Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار وثقافة

عودة حميدة قصة قصيرة للدكتورة فاطمة مصطفى

ثقافة أول اثنين:


الآنسة حميدة أجمل فتيات الحي، ولا يقتصر الأمر على ذلك، فهى دائما متفوقة دراسيا وأيضا أنيقة وتصمم ملابسها بل وتحيكها بنفسها، وذلك فى أواخر سبعينيات القرن الماضى عندما كانت الملابس الجاهزة وأسعار الخياطين باهظة حتى أن الصديقات والجارات اعتقدن أن ملابسها مستوردة وكم تعجبن كيف لوالدها الموظف البسيط أن يغطى تلك النفقات الباهظة. 


 


أم عماد جارة الآنسة حميدة اكتشفت تلك المزايا الرائعة، وبدأت تحفز ابنها عماد وتلفت نظره إلى حميدة فى الشارع المجاور، وبالرغم أن عماد دائما لخمة ومرتبك مثلما كان والده لذلك قررت هى أن تتدخل وتمهد لزيارة تجمع الأسرتين واسترسلت أم عماد فى وصف هدوء عماد وحسن خلقه وتشجيع مديره وحبه له لأنه مجتهد ومخلص فى عمله، اشترط أبو حميدة ألا يتم الزواج إلا بعد أن تنتهى حميدة من امتحان الثانوية العامة.

 


فوجئ الجميع أن حميدة حصلت على مجموع كبير فى الثانوية العامة يؤهلها لدخول كلية الطب، فرح الأب وندم ندما شديدا أنه لم يشترط تأجيل الزواج حتى التخرج من كلية الطب، بعد مداولات ومناقشات عائلية بين الأسرتين توصلا إلى حل وسط يعطى حميدة الحق فى دخول كلية أربع سنوات بدلا من مشوار الطب الطويل، بكت حميدة كثيرا ولكنها رضخت بعد أن أقنعتها أمها أنها سوف تساعدها وتدعمها لكى تتفرغ لحضور المحاضرات والتفوق فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. 

 


بعد ستة أشهر من الزواج فوجئت حميدة أنها حامل، فرح عماد وأمه وإخوته، فرحت أم حميدة ووالدها وإخوانها، حميدة هى الشخص الوحيد الذى لم يفرح وزاد عدد ساعات نومها وبعد دخولها فى الشهر الرابع من الحمل بدأت فى استرداد عافيتها وداومت على حضور المحاضرات بشكل مكثف وصارت تستذكر دروسها بشكل مكثف لتعويض ما فاتها وأتمت جميع مهامها بنجاح ساحق بدرجة امتياز فى السنة الأولى ثم وضعت طفلا جميلا يشبهها أسماه عماد “حسين ” على اسم المرحوم والده. 


 


أشفقت حميدة على أمها من الحضور كل يوم إليها للعناية بالمولود، وقررت أن تحمل المولود كل يوم بنفسها إلى أمها ثم تذهب إلى الجامعة لحضور المحاضرات ثم تعود مسرعة حاملة ابنها ولوازمه لكى تبدأ إعداد الطعام قبل أن يعود عماد من عمله وبعدها تبدأ رحلة الاستذكار والتحصيل تاركة حسين مع عماد رغم أنفه وكثيرا ما كان يطلب أمه أن تأتى للاعتناء به.

 


بمرور الوقت كانت حميدة تحاول أن تعتنى بالرضيع مع المذاكرة حتى لا تضطر اللجوء إلى عماد وبالتالى لا تضطر إلى تحمل مجيء أمه وتدخلها فى كل كبيرة وصغيرة فى حياتها. 

 


فرح عماد لتخلصه من الالتزام الخانق نحو ابنه بالرغم من حبه الشديد له وولعه به، مرت الأيام ثقيلة وطاحنة على حميدة بينما العكس تماما على عماد إلى أن لاحظ أن حميدة تشكو من تقرح شديد بجلد اليدين فأشفق عليها من غسيل الأوانى والأطباق وغيارات الرضيع فكان يتقاسم معها تلك المهام وكان أحيانا يبادر بأداء المهمة كاملة. 

 


مضت شهور على ذلك الحال ولم تتحسن حالة حميدة فاقترحت أمها أن تذهب إلى طبيب أمراض جلدية، وفعلا ذهبت حميدة مع زوجها وحماتها، وهناك كانت الطامة الكبرى عندما استدرجها الطبيب وعرف منها أنها تغسل يديها يوميا بالماء والصابون من عشرين إلى ثلاثين مرة من باب النظافة والتعقيم والخوف على نفسها ورضيعها من الجراثيم … طلب الطبيب من حميدة أن تخرج من الغرفة بحجة رعاية رضيعها بالخارج حتى لا يزعجه أثناء كتابة الوصفة الطبية ويناولها لزوجها .. أصرت أم عماد ألا تخرج بحجة أنها تريد أن تعرف تفاصيل العلاج لكى تشرف بنفسها على علاج حميدة. 

