التعاملات التجارية.. هل كانت العملات موجودة أيام المصريين القدماء؟
ثقافة أول اثنين:
يرى عالم المصريات “بيرن”: “يظهر لي أنه من الأمور الصعبة أن أعترف بأن مدنية متقدمة من الوجهة التشريعية مثل المدينة المصرية عهد الدولة القديمة لا تعرف إلا نظام المبادلات بالمواد الطبيعية دون مقياس متفق عليه يحدد قيمتها مع أنها كانت تعرف بيع النسيئة، ومع أن لها نظام ضرائب ناضجًا، غاية في الإتقان، على أن نظام المبادلة بلا نزاع لا يتفق في سذاجته مع كل الدقة التي نلاحظها في نظام الوراثة، والبيع والوصايا، والقضايا التي كانت تنجم عن ذلك عندهم”.
والواقع أن كل ما لدينا من النقوش عن سير المعاملات ينحصر ظاهرًا في المبادلات، ففي كل مدينة وفي كل قرية كانت تقام سوق في المحال العمومية، وكان المدنيون والفلاحون يتقابلون هناك في أوقات معينة ويتبادلون سلعهم المتنوعة، فكان القوم يأتون من كل حدب وصوب راجلين، أو على ظهور حميرهم أو في زوارقهم النيلية، كل منهم يحمل منتجاته الزراعية أو الصناعية، فكان الفلاح يحمل مكتل خضره، والصياد يحمل سلة سمكه، والصانع الصغير الحر يحمل النعال التي صنعها أو أواني الفخار، أو قطع النجارة والزيت والعطور، والحلي من الخزف، وعصي الخيزران والمراوح، والشص، ومئات من الأشياء الأخرى التي كانت تستعمل في الحياة اليومية العادية، ولدينا مقابر عدة من عهد الدولة القديمة قد رسم عليها مناظر الأسواق في نشاطها كما نشاهدها الآن، هذه كما ذكرنا هي المصدر الوحيد لدينا عن المعاملات المصرية، والظاهر أن كل المناظر المعروفة من هذا القبيل كانت كلها خاصة بالضياع المأتمية التي كانت تتبادل فيها سكان هذه الجهات سلعهم، ولكن لا بد من أنه كان للمدن العظيمة أسواقها.
ونشاهد في هذه الأسواق أن الذين كانوا يحملون سلعًا ثقيلة الوزن كانوا يجلسون القرفصاء خلف سلالهم وقفافهم، وفي منظر واحد شاهدنا البائع جالسًا على مقعد مرتفع وأمامه سلعته ويأتي إليهم المشترون لشراء حاجاتهم، أما من خفت أحمالهم فيسيرون في أنحاء السوق ويتبادلون فيه سلعهم، ويمكننا أن نتصور منظر هذه الأسواق في أسواقنا الحالية بكل ما فيها من محاولات، ومكر ودهاء وتحيات وإغراء، ومشاغبات، كما صورها لنا الدككتور سليم حسن.
ولكنا نتساءل هنا هل يدل تمثيل كل هذه الأشياء على الجدران حقيقة على أن كل شارٍ في الوقت نفسه بائع، أو بعبارة أخرى إن النقود كانت على ما يظهر مجهولة، وإن الأسواق المصرية كانت تنحصر في مبادلات دون قوانين ودون تقاليد تجري على مقتضاها؟ إذا نظرنا إلى السوق المصرية وجدنا صاحب مكتل من البصل يقابله شخص آخر يريد أن يتخلص من مروحة، أو من قلادة وبائع قيثارات، أو أدوات للصيد يريد أن يبدل بها مأكولات وصانعًا يعطي قلادة بدلًا من نعلين، وامرأة تقدم لخاطبها قارورة من الروائح العطرية من صنع يدها، وبائع عصي من الخيزران وقد فرغ صبره أمام مشتر متردد، وبائع السمك ناشرًا سلعته أمام امرأة معها صندوق، وبائع مرايا يفخر بسلعته وبائع قرد يسوقه أمامه وبيده حبله الذي يقوده به، وبائع بصل يتأهب لمبادلة حزمة منه برغيف من الخبز المصنوع من الدقيق الجيد، (ولكن لا نعرف إذا كان المبادل يريد حقيقة بصلًا أو لا)، والظاهر أن النعال كانت سوقها رائجة، وعلى أية حال نشاهد في رسوم سقارة أن فلاحًا كان يبادل إسكافًا بكيل من الحبوب زوجًا من النعال، وقد كان كل منهما ينتظر صاحبه أو يبحث عنه وقد انتهى الأمر بإتمام الصفقة، كما جاء فى موسوعة مصر القديمة.
وفي الجملة كانت السوق العامة للأفراد رقيقي الحال المكان المختار لقيام المبادلات بينهم فيما يحتاجون إليه من المأكولات والمصنوعات، وقد كان سكان المدن يدخرون ما يكفيهم طيلة الأسبوع من الخضر، كما كان الفلاح يبيع ما عنده ويعود حاملًا معه قلادة جميلة، أو قارورة من العطر، أو حذاء ينتعله في الأعياد، ففي هذه الأحوال لم تكن الحاجة ماسة للمعاملة بالنقد، وتدل التجارب على أن محاصيل الحقل كانت تجد من يبادل بها من أصحاب الحرف والصناعات، وأن هؤلاء الآخرين كانوا متأكدين من أن يجدوا معامليهم من الصيادين والفلاحين. والواقع أن مثل هذه المعاملات لم يكن فيها ما يدعو للارتباك عندما تكون صغيرة القيمة أو قليلة العدد، حيث تكون الحاجة لها نطاق ضيق، وأنه يكفي لصنعها بعض المختصين لعدد محدود من الناس.
وعلى هذا يمكننا أن نجيب بأن المبادلات كانت موجودة في مصر ولا تختلف فيها عن البلاد الأخرى الفطرية قبل أن يدخل فيها التعامل بالنقود، ولا بد أن القوم كانوا قد وضعوا فيما بينهم بحكم العادة بعض قواعد للمبادلة، اللهم إلا في بعض سلع لم يجر عليها التعامل من قبل كانت تحتاج لأخذ ورد، ومناقشة ومساومة.