Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار وثقافة

خالد دومة يكتب: العُزلة المباركة

ثقافة أول اثنين:


كانت العزلة: هي الشىء الوحيد الذى آلفه، وأستريح إليه، وأجعل له طقوسا، لا أتعداها. كلفتنى هذه الطقوس، أياما كثيرة، فهى الآن تملى علي ما أفعل، ولا أدرى هل كانت هروبا من شىء؟ أم كانت طبيعة نفسية؟ نابعة من ذاتي، ولعل السببين كانا معا، لا أدري؟


لم تكن شاقة، ما كان شاقا، هو مخالفتها، أو الإنحراف عن قاعدة من قواعدها، لكنها كانت في حد ذاتها متعة، حيث أكتشفت فيها أشياء، لم أكن لأكتشفها، لولا هذه العزلة المباركة، التي تفتح لك مغاليق الأشياء، قبل مغاليق النفوس. الموقف الواحد، الذي تمر به، حين تعيد سرده على نفسك، تراه من مناظير أخرى، ووجوه كثيرة، تخرج منه بمئات العبر والعظات والمعلومات، لولا وقوفك عليها، واسترجاعك لها في ذهنك، لما كانت ماثلة عارية أمامك، فوجوه الناس على حقيقتها لا تبدو لك من الوهلة الأولى، أو اللقاءات العابرة المعتادة، حين تخلو بنفسك، وتتمعن في الوجوه في ذاكرتك وتعيد قراءتها، تجد وجوها أخرى وعلامات ودلائل لا تنتهي، وشيئا فشيئا ترى الوجوه، وقد تبدلت وتحولت، إلى أشياء أخرى، كانت اللحظات خارج نطاق العزلة، وفي الوقت القصير، الذي تقضيه خارجها، يوحي لك بأمور كثيرة، فتقضي الساعات الطوال في البحث والتحليل والتدقيق، حين تنفذ بعقلك إلى بطون الأشياء وجوهرها المحجوبة عن العين، المكشوفة للروح، والتي تحاول أن تبدو من الخارج في أكمل صورة، والتي تداري القبح الكامن في أعماق النفوس، وقد تحتار في البداية، من التناقض الواضح في كلتا الموقفين، ولكن سرعان ما تتتضح لك الحقائق بارزة، دون مواربة ودون حجاب.


العزلة ليست كما يظن الكثير من الناس، عالم مقفل، ظلام يحيط بالإنسان، لا رؤية ولا شيء سوى الألم النفسي، الذي تبعثه على ما فيها من بُعد، ورفض للحياة والأحياء، إنه اعتراض أو احتجاج من النفس، على عدم مصالحتها للناس، لأنهم لا يروقوا لها، ولا تتقارب معهم، ولا تستطيع أن تتحملهم، أو يتحملوها، فهي تأخذنا جانبا، وتسلك طريقا أخر، غير طريقهم، تحفر في الأرض كهفا، أو بئرا، ثم تعيش فيه، بعد أن تُطليه باليأس والنفور، أوهكذا ما يعتقد الأخرون من العزلة، لا يفهمون الواقع، ولا يعرفون الحقيقة، إذ إنها بعيدة عنه، هذا العالم لم يدخلوه، ولم يقتربوا منه، وهم على مسافة بعيدة منه، فأنّى لهم يطلقوا أحكامهم عليها؟ كأنها حقائق ثابته لا تتغير، أو قوانين لا جدال فيها، أو أنها أحكام شرعية، تستمد قوتها من الدين والعقيدة، فلا نقاش ولا جدال، تبحث في القوانين، في الشرائع، في الحقائق الثابتة، فلا شيء من هذا كله، ولا قريب منه، وكل ما يتداول إنما هو خيال، لا حقيقة، ولا منطق، إنها أوهام ساكنة في عقول الجموع الحاشدة، وإنها توارثتها كما توارثتها الأجيال السابقة، فإذا ما دخلت هذا العالم السحري، وجدت فيه الكثير، مما خفي على الناس، وإنه غير ما يقولون، وإنما كلامهم عن غفلة، وإنهم لو علموا ما به، لفروا إليه، لِمَا له من جمال وسعة، إنه ليس عالما ضيق، أو كهف مظلم، أو مرض، يلجأ إليه ذوي النفوس الضعيفة، في مجابهة الحياة ومواجهتها، ليس هذا صحيحا، إنما هو من السعة بمكان، عالم فريد، بل هو ليس عالما واحدا، إنما هو عوالم كثيرة، تكتشفها وتلتقي بها، عالم ظاهر، وعالم خفي، عالم خارجك، وعالم داخلك، عالم الجسد والمادة، وعالم الروح، التي تشع به نفسك، ندخل إلى هذه العوالم، ونتعجب كيف جهل الناس كل هذا الجمال الأبدي، آه لو يعلموا، لفرُّوا إليه بكل كِيانهم، لزاحموا فيه، لقتتلوا ليدخلوه بإرادتهم، وكان جهادا أعظم لكل نفس، أن تهرب إلى هذا العالم.


