المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن (3)
المضامين التربوية المستنبطة
من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن مقال رقم (3)
(كيف وظَّف يوسف عليه السلام فترة تواجده بسجن عزيز مصر التوظيفَ الأمثل؟)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
فاستكمالًا لِما تمَّ طرحُه في المقال الأول والثاني حول هذا الموضوع لهذه الفترة من حياة نبي الله يوسف عليه السلام، على الرابط:
المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن
المضامين التربوية المستنبطة من فترة وجود يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن (2)
وما تضمنته من مضامينَ تربوية، حاولت جاهدًا استنباطها؛ لأن المقصود الأعظم من قراءة كتاب الله أن يتدبر القارئ الآياتِ القرآنية؛ ليسترشد بها في حياته، ولا شك أن قصص الأنبياء من المصادر العظيمة التي لا يَنْضُبُ مَعِينها الصافي، مهما تدبر المتدبرون لها؛ لذا أطرح بين يدي القارئ الملمحَ الثالث من ملامح هذه الفترة من حياة يوسف عليه السلام، وأسْمَيْتُه: كيف وظَّف يوسف عليه السلام فترة تواجده بسجن عزيز مصر التوظيفَ الأمثل؟
وسوف أحاول جاهدًا أن أُبْحِرَ بفكري في استنباط بعض المضامين التربوية منها؛ لعل الله أن ينفعنا بها، وينفع بها من يطالعها، والله الهادي لسواء السبيل.
فالآيات المتعلقة بهذه الفترة تبدأ من الآية (35) إلى الآية (42)؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 35 – 41].
فأقول مستعينًا بالله:
كيف وظف يوسف عليه السلام فترة تواجده بسجن عزيز مصر التوظيف الأمثل؟
الأصل أن السجن عقوبة، ومعالجة للمجرمين، ولمن لديهم مخالفة منصوص عليها في اللوائح والأنظمة الشرعية، أو الوضعية التي وُضِعت لضبط أمن المجتمع واستقراره، ولكن ليس كل من دخل السجن كان دخوله لنقيصة أو عيب أو جُرم أحْدَثَه؛ فربما يُبتلى به بعض الشرفاء والنبلاء لوشاية كاذبة أو نحو ذلك، ومنهم نبي الله يوسف عليه السلام؛ فقد أُودع في السجن ظلمًا وبهتانًا، مع وضوح الدلائل والبراهين على براءته مما اتُّهِم به؛ قال الله تعالى على لسانهم: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 35]، و﴿ الْآيَاتِ ﴾، هنا المقصود بها الأدلة الدالة على براءة يوسف عليه السلام، واتضح لهم ذلك الأمر وضوح الشمس في رابعة النهار، ومع ذلك رأوا أن يُسجَنَ يوسف عليه السلام حتى حين؛ أي: إلى وقت آخر؛ قال السعدي رحمه الله: “أي: لينقطع بذلك الخبر، ويتناساه الناس، فإن الشيء إذا شاع، لم يزل يُذكَر، ويشيع مع وجود أسبابه، فإذا عُدِمت أسبابه نُسِىَ، فرأوا أن هذا مصلحة لهم؛ فأدخلوه في السجن”؛ [ج2، ص413].
وهناك في السجن تبدأ مرحلة جديدة من حياة نبي الله يوسف عليه السلام، نعيش مع أحداثها، وبعض المضامين التربوية المستنبطة منها، في هذا المقال بإذن الله.
فيوسف عليه السلام بعد طِيبِ العيش الذي كان يعيشه عليه السلام، في منزل عزيز مصر، وحسن المثوى – يتغير الحال به إلى السجن بين الجدران الأربعة، في بيئة خشنة لم يعرفها في حياته، تأتي بعد نعمة ورفاهية، فكيف يعيش هذه المرحلة؟ وكيف يتعامل مع هذه الفترة؟
إن أصحاب المبادئ والقيم، يحافظون على قيمهم ومبادئهم أينما كانوا؛ فيعيشون بها عِظامًا، ويموتون بها كبارًا، فيكونون لمن حولهم أقمارًا منيرة تضيء لهم غَيَاهِب الظلم، وأعظم ممن يتمثل هذه القيم والمبادئ واقعًا ونموذجًا مطبَّقًا في الحياة، وليس نظرية تُقْرأ وتُكْتب من بروج عالية – هم رسل الله وأنبياؤه، ومن سار على نهجهم، واقتبس من أضوائهم المنيرة؛ لذا يصور لنا القرآن الكريم شيئًا من هذه العظمة، في شخص رسول الله عليه السلام يوسف؛ بأن اختار السجن، بما تحمل كلمة السجن من معانٍ تقشعر منها الأبدان، وتصم منها الآذان، ولكن العظماء والشرفاء دائمًا يختارون ما يتماشى مع مبادئهم وقيمهم، ولو كان على حساب ذواتهم وأنفسهم.
وتبدأ هذه الفترة وأحداثها بعد قرارهم بإيداع يوسف عليه السلام السجنَ؛ بقول الله تعالى: ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].
قال السعدي رحمه الله: “ولما دخل يوسف السجن، كان في جملة من ﴿ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ﴾؛ أي: شابان، فرأى كل واحد منهما رؤيا، فقصَّها على يوسف ليعبُرَها… وقولهما: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾؛ أي: من أهل الإحسان إلى الخَلْقِ، فأحسِن إلينا في تعبيرك لرؤيانا، كما أحسنت إلى غيرنا، فتوسَّلا ليوسف بإحسانه”.
وهكذا نبدأ رحلة جديدة مع حياة يوسف عليه السلام، في مرحلة جديدة، وبيئة جديدة؛ إنها مرحلة السجن، وبيئة السجناء، وانتصار المبادئ والقيم، والثبات عليها، رغم التحديات والمغريات التي تعرَّض لها نبي الله يوسف عليه السلام.
والآية السابقة تحدد لنا بكل دقة أن يوسف عليه السلام دخل السجن ودخل معه فَتَيَانِ، ولم تتطرق الآيات لمدة المكوث، وكذلك لأسماء الفتيان، بل إن الأسلوب القرآني يختصر لنا هذه الفترة، وما حدث فيها من أحداث، بذكر بعض الأحداث التي تبرز شخصية يوسف عليه السلام، بعيدًا عن تحميل الفترة ما لا تتحمل من الاشتغال بما لم يتطرق له القرآن، أو تنص عليها السنة النبوية الصحيحة، وهذا معيار من معايير تعاملنا مع تفسير الآيات القرآنية؛ وهو الالتزام بما ذكره القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة لا غيرهما؛ فهذه الفترة تُجسِّد ما يمتلك يوسف عليه السلام، من مقومات إصلاح ظاهريٍّ، وحسن تعامل مع مَن حوله مِنَ السجناء، في هذه البيئة التي أودع فيها أولئك السجناء، بحسب أحوالهم وأسباب إيداعهم؛ فكلٌّ بحسب حاله.
فكانت تلك المقومات المذكورة آنفًا في شخصية يوسف عليه السلام، كانت لافتة وجاذبة لمن كان حول يوسف عليه السلام، بل أصبحت مَعْلَمًا بارزًا من معالم شخصيته عليه السلام؛ فتضمنت الصلاح الظاهري ليوسف عليه السلام كما قلنا، وكذلك الإحسان الخارجي للآخرين بحسن تعامل يوسف عليه السلام معهم، فهذان المقوِّمان أو الْمَعْلَمَان من شخصية يوسف عليه السلام كان لهما أبلغ الأثر في التأثير في سلوك المحيطين به، وكل ذلك وأبعد من ذلك؛ من المبادئ، والأخلاق، والقيم، والمعالم التي نسجتها شخصية يوسف عليه السلام في هذه الفترة، كان لها أثر بالغ في تحويلها من جانب نظري مجرد، لا يحقق التأثير، إلى سلوك تطبيقي عملي مُشاهَد للعِيان، يقود الآخرين للتأثر والتقبُّل؛ ولذا قال الفتيان في نهاية رؤيتهما ليوسف عليه السلام: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]، إذًا سبب قصة رؤيتهما ليوسف عليه السلام أنهما كانا يريانه من المحسنين، كيف عرفا ذلك؟
عرفا ذلك من خلال تعامل عليه السلام وإحسانه لمن حوله، وهم من ضمن من كان معه في تلك البيئة، وهكذا تتحول المبادئ والأخلاق والقيم لدى أصحابها من جانب نظري لا حياة فيه، إلى جانب سلوكي تطبيقي عملي تسري فيه الحياة، لينتقل للآخرين بكل سهولة ويسر، من خلال تطبيقها في حياتهم، وهم يَدْعُون الآخرين إليها.
