اليسع وذو الكفل عليهما السلام
اليسع وذو الكفل عليهما السلام
نتحدَّث في هذا الفصل عن نبيين كريمين من أنبياء الله تعالى؛ وهما اليسع وذو الكفل عليهما الصلاة والسلام، وقد ذكر الله تبارك وتعالى اليسعَ في كتابه مرتين، فذكره في جملة الأنبياء الذين أعطاهم الله تعالى الحُجَّة على قومهم، وأمرَ رسوله صلى الله عليه وسلم أن يَقتدي بهم، فقال تعالى في سورة الأنعام:
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 83 – 86]، ثم قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام: 90].
وذكر اليسع مرة أخرى في جملة الأنبياء الذين أمر رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتأسَّى بهم في الصبر على أذى قومه له، فقال تعالى في سورة (ص): ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 17]، وبعد سياق قصة داود قال: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 30].
وبعد سياق قصته ذكر من كان أشد منهما ابتلاء وهو أيوب عليه السلام، وقال في آخر قصته: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].
ثمَّ قال: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾ [ص: 45]، ثم قال: ﴿ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ﴾ [ص: 48].
واليَسع: اسم يمكن أن يكون عبرانيًّا، ويمكن أن يكون عربيًّا، قال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير سورة الأنعام: “وقرأ الجمهور ﴿ وَالْيَسَعَ ﴾ كأن “أل” أُدخلت على مضارع وسع، وقرأ الأخوان – يعني بهما حمزة والكسائي – والليسع على وزن فيعل نحو الضيغم، واختلف في: أهو عربي أم أعجمي، فأما على قراءة الجمهور وقول من قال: إنه عربي فقال: هو مضارع سمِّيَ به ولا ضمير فيه، فأعرب ثم نُكر وعُرف بأل، وقيل: سمي بالفعل كيزيد، ثم أدخلت فيه أل زائدة شذوذًا كاليزيد في قوله:
رأيتُ الوليدَ بن اليزيد مُباركًا
ولزمت كما لزمته في الآن، ومَن قال: إنَّه أعجمي فقال: زيدت فيه أل ولزمت شذوذًا، وممن نصَّ على زيادة أل في اليسع أبو علي الفارسي، وأما على قراءة الأخوين فزعم أبو علي أن أل فيه كهي في الحارث والعباس؛ لأنهما من أبنية الصفات، لكن دخول أل فيه شذوذ عمَّا عليه الأسماء الأعجمية؛ إذ لم يجئ فيها شيء على هذا الوزن، كما لم يجئ فيها شيء فيه أل للتعريف، وقال أبو عبدالله بن مالك الجياني: ما قارنت أل نقله كالمسمَّى بالنضر أو بالنعمان أو ارتجاله كاليسع، والسموأل فإنَّ الأغلب ثبوت أل فيه، وقد يجوز أن تحذف؛ فعلى هذا لا تكون أل فيه لازمة؛ واتَّضح من قوله أن اليسع ليس منقولًا من فعل كما قال بعضهم؛ اهـ.
ثم قال أبو حيان: وهذه الأسماء الأعجمية لا تجرُّ بالكسرة ولا تنوَّن إلا اليسع فإنه يجرُّ بها ولا ينون، وإلا لوطًا فإنه مصروف لخفة بنائه بسكون وسطه وكونه مذكرًا وإن كان فيه ما في إخوته من مانع الصرف وهو العلمية والعجمة الشخصية؛ اهـ.
هذا، وكون اليسع هو ابن أخطوب أو ابن العجوز أو كان اسمه الأسباط ابن عدي من ذرية يوسف بن يعقوب عليه السلام، أو هو ابن عم إلياس، وكان مستخفيًا معه بجبل قاسيون، وأنه خلف إلياس في قومه أو كان ببانياس من أرض الشام – فإنَّ هذه الأقوال كلها لا تستند إلى دليل صحيح، وفيما ذكره الله عز وجل عنه في محكم كتابه كفاية، والعلم عند الله عز وجل.
أمَّا ذو الكفل، فقد ذكره الله تبارك وتعالى كذلك مرتين في كتابه الكريم، فذكره في سورة الأنبياء في جملة من المرسلين بعد قصة أيوب عليه السلام ليتأسَّى بهم رسولُ الله محمدًا صلى الله عليه وسلم في الصبر على أذى قومه، فقال عز وجل: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنبياء: 85، 86].
كما ذكره الله عز وجل في سورة (ص) بعد قصة أيوب أيضًا حيث قال عز وجل: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ﴾ [ص: 45 – 48].
وقد زعمَ بعضُ الناس أنَّ ذا الكفل لم يكن نبيًّا، ونسبوا هذا القولَ المردود إلى بعض السلف، معتمدين على أخبار مدسوسة إسرائيليَّة، لم يصح منها خبرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتبادر مِن سياق القرآن العظيم يثبت أنه من الأنبياء العظام الذين أمر الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يتأسَّى بهم؛ إذ قرنه في سورة الأنبياء بجملة من عظماء المرسلين، ثم قرنه في سورة (ص) بجملة من هؤلاء السادة المرسلين بعد أن أمر محمدًا صلى الله عليه وسلم بالصبر تأسيًا بهؤلاء، ومنهم ذو الكفل عليه السلام، والقاعدة عند الأصوليين أن الأصلَ وجوب العمل بظاهر اللفظ حتى يرِدَ دليلٌ يصرفه عن هذا الظاهر، ولم يرد دليل صحيح يثبت أن ذا الكفل لم يكن من جملة الأنبياء.
أما ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد بأن اليسع عليه السلام استخلفه بعد أن كبر اليسع واشترط عليه أن يصوم النهارَ ويقوم الليل ولا يغضب، وأنه كان تزدريه العين، وأنه وفَّى بما اشترطه عليه اليسع – فهذا من أساطير بني إسرائيل، وكذلك ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري بأنه خطب فقال: لم يكن ذو الكفل نبيًّا، فهو خبر في سنده اضطرابٌ، وعليه الشنشنة المعروفة عن بني إسرائيل.
فأما الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد من طريق أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن عبدالله بن عبدالله، عن سعد مولى طلحة، عن ابن عمر أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعَ مرات أو أكثر قال: “كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورَّع من ذنب عمله، وأنه جاءته امرأة محتاجة، وأنه أعطاها ستين دينارًا ليقارفها، وأنها بكت عندما جلس منها مجلس الرجل من زوجته، فقام وتاب وأعطاها الدنانير، وأنه مات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه: قد غفر الله للكفل”؛ وقد رواه الترمذي من حديث الأعمش به، وقال: حسن، وذكر أن بعضهم رواه فوقفه على ابن عمر، فهو كذلك من دسائس بني إسرائيل ضد أنبياء الله ورسله، قال ابن كثير في قصص الأنبياء من البداية والنهاية: “هو حديث غريب جدًّا، وفي إسناده نظر”.
وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.