 


بعد خروج حميدة من الغرفة فوجئ عماد وأمه أن الطبيب يطلب منهما ضرورة استشارة طبيب أمراض نفسية لأنها غالبا مصابة بوسواس النظافة القهرى و لا تستطيع أن تقاوم أعراضه إلا بتلك التصرفات الخارجة عن إرادتها … لطمت أم عماد خديها حزنا على حظ ابنها التعس، حاول الطبيب طمأنتها ورجاها ألا تظهر تلك المشاعر السلبية أمام حميدة، ناولهما الطبيب الوصفة الطبية لشراء الدهانات اللازمة وأقراص لمنع الحكة وأكد لهما للمرة الثانية ضرورة الذهاب إلى أخصائى أمراض نفسية. 

 


أصر عماد ألا تأتى أمه معهما إلى طبيب الأمراض النفسية، وجاءت أم حميدة بدلا منها، طمأنهم الطبيب وأكد صحة تشخيص الوسواس القهرى من قبل طبيب الأمراض الجلدية، وقال لعماد وأمها ضرورة تناول علاج دوائى لتنظيم كيمياء المخ والأهم من ذلك هو أن يفهم الجميع أن طبيعة حميدة دائما تنشد الكمال فى كل شيء وذلك يفسر تفوقها الدراسى بالرغم من أعبائها الجسيمة، وكذلك حرصها الدائم على محاولة الاستغناء عن مساعدة أمها أو حماتها لها لأنها تريد إنجاز جميع أعبائها بنفسها دون أى مساعدات خارجية، اقترح الطبيب ضرورة تأهيل حميدة نفسيا لاستيعاب مساعدة الآخرين لها حتى تتماثل للشفاء ويتم السيطرة تماما على أعراض الوسواس.

 


بدأت أم عماد تتبرم من إلقاء أى مسئوليات على عاتقها وندبت حظ ابنها الذى أوقعه فى زيجة من أسرة لديهم أمراض نفسية ويزورون أطباء نفسيين، اضطر عماد أن يعتمد فقط على نفسه وعلى أم حميدة فى دعم حميدة ومساندتها. 


استقرت حالة حميدة بعد ستة أشهر وانتهت جرعات الأدوية ولكن الوعكة التى مرت بها أثرت على تحصيلها الدراسى ونجحت فقط بتقدير جيد، أحزنها ذلك كثيرا وقررت ان تجتهد فى دروسها للعام المقبل أثناء أجازة الصيف عن طريق الاستعانة بخبرة أحد المعيدين بالكلية، سألت واستفسرت وعلمت أن الدكتور يحيى هو معيد مخضرم ومجتهد وذكى ولا يبخل على الطلبة بخبرته وعلمه، هو لم ينل الدكتوراه بعد ولكن الطلاب يلقبونه “بالدكتور ” لأنه محبوب ومتميز، ولذلك اعتاد الطلاب المقتدرين ماديا الاستعانة بقدراته فى الدروس الخصوصية أكثر من المعيدين الآخرين.

 


فى أول أسبوع من الإجازة علمت حميدة أن الدكتور يحيى يذهب تقريبا يوميا إلى الكلية ….فوجئ يحيى بفتاة جميلة جدا تطلب مقابلته، لم يستطع إخفاء ارتباكه لأنها نفس الصورة التى كانت دائما فى أحلام نومه ويقظته… العينان العسليتان ذوى عمق مستحيل سبره، وكم غمازات بوجهها لا يستطيع أن يحصيه من أول نظرة، فهو يحتاج أن يحملق ويتفحص لكى يتبين أيهم تنير وجهها عندما تضحك، وأيهم ساكنة، وأيهم تضيء وجهها عندما تبتسم، وما تلك البشرة الناعمة الخالية من بثور الشباب ويزينها حبة خال على الخد الأيسر فوق الغمازة اليسرى، وما هذا التاج الحريرى فوق هذا الرأس الحامل لكل ذلك الحسن.