وهنا نلمح بكل دقة أن يوسف عليه السلام نجح في لفت انتباه من حوله من السجناء في هذه البيئة، بهذه الصفات الجاذبة، ويتضح ذلك جليًّا من خلال ما ذكره الفتيان السجينان لسبب طلبهما ليوسف عليه السلام أن يَعْبُرَ لهما رؤياهما؛ حيث إنهما ذكرا أنهما يريانه من المحسنين.
وهنا استهلَّ يوسف عليه السلام مع هذين السجينين التوظيف الأمثل لهذه الفترة التي أشرنا إليها في حديثنا؛ فلم يتعجل عليه السلام في تعبير الرؤيا لهما، بل طَمْأنَهما أنه لا يأتيهما طعام يرزقانه، إلا أخبرهما بتأويل رؤياهما قبل أن يأتيهما ذلك الطعام.
قال السعدي رحمه الله: “ولعل يوسف عليه السلام قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال التي بدت حاجتهما إليه، ليكون أنجعَ دعوته، وأقبل لهما”؛ [ص 414]، قلت: ويتضح هذا من قول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ [يوسف: 37] إلى قوله عز وجل: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].
وهذا العرض من يوسف عليه السلام مع السجينين لدعوته، بعدما تقرر لديه بأنهما رأياه بعين التعظيم والإكبار لِما هو عليه من هذا التعامل الذي شدَّ انتباههما؛ فأخذ يرغِّبهما في اتباع للحق والهدى.
قال السعدي: “ذكر لهما أن هذه الحالة التي أنا عليها، كلها من فضل لله وإحسانه؛ حيث منَّ على بترك الشرك، وباتباع ملة آبائي، فبهذا وصلت إلى ما رأيتما، فينبغي لكما أن تسلكا ما سلكت؛ ثم صرح لهما بالدعوة فقال: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39]”؛ [ج2، ص414].
وما بين ذلك أخذ يوسف عليه السلام يوظِّف هذا الحدث للهدف الأسمى لديه؛ الدعوة إلى الله عز وجل، فينسب الفضل والمعرفة أولًا إلى الله سبحانه وتعالى، فهو من أكرمه بهذا العلم، وهذا التأويل للرؤيا والحديث، ثم شرع عليه السلام يذكر لهما في دعوته لهما؛ أنه ترك ملة القوم الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، بل هم كافرون بذلك، وأكَّد عليه السلام في دعوته لهما أنه متَّبِعٌ لملة آبائه إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، الذين هم مؤمنون بالله واليوم الآخر.
وهنا ربما يُثار سؤال لدى القارئ من قول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام، وهو يخاطب الفتيان: ﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 37]: هل يوسف عليه السلام كان على غير ملة إبراهيم؟
فيجيب السعدي على هذا التساؤل؛ فيقول: “والترك كما يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه، يكون لمن لم يدخل فيه أصلًا، فلا يُقال: إن يوسف، كان من قبل، على غير ملة إبراهيم”؛ [السابق، ص 414].
وكذلك يُثار سؤال آخر؛ وهو لماذا لم يَرِد ذكر إسماعيل عليه السلام في قول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ [يوسف: 38]؟
ويجيب على هذا التساؤل بأن يوسف عليه السلام ليس من ذرية إسماعيل عليه السلام، بل من ذرية إسحاق؛ فلا يصح ذكر إسماعيل هنا؛ [بتصرف من روائع البيان القرآني (2023)، فاضل السامرائي، رابط: https://2u.pw/lwwSo7bD].
ثم فسَّر يوسف عليه السلام تلك الملة – أي: ملة إبراهيم – بقوله: ﴿ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [يوسف: 38]؛ أي: بأن نفرد الله بالتوحيد، ونخلص له الدين والعبادة، وهذا فضل ومنة وإحسان من الله علينا، وعلى من هداه كما هدانا.
