تأملات في سيرة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم
تأملات في سيرة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن سيرة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم من السير العميقة؛ لما كان عليه هذا الرجل من محبة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه، ولكنه لم يوفق للهداية ومات على الكفر.
وكان أبو طالب واسمه عند الجميع عبد مناف بن عبدالمطلب بن هاشم الهاشمي القرشي، وهو والد علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين، وكان منيعًا عزيزًا في قريش، وسيدًا شريفًا مطاعًا مهيبًا، ولد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وثلاثين سنة، وكان شقيق عبدالله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أوصى به عبدالمطلب عند موته، فكفَله إلى أن كبر، واستمر على نصره بعد أن بعث، وكان يذُب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويرد عنه كلَّ من يؤذيه، وأخباره في حياته والذب عنه معروفة، ومما اشتهر من شعره في ذلك قوله:
وَاللهِ لَن يَصِلوا إِلَيكَ بِجَمعِهِم
حَتّى أُوَسَّدَ في التُّرابِ دَفينًا[1]
|
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم بمدائح عدة، منها قوله لما استسقى أهل مكة فسقوا:
وأبيضَ يُسْتَسْقَى الغَمامُ بوجههِ
ثِمالُ اليتامى عِصْمةٌ للأراملِ
|
ومنها قوله في قصيدة له:
شَقَّ لَهُ مِنِ اسمِهِ كَي يُجِلَّهُ
فَذو العَرشِ مَحمودٌ وَهَذا مُحَمَّدُ
|
قال ابن عيينة عن علي بن زيد: ما سمعت أحسن من هذا البيت.
ولَما اتفقت قريش وتعاهَد كبارهم على حصار بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، وأن يضيقوا عليهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل.
قام أبو طالب في أهل بيته من بني هاشم وبني المطلب، ودعاهم إلى ما هو عليه من منع ابن أخيه وحياطته والقيام دونه، فأجابوا إلى ذلك وأجمعوا أمرهم على أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم شِعب[2] بني هاشم، ويمنعوه ممن أراد قتله، فأجابوا لذلك، فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه حتى كفارهم دخلوا الشِّعب حَميةً للرحم والقرابة، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا أبو لهب بن عبد المطلب، فقد انحاز إلى قريش وفارق بني هاشم وبني المطلب. وكان أبو طالب يخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى فراشه حتى يراه من أراد به مكرًا فإذا نام الناس، أخذ أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه، فأضجعه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فُرشهم فيرقُد عليها[3].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على هدايته غاية الحرص، فلما بايع أبو قحافة والد أبي بكر الصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يُبْكيكَ؟» قال رضي الله عنه: لأن تكونَ يدُّ عمِّك مكانَ يدِه، ويسلمُ ويُقرُّ اللهُ عينَك أحبُّ إليَّ من أن يكون[4].
واستمر أبو طالب في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه إلى وفاته.
روى البخاري ومسلم من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه قال: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَالِبٍ: «يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ»، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُاللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِالمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ المَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِالمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]، وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56][5].
وفي رواية أنه قال: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ، لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ[6].
قال أبو طالب في شعره:
لَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ
مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلاَ المَلامَةُ أَو حَذَارِ مَسَبَّةٍ
لَوَجَدْتَني سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا
|
وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد أسلم وحسُن إسلامه في آخر حياته[7]، أما أبو جهل الطاغية المعروف فقد قُتل يوم بدر على الكفر.
قال ابن كثير رحمه الله: وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدفع عنه وعن أصحابه، وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها، وما تضمنته من العيب والتنقص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تُداني ولا تُسامي ولا يُمكن لعربي مقاربتها ولا معارضتها، وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يقدِّر الله له الإيمان، لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها والتسليم لها، ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين، لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه؛ ا.هـ[8].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] فتح الباري (7/ 591).
[2] الشعب هو ما انفرج بين جبلين. انظر: لسان العرب (7/ 128).
[3] انظر: دلائل النبوة لأبي تميم (1/ 273).
[4] أورد هذا الحديث الحافظ في الإصابة (7/ 199) وعزاه إلى عمر بن شبه النميري في كتاب مكة وصحح إسناده.
[5] صحيح البخاري برقم (3884)، وصحيح مسلم برقم (24) واللفظ له.
[6] صحيح مسلم برقم (25).
[7] انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 36).
[8] البداية والنهاية (4/ 314-315) بتصرف.