 


أدركت حميدة ارتباكه ونظرات الانبهار المطلة من عينيه وكأنها ولأول مرة فى حياتها تكتشف أنها حقا جميلة، شعرت بسعادة غامرة وانتابتها رعشة جميلة لم تشعر بها من قبل عندما كان يغازلها أبناء الجيران والأقارب حتى أثناء فوران سن المراهقة، وبالرغم من أن الدكتور يحيى ليس على درجة عالية من الوسامة وبالرغم من شعورها بالقوة والسيطرة على الموقف بعد تلك النظرات المتولهة إلا أنها شعرت بضعف شديد نحوه .

 


شعرت حميدة بتأنيب ضمير شديد تجاه زوجها وابنها واعتبرت أن انجراف مشاعرها تجاه رجل أجنبى خيانة لكل منهما، بذلت مجهودا كبيرا لتعويضهما عن الحرمان بسبب رحيلها عنهما بوجدانها ومشاعرها، كانت تغدقهما بالعناية والاهتمام المبالغ وعبارات الحب والتدليل المزيفين تعويضا عن استغراقها الكامل بكل وجدانها ومشاعرها فى أحلام يقظة ممتعة مع يحيى تخدرها خدرا لذيذا يعينها على القيام بواجباتها الزوجية والأسرية دون أن تسقط مرة أخرى ضحية للوساوس القهرية كما سبق من قبل عندما تشتد عليها الضغوط والمتطلبات. 


 


استعاد الدكتور يحيى حيويته التى سلبها منه الزواج من ابنة عمه التى اختارتها له امه حين استعطفته وقالت له إنها بنت مؤدبة ويتيمة الأم ولا حول لها ولا قوة بعد وفاة أمها وزواج والدها من امرأة أصغر منه بسنوات كثيرة جعلتها تتدلل وتضع شروطها كيفما شاءت ويخضع لشروطها حتى لو أثرت بالسلب على ابنته …. تم الزواج وجاء طفلان واحداً تلو الآخر ويحيى يدور فى نفس المدار … كل الأيام متشابهة … إحساسه بالعمل مثل إحساسه بالعطلات، فقط إحساسه بالنوم هو أجمل ما فى الحياة ويسعى دائما إلى إطالة ساعاته ولكن بعد زيارات حميدة له فى المكتب ظلت أحلام اليقظة السعيدة تلح عليه ليلا ونهارا والعجيب أنه مستمتع بساعات اليقظة الطويلة ويهرب من النوم لأنه لا يضمن أن تزوره خلال ساعاته القليلة بينما خلال اليقظة هو المسيطر ويستطيع دوما أن يستحضرها كلما شاءت الظروف. 

 


أدركت حميدة كما أدرك الدكتور يحيى أن ما بداخلهما لا يلحظه أحد سواهما وبالرغم ان كلاهما لم يبح للآخر بالكلمات إلا أن العيون تلاقت وتكلمت وباحت بالمكنون كله حتى فاض وأغرقهما فى بحر من المشاعر الجميلة الجياشة كما لو كانا كلاهما فى خضم مرحلة المراهقة بكل اندفاعها وجنونها حتى كاد أن يكتشف أمرهما من قبل المحيطين بهما سواء الطلاب أو المعيدين، وبعدها قررا أن يلتقيا فى الكافيتريات الأخرى البعيدة عن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.


 


طلب يحيى أن يتزوجها ليثبت لها حسن نواياه ولتأكيد حبه لها بعد أن أقنعها أن زوجته وابنة عمه لا يستطيع أن يطلقها لأنها وحيدة ويتيمة وأم أولاده كما أن الشرع يجيز له التعدد، أما الطامة الكبرى هو أنه حاول جاهدا أن يقنعها بأن تترك وليدها لأمها أو لعماد وأمه لأنه بالتأكيد بعد طلبها الطلاق منه غالبا سيتزوج بعدها وستقوم أمه وأمها بتربية الطفل .


كانت لقاءات حميدة ويحيى الخاطفة تلهب وخزات ضميرها مما جعلها تجتهد فى إرضاء كل من حولها، ابنها وعماد وأمه، الشخص الوحيد الذى فشلت فى إرضائه هو فقط .. حميدة. 


 


لم تنم حميدة ليالى طويلة، تؤرقها أفكار سوداء وتحولت أحلام اليقظة الجميلة إلى كوابيس مزعجة وبين عشية وضحاها اكتشفت أنها تغتسل يوميا مرات عديدة أما غسيل اليدين فقد فاق الحدود وبدأت تشعر وترى التقرحات تزداد بشكل مضطرد، انزعجت كثيرا وأصابها ذعر عندما قالت لها أمها إنها تبالغ فى شطف وتنظيف أيدى طفلها وعندئذ قررت أن تزور الطبيب النفسى مرة أخرى دون أن تخبر عماد أو حتى أمها لأنها شعرت أنها تريد أن تتحدث مع الطبيب بصراحة وحرية تامة.