ثم يقرر يوسف عليه السلام الحقيقةَ التي تأكدت في أكثر من موضع وآية، أن أكثر الناس لا يشكرون الله، ومن ثَمَّ فلا يتبعون الحق؛ ولذا فليس الأكثرية دلالة قاطعة على اتباع الحق والصواب؛ ومن ثَمَّ فهي تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يرى الجفاء من أهله بمكةَ، وقلة الداخلين في الإسلام في بداية دعوته، سيما من كبار القوم وصناديدهم، وفي نفس الوقت فيها تسلية للدعاة إلى الله عز وجل بعد الرسول عليه السلام بألَّا يصيبهم الإحباط عندما يدعون إلى الله، ثم لا يتبعهم إلا الأقلية، ويبقى الغالبية والأكثرية على ما هم عليه من الانحراف وضعف الانقياد للحق واتباعه.
ثم تدرَّج يوسف عليه السلام من الدعوة غير المباشرة لهما إلى الحوار والدعوة المباشرة لعبادة الله وحده وترك ما سواه؛ فقال لهما عليه السلام: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 39، 40].
فبعدما رغبهما في المنهج الصحيح، خاطبهما بياء النداء المباشر الذي يشد المنادى إلى الانتباه والتركيز لِما سيأتي بعد النداء؛ فقال لهما: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ… وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 39، 40].
وهكذا نجح يوسف عليه السلام في توظيف هذا الحدث لمبادئه وقِيَمِهِ التي تنبثق من عقيدته وإيمانه، واعتزازه بها في كل وقت وزمان، ثم إنه عليه السلام نوَّع في استخدام الأساليب التربوية في دعوته ما بين مباشر وغير مباشر؛ فالأسلوب غير المباشر قد يكون مؤثرًا في النفس وفي القناعات الداخلية للمخاطب، فلا يكون المخاطب متأهبًا للرد، بل إنه يستمع إليه ويحلله تحليلًا عقليًّا منطقيًّا بعيدًا عن الذات؛ فيكون له التأثير في كثير من الأحيان لقبول الحق واتباعه، بخلاف الأسلوب المباشر؛ فإنه عادة المخاطب يكون مستعدًّا ومتأهبًا للردِّ، وهذا ما يفوِّت عليه الاستماع الجيد، والتحليل العقلي المنطقي للخطاب، ومن ثَمَّ فلا يستفيد من ذلك الخطاب؛ فربما يُعرِض ويرفض قبول الحق، إلا إذا بلغ بتربية نفسه درجة عالية من القبول للحق والانقياد له، فيوسف عليه السلام استخدم في البداية أسلوبًا غير مباشر، فكان يخاطب عليه السلام في السجينين الفطرة التي الأصل فيها الاستعداد لقبول الخير والانقياد له، محاولًا نَفْضَ ما عليها من غشاوة الهوى والضلال أثناء مخاطبة صاحبها، فإذا بها تضيء الطريق نورًا لصاحبها، وتجذبه للحق انجذابًا، ثم شرع عليه السلام يتحاور معهما حوارًا عقليًّا مباشرًا، حول حقيقة من يعبدون ويرجون، ويدعون ويسألون، ويسلمون له الأمر كله.
فأثار سؤالًا استفهاميًّا يجعل العقل يأخذ حيزًا من التفكير في الإجابة المقنعة، بعيدًا عن السذاجة، وبعيدًا عن التعصب الممقوت والتبعية الممقوتة التي تصدر ممن يعطل نعمة العقل والفكر، اللتين هما من أجل نِعَمِ الله على الإنسان؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].
فمن يستحق أن يكون ربًّا معبودًا؟ وما هي صفات استحقاقه لتلك العبودية؟
إن الذي يستحق أن يكون ربًّا يُعبَد ويُطاع أمره ويُتَّبع شرعه، هو الله الواحد القهار، وما سوى ذلك من المعبودات؛ فهي غير مستحقة لذلك، وهي مقهورة مغلوبة أمام الله القهار، القاهر لكل شيء في كل زمان ومكان، والمطلع سبحانه على كل شيء قبل أن يكون كيف يكون، ومتى يكون.