وأرفع ما في العزلة، أن يقف الإنسان عارياً أمام نفسه، أن يراها على حقيقتها دون حجاب أو خوف، دون رياء، دون أن يحجبه صخب الناس وأصواتهم العالية، التي تُشوش وتعكر صفو فكره، تعرفها عن قرب، تُحادثها فيما يواجهك، تأخذ رأيها وتصْدُقك النُصح والإرشاد، إنك في غير عزلتك تائه، لا شاطيء، إنما هي الأمواج العاتية، تريد الخلاص منها، في خضم أمواجها المتلاطمة الشرسة، أما هناك فأنت أمامها، لا شك صافي النفس من أكدارها، تنبئك نبأها، وعلى شيء من التؤدة والهدوء، يكون لقرارك رسوخ ومعنى، ووجهة تعلمها، وتدفعها نحوه. في العزلة أيضا، شاعرية، وتناسق لموسيقى الروح، لا تجدها وأنت بين الناس، وفي خضم الدوامة، التي تحتوي الجميع، فلا تدرك ولا تصل إلى أغوارك السحيقة، تسمح بشيء من الفهم العميق، والرؤية الدقيقة الحساسة، تتكشف لك الأشياء كما خلقها الله، بعد أن تلقي بوجوهها المستعارة بعيدا، فترتمي في أحصانك، تبُثك لواعجها، وما يألمها ويعتريها من عيون الناس، وأفواههم، لعلك تكتشف نفسك من جديد، تعيد أكتشاف ذاتك، التي طالما كنت تحسها من على البعد، فتبحث ولكن جهدك يذهب سدى، بلا طائل ولا نتيجة، وبعد بحث طويل تجد أنك هنا، في هذا العالم، فقط تعثر على ما كنت تريد، أو ما خفي عنك سنوات وسنوات، إنك بين كتاب ممتع، أو لحن رائع، أوفكرة تقلبها على مئات الوجوه، أو خيال يطوف بك حول العالم، يزودك بحيوات جديدة، لم تخطر ببالك، لولا عُزلتك المنبوذة من الأخرين، ولا يعرفون قيمتها، إنك هناك، أنت غني، أنت أغنى الأغنياء، تملك الغنى السرمدي، الذي لا ينقطع بإنقطاع العالم، إنما هو يظل حتى بعد أن تموت، بعد أن امتلأت النفس والروح منه، فإذا صعدت، صعدت موفور الغنى، وإذا ما صعدوا، علموا فقرهم، فقر نفوسهم وأرواحهم، وهي خاوية، من كل معنى شريف، مكتظة بكل معنى خسيس، ومنتفخة، جوفاء امتلأت أجسادهم ضخامة، وهي بعد مرتع لديدان الأرض والهوام والحشرات، صاعقة تكتنفهم، ضلوا من حيثوا أرادوا البناء، بنوا في غير أرواحهم، فقيرة هي، لا تملك شيء، كان الوجود كله فيما استنقصوا، وفيما ظنوا أنه لا شيء، بطونهم أحتكرت وأستحكمت وقادتهم إلى اللا شيء، واللا منتظر، قادتهم إلى صحراء قاحلة، إلى الظمأ الأبدي، ظمأ الروح، أوهمتهم أن هذا هو الطريق، إنهم على الخُطَا الصحيحة، فإذا بهم تحت الأنقاض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى