرون الحق أبلج، غير أنهم يعدلون عن الجهر به لأغراض لهم: كخوف من مُسْتبدٍّ، أو خجل من الإقرار بالخطأ، وغير ذلك، فإن كان المدعي من هذا القسم فهو ممن يمكن إقناعهم وإرجاعهم إلى الوجه الحق بالبراهين والأدلة التي لا تقبل الردُّ.
ومتى ثبت أن في الوجود حقيقةً راهنةً، فلا بُدَّ من السعي وراءها، وذلك دأْبُ من تحرَّكت في جسمه عاطفة الأدب، وجرى في جثمانه دم النُّبْل غير أن معرفة هذه الحقيقة صعبة على من لم يحلِب الدَّهْرَ أشْطُرَه، ويعرف حُلوه ومُره؛ لأن تحصيل هذه المعرفة يتوقف على إذكاء نار الجد، وإيقاد جذوة الطلب والاجتهاد، والمباحثة والمذاكرة، والرد والاعتراض، والمناقشة والانتقاد.
فقد عرف فائدة ذلك العقلاء، فدرجوا عليه، وتحقَّقُوا فوائده، فاتخذوه أساسًا لأعمالهم، ورائدًا لهم في أمورهم، حوِّل نظرك إلى تاريخ مَن تقدَّم من سلف العلماء فترى أن مجالسهم كانت تغص بالأدباء، وتموج بأمواج العلماء، هذا يفيد، وذاك يعترض، والآخر ينتقد، ووجهة الكل واحدة، وهي نصرة الحق، وإظهار الصحيح من قواعد العلم، اللهم إلَّا ما شذَّ عن ذلك، وهم قليل لا يُعبأ بهم، ولا يُلتفَت إليهم.