فإذا تقرر هذا التصور لدى الإنسان انقاد له سلوكًا تابعًا لذلك التصور، متوافقًا معه؛ فالسلوك تابع للتصور ومنقاد له إيجابًا وسلبًا.
ثم يذكر يوسف عليه السلام لهم صراحة تعييب آلهتهم المزعومة؛ بقوله: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ [يوسف: 40]؛ قال ابن القيم رحمه الله: “فإنهم سمَّوها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها، وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى، فما عبدوها إلا أسماء، لا حقائق لمسمياتها”؛ [ابن القيم، ص316].
ثم بعد هذه التجلية من يوسف عليه السلام لهذه المسميات الجوفاء وحقيقتها بهذه المحاورة العقلية المقنعة، يبين لهم أن حقيقة الأمر هو العبودية الخالصة لله رب العالمين وحده دون سواه، بمفهومها الشامل؛ فقال تعالى على لسانه: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40].
وهنا نسلط الضوء على معنى العبودية بمفهومها الشامل الوارد في الآيات؛ وهي الخضوع والذل التام للمعبود بحقٍّ في كافة مجالات الحياة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
فالعبادة بمفهومها الشامل ركيزة أساسية في إصلاح النفس الإنسانية واستقامتها نحو الهدف الأساسي للوجود الإنساني في هذه الحياة، ولقد تطرقت لهذا الجانب في رسالتي للماجستير (تنمية القيم الأخلاقية في المرحلة الثانوية من خلال الأنشطة غير الصفية)؛ فوجدت العملية الإحصائية للبحث حصول أن التربية بالعبادة بمفهومها الشامل: بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال، والظاهرة والباطنة، وهذا تعريف ابن تيمية رحمة الله للعبودية، حصلت على الترتيب الأول والثاني، وهذه النتيجة العالية من وجهة نظر أفراد العينة، تدل على أهمية استخدم أسلوب التربية بالعبادة، بمفهومها الشامل، فمن يحافظ على العبادة بمفهومها الشامل، تكتمل حياته وتتزن، وترتقي قِيَمُها الأخلاقية، وتسمو به في أمور دينه ودنياه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]؛ [الحسني، 1427هـ، ص278].
لذا كان تأكيد يوسف عليه السلام هذا المعنى لمفهوم العبادة؛ وهو التسليم المطلق لله عز وجل بكل خضوع وذل ومحبة، في كل ما يحبه الله ويرضاه.
ثم في نهاية المطاف لهذه الفترة، شرع يوسف عليه السلام في تأويل رؤية السجينين؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41]، ثم لم يترك لهما فرصة في الأخذ والرد؛ وذلك بقوله: ﴿ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41]، ثم أوصى يوسف عليه السلام السجين الذي ظن – أي: اعتقد – أنه سيخرج من السجن بقوله: ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ [يوسف: 42].
ولبث يوسف عليه السلام بعد خروج السجين الناجي الذي أوصاه أن يبلغ أمره إلى الملك، مكث بضع سنين، والبضع ما يتراوح من الثلاث إلى التسع، ولهذا قيل: إنه لبث سبع سنين، ولما أراد الله أن يتم أمره، ويأذن بإخراج يوسف، قدَّر لذلك سببًا لإخراج يوسف، وارتفاع شأنه، وإعلاء قدره؛ وهو رؤيا الملك؛ [السعدي، 1410هـ، ج: 4، ص: 199].
المضامين التربوية المستنبطة من المحور الثالث: كيف وظَّف يوسف عليه السلام فترة تواجده بسجن عزيز مصر التوظيفَ الأمثل؟
1- من معايير التعامل القيِّم مع تفسير الآيات القرآنية الالتزامُ بما ذكره القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة لا غيرهما، والبعد عن تحميل الآيات ما لم تتطرق إليها من تحديد الأسماء أو الأزمان أو غيرهما؛ ولذا ذكر الله مَن دخل مع يوسف السجن وهما الفتيان، ولم يتطرق لذكر الأسماء أو فترة المكث، وكذلك السنة النبوية الصحيحة لم تتعرض لهذا الجانب؛ فالالتزام بهذا الجانب من المعايير الضرورية للتعامل مع ما ورد في كتابه العزيز.