 


بدون أن تشعر اعترفت للطبيب بعلاقتها بيحيى وقالت له إنها ليست زوجة خائنة لأنها سوف تطلب الطلاق وتبدأ حياة جديدة مع الشخص الوحيد الذى انجذبت له وأحبته من أول لقاء ولأنه الشخص الوحيد الذى تشعر بسعادة فى وجوده لأنه يشعرها بأنوثتها و…. و….


 


أعطاها الطبيب العقار السابق لكى يخفف عنها أعراض الوسواس القهرى وغسيل اليدين وأعطاها كذلك عنوان أخصائى ومحلل نفسى وطلب منها التمهل فى طلب الطلاق وتنتظر حتى تنتهى من جلسات المحلل النفسى 


 


فى أول جلسة من التحليل النفسى طلب الأخصائى منها التوقف عن مقابلة يحيى وأن تنقطع عن الدراسة والذهاب إلى الكلية لمدة ثلاثة أسابيع متواصلة، وعليها أن تطلب من الطبيب النفسى المعالج إجازة مرضية تقدمها لشؤون الطلبة، فى نهاية الجلسة طلب منها الالتزام بدواء الوسواس القهرى كما طلب منها كتابة كل ما سردته له فى الجلسة ولكن بعد ثلاثة أسابيع من تاريخه، وأعطاها موعدا يتوافق مع اليوم التالى لسرد الأحداث كتابيا كما طلب منها.


 


 علم يحيى بإجازة حميدة وساوره الشك أنها ليست مريضة وربما عرف زوجها بعلاقتهما ومنعها من الخروج وتمنى أن تكون حميدة قد تشجعت وطلبت الطلاق وذهبت إلى بيت أهلها حتى يتم الطلاق وبعد انتهاء عدتها يستطيع أن يطلبها للزواج لتكتمل سعادتهما، لم يقلقه كثيرا وقع تأثير المفاجأة على زوجته وابنة عمه فهى دائما يساورها الشك أنه سوف يفعلها يوما ما إن عاجلا أو آجلا وكم من مرة صرحت له بتلك المخاوف ولكنه كان دائما يطمئنها أنها أم أولاده ولا يمكن الاستغناء عنها أبدا. 


مر أول أسبوع من إجازة حميدة ببطيء شديد وفى نهاية الأسبوع الثالث بدأت تسترجع كل ما قالته للمحلل النفسى لكى تدونه كما طلب منها، أثناء تدوينها وقفت عند جملة يحيى “زوجتى هى ابنة عمى ويتيمة وهى أيضا أم أولادى والشرع يجيز لى التعدد لذلك لا داعى لتطليقها”.


 


بعد كتابتها الجملة السابقة شعرت بنبضات قلبها تسرع بشدة وانتابها شعور بالغثيان وعرق بارد غزير وتذكرت عبارة يحيى “بعد طلبك الطلاق يمكنك أن تتركى طفلك مع أمك أو مع عماد وأمه”، عندما همت بكتابة تلك العبارة انسابت من عينيها دموع حارة وغزيرة مزقت بعدها كل ما كتبته وقررت أن تذهب فى اليوم التالى إلى المحلل النفسى بدون أن تكتب ما طلب منها.. بعدها شعرت براحة شديدة ونامت نوما عميقا لم تنمه منذ شهور طويلة. 


فى اليوم التالى ذهبت إلى المحلل النفسى فى الزيارة الثانية المتفق عليها:


أهلًا حميدة كيف حالك؟


الحمد لله 


أين مدوناتك ؟


بعد أن كتبتها لم أستطع استكمالها ..بل ومزقتها 


عودة حميدة يا حميدة!!


؟؟؟


أهنئك لقد شفيتى من وسواسين قاهرين فى آن واحد .


وسواسين ؟ قاهرين؟


نعم … وسواس النظافة والأهم منه وسواس الحب … ألف مبروك عودة حميدة … مش عايز أشوفك هنا تاني


أنا متأكدة .. إن شاء الله دى حتكون تانى وآخر مرة… أشكرك 


أنا ما عملتش حاجة … أنت قوية وعملتى كل حاجة بنفسك … أنا فقط فتحت باب عقلك لأنه كان مغلق وقلبك كان واقف عليه حارس 


لم يكن حارسا… بل سجانا… الحمد لله 


 


خرجت حميدة من عيادة المحلل النفسى ولم تعد أبدا


 


 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى