أحداث مهمة وقعت فى سنة 256 هجرية .. ما يقوله التراث الإسلامي
ثقافة أول اثنين:
اشتدت الأمور فى سنة 256 هجرية بعد موت الخليفة المعتز، وتولى الخليفة المهتدي بعده، وما جرى بعد ذلك من أحداث كبرى، فما الذي يقوله التراث الإسلامي فى ذلك؟
يقول كتاب البداية والنهاية للحافظ بن كثير تحت عنوان “ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين”:
في صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من المحرم قدم موسى بن بغا الكبير إلى سامرا، فدخلها في جيش هائل قد عباه ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين، فأتوا دار الخلافة التي فيها المهتدى جالسا لكشف المظالم، فاستأذنوا عليه فأبطأ الإذن ساعة، وتأخر عنهم فظنوا في أنفسهم أن الخليفة إنما طلبهم خديعة منه ليسلط عليهم صالح بن وصيف، فدخلوا عليه هجما فجعلوا يراطنونهم بالتركي، ثم عزموا فأقاموه من مجلسه وانتهبوا ما كان فيه، ثم أخذوه مهانا إلى دار أخرى، فجعل يقول لموسى بن بغا: مالك ويحك؟
إني إنما أرسلت إليك لأتقوى بك على صالح بن وصيف.
فقال له موسى: لا بأس عليك أحلف لي أنك لا تريد بي خلاف ما أظهرت.
فحلف له المهتدي، فطابت الأنفس وبايعوه بيعة ثانية مشافهة، وأخذوا عليه العهود والمواثيق أن لا يمالئ صالحا عليهم، واصطلحوا على ذلك.
ثم بعثوا إلى صالح بن وصيف ليحضرهم للمناظرة في أمر المعتز ومن قتله صالح بن وصيف من الكتاب وغيرهم، فوعدهم أن يأتيهم، ثم اجتمع بجماعة من الأمراء من أصحابه وأخذ يتأهب لجمع الجيوش عليهم، ثم اختفى من ليلته لا يدري أحد أين ذهب في تلك الساعة، فبعثوا المنادية تنادي عليه في أرجاء البلد وتهددوا من أخفاه، فلم يزل مختفيا إلى آخر صفر على ما سنذكر، ورد سليمان بن عبد الله بن طاهر إلى نيابة بغداد، وسلم الوزير عبد الله بن محمد بن يزداد إلى الحسن بن مخلد الذي كان أراد صالح بن وصيف قتله مع ذينك الرجلين، فبقي في السجن حتى رجع إلى الوزارة.
ولما أبطأ خبر صالح بن وصيف على موسى بن بغا وأصحابه قال بعضهم لبعض: اخلعوا هذا الرجل – يعني الخليفة -.
فقال بعضهم: أتقتلون رجلا صواما قواما، لا يشرب الخمر، ولا يأتي الفواحش؟
والله إن هذا ليس كغيره من الخلفاء، ولا تطاوعكم الناس عليه، وبلغ ذلك الخليفة فخرج إلى الناس وهو متقلد سيفا، فجلس على السرير واستدعى بموسى بن بغا وأصحابه فقال: قد بلغني ما تمالأتم عليه من أمري، وإني والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط وقد أوصيت أخي بولدي، وهذا سيفي، والله لأضربن به ما استمسك قائمه بيدي، والله لئن سقط من شعري شعرة ليهلكن بدلها منكم، أو ليذهبن بها أكثركم، أما دين؟ أما حياء؟
أما تستحيون؟ كم يكون هذا الإقدام على الخلفاء، والجرأة على الله عز وجل، وأنتم لا تبصرون؟
سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم والسيرة الصالحة فيكم، ومن كان يدعو بأرطال الشراب المسكر فيشربها بين أظهركم وأنتم لا تنكرون ذلك، ثم يستأثر بالأموال عنكم وعن الضعفاء، هذا منزلي فاذهبوا فانظروا فيه وفي منازل إخوتي ومن يتصل بي، هل ترون فيها من آلات الخلافة شيئا، أو من فرشها أو غير ذلك؟
وإنما في بيوتنا ما في بيوت آحاد الناس، ويقولون: إني أعلم علم صالح بن وصيف، وهل هو إلا واحد منكم؟
فاذهبوا فاعلموا علمه فابلغوا شفاء نفوسكم فيه، وأما أنا فلست أعلم علمه.
قالوا: فاحلف لنا على ذلك، قال: أما اليمين فإني أبذلها لكم، ولكن أدخرها لكم حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب في غد إذا صليت صلاة الجمعة.
قال: فكأنهم لانوا لذلك قليلا.
فلما كان يوم الأحد لثمان بقين من صفر ظفروا بصالح بن وصيف فقتل وجيء برأسه إلى المهتدي بالله، وقد انفتل من صلاة المغرب، فلم يزد على أن قال: واروه.
ثم أخذ في تسبيحه وذكره.
ولما أصبح الصباح من يوم الاثنين رفع الرأس على رمح ونودي عليه في أرجاء البلد.
هذا جزاء من قتل مولاه.
وما زال الأمر مضطربا متفاقما، وعظم الخطب حتى أفضى إلى خلع الخليفة المهتدي وقتله – رحمه الله -.
خلع المهتدي بالله وولاية المعتمد أحمد بن المتوكل
لما بلغ موسى بن بغا أن مساور الشاري قد عاث بتلك الناحية فسادا، ركب إليه في جيش كثيف ومعه مفلح وبايكباك التركي، فاقتتلوا هم ومساور الخارجي ولم يظفروا به بل هرب منهم وأعجزهم، وكان قد فعل قبل مجيئهم الأفاعيل المنكرة فرجعوا ولم يقدروا عليه، ثم إن الخليفة أراد أن يخالف بين كلمة الأتراك فكتب إلى بايكباك أن يتسلم الجيش من موسى بن بغا ويكون هو الأمير على الناس وأن يقبل بهم إلى سامرا، فلما وصل إليه الكتاب أقرأه موسى بن بغا فاشتد غضبه على المهتدي، واتفقا عليه وقصدا إليه إلى سامرا، وتركا ما كانا فيه. فلما بلغ المهتدي ذلك استخدم من فوره جندا من المغاربة والفراغنة والأشروسية والأرزكشبية والأتراك أيضا، وركب في جيش كثيف فلما سمعوا به رجع موسى بن بغا إلى طريق خراسان، وأظهر بايكباك السمع والطاعة، فدخل في ثاني عشر رجب إلى الخليفة سامعا مطيعا، فلما أوقف بين يديه وحوله الأمراء والسادة من بني هاشم شاورهم في قتله فقال له صالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور: يا أمير المؤمنين لم يبلغ أحد من الخلفاء في الشجاعة ما بلغت، وقد كان أبو مسلم الخراساني شرا من هذا وأكثر جندا، ولما قتله المنصور سكنت الفتنة وخمد صوت أصحابه.
فأمر عند ذلك بضرب عنق بايكباك ثم ألقى رأسه إلى الأتراك، فلما رأوا ذلك أعظموه وأصبحوا من الغد مجتمعين على أخي بايكباك طغوتيا، فخرج إليهم الخليفة فيمن معه فلما التقوا خامرت الأتراك الذين مع الخليفة إلى أصحابهم وصاروا إلبا واحدا على الخليفة، فحمل الخليفة فقتل منهم نحوا من أربعة آلاف ثم حملوا عليه فهزموه ومن معه، فانهزم الخليفة وبيده السيف صلتا وهو ينادي: يا أيها الناس انصروا خليفتكم.
فدخل دار أحمد بن جميل صاحب المعونة، فوضع فيها سلاحه ولبس البياض وأراد أن يذهب فيختفي، فعاجله أحمد بن خاقان منها فأخذه قبل أن يذهب، ورماه بسهم وطعن في خاصرته به، وحمل على دابة وخلفة سائس وعليه قميص وسراويل حتى أدخلوه دار أحمد بن خاقان، فجعل من هناك يصفعونه ويبزقون في وجهه، وأخذ خطه بستمائة ألف دينار، وسلموه إلى رجل فلم يزل يجأ خصيتيه ويطأهما حتى مات – رحمه الله – وذلك يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب.
وكانت خلافته أقل من سنة بخمسة أيام، وكان مولده في سنة تسع عشرة، وقيل خمس عشرة ومائتين، وكان أسمر رقيقا أحنى حسن اللحية يكنى أبا عبد الله.
وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد، ودفن بمقبرة المنتصر بن المتوكل. قال الخطيب: وكان من أحسن الخلفاء مذهبا، وأجودهم طريقة، وأكثرهم ورعا وعبادة وزهادة.
قال: وروى حديثا واحدا قال: حدثني علي بن هشام بن طراح، عن محمد بن الحسن الفقيه، عن ابن أبي ليلى – وهو داود بن علي- عن أبيه عن ابن عباس قال:
قال العباس: يا رسول الله ما لنا في هذا الأمر؟
قال: “لي النبوة ولكم الخلافة، بكم يفتح هذا الأمر وبكم يختم”.
وقال للعباس: «من أحبك نالته شفاعتي، ومن أبغضك لا نالته شفاعتي”.
وكان يحب الاقتداء بما سلكه عمر بن عبد العزيز الأموي في خلافته من الورع والتقشف وكثرة العبادة وشدة الاحتياط، ولو عاش ووجد ناصرا لسار سيرته ما أمكنه، وكان من عزمه أن يبيد الأتراك الذين أهانوا الخلفاء وأذلوهم، وانتهكوا منصب الخلافة.
خلافة المعتمد على الله
وهو أحمد بن المتوكل على الله ويعرف بابن فتيان، بويع بالخلافة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب في هذه السنة في دار الأمير يارجوخ وذلك قبل خلع المهتدي بأيام، ثم كانت بيعة العامة يوم الاثنين لثمان مضت من رجب، قيل: ولعشرين بقين من رجب دخل موسى بن بغا ومفلح إلى سر من رأى، فنزل موسى في داره وسكن وخمدت الفتنة هنالك، وأما صاحب الزنج المدعى أنه علوي فهو محاصر للبصرة والجيوش الخليفية في وجهه دونها، وهو في كل يوم يقهرهم ويغنم أموالهم وما يفد إليهم في المراكب من الأطعمة وغيرها، ثم استحوذ بعد ذلك على الإبلة وعبادان وغيرهما من البلاد وخاف منه أهل البصرة خوفا شديدا، وكلما لأمره في قوة وجيوشه في زيادة، ولم يزل ذلك دأبه إلى انسلاخ هذه السنة.
وفيها خرج رجل آخر في الكوفة يقال له: علي بن زيد الطالبي، وجاء جيش من جهة الخليفة فكسره الطالبي واستفحل أمره بالكوفة وقويت شوكته، وتفاقم أمره.
وفيها وثب محمد بن واصل التميمي على نائب الأهواز الحارث بن سيما الشرابي، فقتله واستحوذ على بلاد الأهواز.
وفي رمضان منها تغلب الحسن بن زيد الطالبي على بلاد الري فتوجه إليه موسى بن بغا في شوال، وخرج الخليفة لتوديعه.
وفيها كانت وقعة عظيمة على باب دمشق بين أماجور نائب دمشق – ولم يكن معه إلا قريب من أربعمائة فارس – وبين ابن عيسى بن الشيخ، وهو في قريب من عشرين ألفا، فهزمه أماجور وجاءت ولاية من الخليفة لابن الشيخ على بلاد أرمينية على أن يترك أهل الشام، فقبل ذلك وانصرف عنهم.
وفيها حج بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور، وكان في جملة من حج أو أحمد بن المتوكل.