2- إذا ابتُلِيَ العبد المؤمن بالاختيار بين أمرين؛ إما معصية، وإما عقوبة دنيوية، فعليه أن يختار العقوبة الدنيوية، على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة، في الدنيا والآخرة؛ [السعدي، 1408هـ، ج: 2، ص: 447]؛ فيوسف عليه السلام اختار السجن على المعصية: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33].
3- إن القِيَمَ إن لم تتحول إلى سلوك عملي في حياة أصحابها دون تكلف وتصنُّع، وإلا ستبقى في دائرة التنظير والترف الفكري، ولن تصل للآخرين أو للدائرة المسؤول عنها الإنسان المنظِّر؛ لذا لما سُئِلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ((كان خلقه القرآن))؛ أي: كان متمثلًا الخلق القرآني في حياته العملية، هنا فقط تتحول القيم وتنقل للآخرين من الأتباع، وهذا ما كان متمثلًا في يوسف عليه السلام في سجن العزيز؛ حتى قال له الفتيان: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].
4- الابتداء بالأهم فالأهم أولًا، من أهم قواعد النجاح في الحياة في كافة المجالات؛ فيوسف عليه السلام رأى أن دعوة السجينين إلى الله أولَى بالتقديم من تفسير رؤياهما، وهكذا قدم الأهم فالأهم؛ فعلى المربِّي والداعية والأب والمسؤول، والمسلم في العموم، الإلمامُ بهذه القاعدة التربوية الاجتماعية الإدارية الدعوية، التي لا غِنى عنها للمسلم في التطبيقات الحياتية.
قال السعدي رحمه الله: “وأنه إذا سُئل المفتي، وكان في حاجة أشد لغير ما سأل عنه، فإنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله”؛ [السعدي، 1409هـ، ج: 2، ص: 448].
5- إن أصحاب المبادئ والقيم يعيشون عِظامًا ويموتون كبارًا، وأعظم ممن يتمثل هذه القيم والمبادئ واقعًا ونموذجًا مطبقًا في الحياة، وليس نظرية تُقرَأ وتكتب من بروج عاتية، هم رسل الله وأنبياؤه، ومن سار على نهجهم، واقتبس من أضوائهم المنيرة.
6- التوحيد أولًا؛ فهو الأولى بالتقديم، ثم المطالبة بالمقتضيات واللوازم الأخرى شيئًا فشيئًا؛ “فلا يقدم الفروع على الأصول، والأحكام الجزئية على الكليات والقواعد الشاملة، وألَّا يقابلوا الغافلين والواقعين في الظلال الاعتقادي والعملي بالكراهية، والاحتقار، والازدراء، بل عليهم أن يوجهوا فكرهم إلى علاجهم ومواساتهم”؛ [ماضي، 1414هـ، ص: 84، 85].
7- إن استشعار العقيدة والتوحيد دلالة على نقاء الفطرة، وروحانية المستشعر؛ لأنها قضية قلبية إيمانية، لها انعكاساتها السلوكية في واقع الحياة، وهي في متناول الناس جميعًا لو اتجهوا إليها وأرادوها؛ فالفِطَرُ مجبولة في الأصل على حب الخير والصلاح والانقياد لذلك، ولكن تحتاج إلى تنظيف وإزالة وتجلية لبعض الشبهات والشهوات المحيطة بها؛ حتى تستيقظ من غفلتها، وفي الوجود من حولهم موحيات ودلائل لذلك، وفي رسالات الرسل ودعوتهم بيان وتقرير لذلك.
8- الصلاح الظاهري للإنسان ذاتيًّا مع حسن تعامله مع الآخرين مجتمعيًّا، مما يولد الثقة للآخرين فيه ويجذب الآخرين إليه؛ فيوسف عليه السلام كسب ثقة المسجونين حين توافق الصلاح الظاهر لديه، مع حسن التعامل مع الآخرين، عاملهم باللين والرقة والرحمة، حتى إذا ألقى بأمر دينه وعقيدته، وجد نفوسًا مهيئة، وقلوبًا متفتحة، وآذانًا مصغية.
9- استثمار الفرص والمناسبات لإيصال الرؤى والأفكار للآخرين بالسلوك العملي من خلال المعايشة والتعامل الهادف، فالناس يتأثرون بالسلوك المشاهد للشخص قبل أن يتأثروا بكلامه النظري: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].
10- إذا أردت أن تكسب الأشخاص لدعوتك ومبادئك وقيمك؛ فاكسب أولًا قلوبهم بحسن تعاملك، ورقي أسلوبك، وتقديم كل ما بوسعك من أجلهم: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].
11- الدعوة وإبلاغ الدين مسؤولية الجميع؛ فالداعية المصلح، والمربي المسلم عمومًا، والمسلم عمومًا حيثما كان، وأينما كان، وكيف كان، فلا يبرر بالوضع الذي يعيشه، والمحنة التي يمر بها، تخلِّيه عن دينه ودعوته، ومبادئه وقيمه؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].
12- إن النفوس العظيمة لا تُشغَل بالمحن والمصائب بعد وقوعها، بل تتجاوز الموقف، وتتعايش مع الواقع المحيط لإيصال ما لديها من مبادئَ وأفكار ورؤًى إلى الآخرين، بكل ثقة وإيجابية؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].
13- التريث وعدم التعجل في إبداء الرأي والمشورة للآخرين، إلا بعد دراسة كافية للجوانب المحيطة بهم، والتأمل للموقف وما يترتب عليه من إجراءات؛ ولذا يوسف عليه السلام لم يعبر للفتيان الرؤيا مباشرة، إلا بعد تريُّث وتأمل، وتوظيف للموقف لإيصال ما لديه من الخير والصلاح.
14- القيم والمبادئ والأخلاق الفاضلة تُزرَع، ولا تُفرَض في المجتمع، وزراعتها يكون من خلال السلوك المشاهد لأصحابها، والتطبيق العملي في واقع حياتهم: ﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].
15- الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة؛ قال ابن القيم رحمه الله: “فإنها إما أن توجب ألمًا وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتًا إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثْلِم عَرَضًا توفيره أنفع للعبد من ثَلْمِهِ، وإما أن تذهب مالًا بقاؤه خير من ذهابه، وإما أن تضع قدرًا وجاهًا قيامه خير من وضعه”؛ [ابن قيم الجوزية، 1408هـ، ص250]، فكفى بأصحاب العقول الرشيدة عبرة، أن تصبر عن الشهوة وتُقبِلَ على الطاعة، وإن وجدت فيها مضاضة وتعبًا آنيين، لكنها ستجد لذة وسعادة سرمدية.
ثم يكمل ابن القيم فوائد الصبر عن الشهوة؛ فيقول: “وإما أن تسبي نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقًا لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب همًّا وغمًّا، وحزنًا وخوفًا لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علمًا ذكرُه ألذ من نَيل الشهوة، وإما أن تشمت عدوًّا وتحزن وليًّا، وإما تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيبًا يبقى صفة لا تزول، فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق”؛ [السابق، ص250].
16- تأدُّب المسلم في العموم مربيًا كان أو داعية، وأيًّا كان موقعه، مع المنهج والهدف المحدد من دعوته للمخاطب، مهما كان نوع أو جنس المخاطب؛ من أجل إيصال الحق والتأثير الإيجابي في قناعات الآخرين – من الأساليب التربوية الإسلامية الناجعة للتأثير والتأثر؛ قال تعالى: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].
17- إذا صح التصور لدى شخص ما عن شيء ما، كان السلوك الناتج عنه موافقًا لذلك التصور، والعكس يكون صحيحًا، في حالة إذا كان التصور خاطئًا، فإن السلوك الناتج يكون خاطئًا؛ قال تعالى: ﴿ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف: 39].
18- إن التسويق للنفس المقصود منه عرض ما لديك لنفع الآخرين، وتصحيح أو تحسين ما لديهم من أخطاء ونواقص أساسية في بناء وتكامل المنظومة، واستقامتها من الأساليب التربوية المرغبة فيما لديك، فمن لا يرغب فيما لديك، فلن يتقبل ما لديك؛ فحسن التسويق مطلب مُلِحٌّ لإيصال ما لديك، ولا يُعَدُّ ذلك من التزكية المحظورة، إذا دعا الأمر إلى ذلك الوصف للاستفادة مما عنده من العلم أو الحكمة؛ ولذلك وصف يوسف عليه السلام نفسه للفتيين لما سألاه عن تعبير رؤياهما؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ [يوسف: 37].
19- أهمية تصحيح مفهوم العبادة الشامل ومراعاة التعريف اللغوي للعبادة؛ وهو الذل والخضوع، والاستسلام والانقياد المطلق لله عز وجل بكل خضوع وذل ومحبة، في كل ما يحبه الله ويرضاه.
20- إن ﺍﻟﻤﻌﺪِﻥَ ﺍﻷﺻﻴﻞ يبقى على أصالته في كل مكان وزمان، ولا ينصهر ويتغير بتغير الظروف المحيطة به، مهما كانت المحكَّات الخارجية الضاغطة؛ فيوسف عليه السلام قبل السجن وبعد وما بينهما محافظ على مبادئه وقيمه وأخلاقه: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36].
21- إن التغير للإيجاب أو السلب ابتداءً لا يكون إلا من الداخل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]؛ فلا يمكن أن يُجبَر الإنسان على فعل ما لا يريده، وهو على قناعة بما هو عليه، ولابد أن يكون مستعينا بالله على الثبات على ما هو عليه؛ فامرأة عزيز مصر، وهي سيدة ومالكة، وأغلقت الأبواب، وتهيأت للإغواء بجمالها ومالها وسلطانها؛ فقال يوسف عليه السلام: ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ ﴾ [يوسف: 23]، بل ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]، عندما اجتمع عليه النسوة مع امرأة العزيز على فعل ما حرم الله.
22- على المربي والموجِّه أيًّا كان موضعه؛ أبًا كان أو قائدًا أو مسؤولًا أو داعية، عليه أن يستخدم الأساليب التربوية المتنوعة في التوجيه والتربية، وتعديل السلوك في دعوته مباشرة وغير مباشرة، وغيرها من الأساليب التربية المتنوعة حسب الموقف والشخص، ومن أنجع الأساليب للتأثير وهز القناعات دون مقاومة آنية – الأسلوب غير المباشر: ((نعم العبد عبدالله لو كان يقوم الليل))، ((ما بال أقوام…”))، وكذلك فعل يوسف عليه السلام في دعوته للسجينين معه؛ فقد استخدم الأسلوب غير المباشر معهما، فالأسلوب غير المباشر قد يكون مؤثرًا في النفس وفي القناعات الداخلية للمخاطب؛ فلا يكون المخاطب متأهبًا للرد، بل إنه يستمع إليه، ويحلله تحليلًا عقليًّا منطقيًّا بعيدًا عن الذات؛ فيكون له التأثير في كثير من الأحيان لقبول الحق واتباعه، بخلاف الأسلوب المباشر؛ فإن المخاطب عادة يكون مستعدًّا ومتأهبًا للرد، وهذا ما يفوِّت عليه الاستماع الجيد، والتحليل العقلي المنطقي للخطاب، ومن ثَمَّ فلا يستفيد من ذلك الخطاب؛ فربما يُعرِض ويرفض قبول الحق، إلا إذا بلغ بتربية نفسه درجة عالية من القبول للحق والانقياد له.
المراجع المستفاد منه:
• القرآن الكريم.
• المكتبة الشاملة.
• ابن تيمية، أحمد بن عبدالحليم (1412): العبودية، تعليق: علي بن حسن بن علي، الأردن، دار الأصالة للنشر والتوزيع.
• ابن قيم الجوزية، (د.ت)، التفسير القيم للإمام ابن القيم، حققه: محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية.
• ابن قيم الجوزية، شمس الدين أبو عبدالله محمد (1408هـ)، الفوائد، ط2، حققه: بشير محمد عون، مكتبة المؤيد.
• السعدي، عبدالرحمن بن ناصر، (1408)، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، دار المدني، جدة.
• الحسني، عوض بن حمد، (1427)، تنمية القيم الأخلاقية في المرحلة الثانوية من خلال الأنشطة غير الصفية “دراسة ميدانية”، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، قسم التربية الإسلامية والمقارنة، جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
• ماضي، محمود (1414هـ)، سياحة إيمانية في سورة يوسف، دار المجتمع للنشر والتوزيع.